السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، انتشرت في السنوات الأخيرة عدة طرق وعلاجات بديلة، وأريد أن أعرف حكمها الشرعي بشكل واضح، وكيف أفرق بين الصحيح والباطل فيها:
- قانون الجذب والذبذبات: كتابة الأهداف بصيغة الحاضر وكأنها تحققت، أو تكرار كتابتها بعدد معين يومياً، والتعامل النفسي كأن المطلوب تحقق بالفعل.
- التأمل (Meditation): تفريغ العقل من الأفكار تماماً، أو التركيز فقط على التنفس (شهيق وزفير)، أو التركيز على شيء واحد وإبعاد باقي الأفكار، وأحياناً يبدؤون بذكر الله أو قراءة القرآن في أول التمرين. فهل هذا نوع من السماح للشيطان بالدخول للعقل؟ وهل تدبّر النبي ﷺ كان تفكراً وتأملاً في خلق الله، لا تفريغاً للعقل؟
- الطب الشعوري (Psychosomatic): الاعتقاد بأن كل مرض له سبب شعوري، مثل: السكري بسبب فقدان معنى في الحياة، تسوس الأسنان بسبب مشاكل مادية… إلخ.
- علاج صدمات الطفولة: الادعاء أن كل مشكلة سببها صدمة في الطفولة، والعلاج يكون باسترجاع أول موقف سبّب المشكلة، وإعادة عيش المشاعر وربما البكاء أو الاسترجاع عبر تسجيل صوتي فيه توجيهات (استرخي، تخيل نفسك صغيراً…).
- تقنية السماح بالرحيل: تركيز الإنسان على الشعور السلبي فقط من غير أي أفكار حتى يزول تدريجياً ويُقال إنه تحرر من المشاعر السلبية.
- جرح الأب والأم: يُقال إن كل إنسان يحمل جرحاً من أبيه أو أمه بسبب معاملة أو كلمة في الصغر، وأن علاجه يكون بالاعتراف بهذا الجرح، ثم التسامح مع الوالدين ليتشافى.
- التشاركات والكَارما: الاعتقاد أن ما يفعله الإنسان يعود إليه (إن خيراً فخير وإن شراً فشر) كقانون كوني، ويُربط هذا أحياناً بعلاجات الطاقة.
- العلاج بالطاقة: ما يسمى بتحريك أو ضبط “الطاقة الداخلية” أو “الشاكرات” من أجل الشفاء الجسدي أو النفسي.
فهل هذه الأمور تعتبر من العلاج النفسي المباح؟ أم أنها داخلة في أمور محرمة أو تقع تحت الشرك؟ وكيف يمكن للإنسان أن يفرق بين الصحيح والخطأ فيها؟ وجزاكم الله خيراً وبارك فيكم.
الجواب:
وعليكم سلام الله ورحمته وبركاته، جزانا وإياكم خير الجزاء وبارك عليكم.
بداية، إن ما يطلق عليه العلاجات الروحية في أساسها ليست جديدة أو وليدة العصر الحديث وإنما وجودها منذ القدم، والاختلاف فقط في المسميات بين الماضي والحاضر، إذ أن بعضها له أصل حقيقي كالتأمل ولكنه قد تم تحريفه بتوجيهه إلى الشرك بالله تعالى، وأكثرها يعتمد على الزيف والخيال ويعود أصله إلى السحر حيث يتشابه معه في المضمون والهدف من سيطرة المعالجين على المرضى واستغلالهم.
وقد تحدث القرآن الكريم عن كل هذه الأمور إما بشكل مباشر أو ضمني، فإن تحدثنا عن الأمور الحقيقية التي تم تحريفها نجد:
- التأمل الذي أُخذ من النظر والتفكر في ملكوت الله تعالى، والذي دعا إليه سبحانه في كتابه الكريم حين أثنى على عباده المتفكرين:
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ آل عمران (191)
وذلك لما له من أثر كبير في حياة الإنسان؛ فالنظر والتفكر أولى سبل معرفة وإدراك قدرة الخالق العظيم الذي يترتب عليه الحذر والرجاء حين يستشعر المؤمن بمدى قدرته تعالى فيحذر الآخرة ويرجو رحمته بالبعد عن الذنوب والخطايا والإسراع بالتوبة ولذا يدعو ربه:
﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
وليس هذا فحسب وإنما ينعكس على نفس المؤمن في بث اليقين والتسليم ومن ثَم يُذهب الخوف والقلق الذي قد يصيبه من متاعب الدنيا؛ وذلك حين يرى بعينيه كيف يُسير الله تعالى هذا الكون العظيم ويدبر شؤونه فيدرك أنه سبحانه سيدبر أمره كما يدبر أمر السماء إلى الأرض، وقادر على أن يبدل حاله من العسر إلى اليسر ما بين عشية وضحاها فيطمئن قلبه ويسكن روعه ويتوكل عليه حق توكله.
- والتفكر في كونه تعالى يتزامن مع التدبر في كتبه، وكما تُلهم الطبيعة الإنسان الشعور بقوة وعظمة خالقه فإن التدبر في كتابه يُلهمه سبل السلام في كل شئون حياته.
أما ما تم تحريفه في التأمل فهو نقل التفكر والتدبر إلى ما يُسمى بعملية إفراغ العقل وتركيزه على شيء محدد، وهي عملية يتوهم فيها الشخص أنه قد تخلص من أفكاره السلبية خلال الجلسة، وكي تتسم بالطابع الديني أضفوا عليها طقوسًا تبدأ بقراءة بعض آيات القرآن.
والوهم يقع في أن إفراغ العقل ليس بالأمر المتاح إذ أن العقل ليس إناء أو آلة نستطيع إفراغها وقتما نشاء، فلا يوجد للإنسان زر المسح (delete) أو التوقف وبمجرد الضغط عليه يتوقف عقله عن التفكير أو أن يمسح ويبقي ما يريد في لحظة معينة، ولكن ما يحدث أن الشخص يوجه تفكيره إلى شيء محدد في تلك اللحظة ويركز عليه فيشغل باله بشيء آخر كالتنفس العميق وخروج الشهيق والزفير من الأنف أو الفم وإغماض العينين وتخيل شيء ما أو الانسجام مع الموسيقى.
أي أن العلاج بالتأمل ما هو إلا عملية إلهاء مؤقت لصرف العقل عن التفكير في المشكلة لكنه لا يحلها وذلك كالتلفاز الذي نكتم صوته والأحداث جارية، وهو نوع من الهروب من الواقع فيظن الشخص أن الأفكار السلبية غادرته بلا عودة، ولكن ما يبرح أن يخلو بنفسه حتى تعود إليه، كما أنه لا يوجد في كتاب الله تعالى آيات للطقوس والتمتمات التي تُتلى تمهيدًا لإفراغ العقل، وإنما آياته للتدبر والعمل:
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ص (29).
وكما ذكرت السائلة الكريمة أن تأمل الرسول الكريم لم يكن تفريغًا للعقل أو تناسيًا لأمر، وكيف له ذلك وقد جاءه التأمل بتوجيه رباني حين خاطبه ربه _ونحن من بعده_ في عشرات الآيات بقوله جل وعلا ﴿أَلَمْ تَرَ…﴾ والرؤية هنا لا يُقصد بها مجرد الإبصار، وإنما يُقصد بها النظرة التأملية؛ وذلك بدليل أن أكثرها قد جاء في حق أمور لا تُدرك بالعين كبدء الخلق:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ…﴾ إبراهيم (19)
وكعبادة الكائنات:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ…﴾ الحج (18)
وقصص الرسل السابقين:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ…﴾ البقرة (258)
وكأحداث مضت وانتهى زمانها:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ الفجر (6)
ووسوسة الشيطان:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ مريم (83)
وضرب المثل:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ..﴾ إبراهيم (24)
والحكمة من تأملها هو الوصول إلى الإيمان واليقين وأخذ العبرة والعظة.
ولذلك ما كان النبي ليريد تفريغ عقله، وما ينبغي له وما يستطيع، إذ أن الأمر كله بيد ربه: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَىٰ﴾ الأعلى (6) كما أنه يتعارض مع تكليفه كرسول يُلقى إليه القول الثقيل ويحمل هموم أمته، وهو يدرك أن ما يسكن القلب ويطمئنه ليس في تفريغ العقل من الأفكار – الذي لم ولن يحدث – وإنما في الالتزام بمنهج الذكر القويم مصداقًا لقول ربه:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ الرعد (28)
فالرسول الكريم سار على هدي الخليل الذي كان أمة بفضل تأمله وتدبره منذ صغره: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ الصافات (88) والذي وصل به إلى اليقين: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ الأنعام (75)
هذا هو التأمل والتدبر الذي أراده رب العالمين الذي يسكن القلب ويُلهم العقل ويجعل المؤمن ينظر في أحواله ليرى إن كان ما فيه سببه تقصيره في حق نفسه أو في إحدى مسؤولياته فنتج عنه ما يشعر به من ألم نفسي أو جسدي وبدَّل بها نعمة الصحة وراحة البال مصداقًا لقوله تعالى:
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الأنفال (53).
ليتضح الفرق بين التأمل كما أراده الخالق وبين منظوره الحديث، ويتلخص في أن التفكر والتدبر الحق يُلهم ولا يُلهي.
- والأمر نفسه فيما يتعلق فيما يسمى قانون (الكارما) الذي يشير إلى مبدأ السببية في النوايا والأفعال وتأثيره على مستقبل الإنسان وأن ما يفعله يعود إليه (إن خيراً فخير وإن شراً فشر)
فهذا المبدأ أصله سنة الخالق في مجازاة خلقه:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ الزلزلة (8)
وهو ليس كما يظنه البعض قانون يتعلق فقط بحساب الآخرة، بل إنه ناموس إلهي يشمل كل مناحي الحياة بداية من الكلمة والنظرة واللمسة إلى الحركة والسكنة صغيرة كان أو كبيرة، ويشمل حتى النية، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الأنفال (70)
فيجازي على نية الخير كما يجازي على نية الشر:
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ البقرة (10).
وما تم تحريفه هنا، أن ما يسمونه بقانون (الكارما) مستقل عن الحساب الإلهي حيث ينسب الجزاء فيه إلى الكون وليس إلى خالقه ويتحقق فيه شرك عظيم، فالكون وكل ما فيه هو ملكوت الخالق الذي يملك النفع أو الضرر، ومن يفعل ذلك يصدق عليه قوله تعالى:
﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ الفرقان (3).
- وكذلك تقنية السماح بالرحيل بتركيز الإنسان على الشعور السلبي فقط حتى يزول تدريجياً ويتحرر منه، فهذه التقنية جيدة بشرط أن يتم توجيهها التوجيه الصحيح، إذ أنها تجعل الشخص يتقبل فكرة الفشل ولا يقسو على نفسه بشعوره بالذنب، ويجعله يواجه مخاوفه ولا يكبتها ويعترف بوجود مشكلة لديه لا أن يعمل على إيجاد مبررات وأعذار لها، فتساعده في التعايش مع المشكلة وليس الهروب منها.
والتوجه الصحيح لها يكمن في الإنابة والاستعانة بالله سبحانه وتعالى واليقين في رحمته وليس بالفكرة ذاتها؛ إذ أن هناك من يتقبل فشله ويواجه مخاوفه دون أن يكون لذلك أثر إيجابي على مستقبل حياته وآخرته، بل ربما يكرر فشله ويتغلب على مخاوف مؤقتة دون أن يتعلم منه درسًا ولا يأخذ عبرة فتزل قدمه بعد ثبوتها.
ولنا الأسوة الحسنة في نبي الله موسى حين قتل أحد أعدائه خطأ إثر مشاجرة فأسرع بالاعتراف والإنابة:
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ القصص (16)
وعزم على ألا يعود إليه:
﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ القصص (17)
كما أن الشعور بالذنب _رغم قسوته_ لكنه أولى السبل للتطهر والبعد عن المعاصي، فلا ينبغي التكبر عن الاعتراف بالذنب أو الاكتفاء بإلقاء اللوم الدائم على الآخرين، مصداقًا لقول يوسف عليه السلام الذي نقله القرآن:
﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يوسف (53)
فتلك نفس زكاها سبحانه وتعالى حين قال:
﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ القيامة (2).
أما بالنسبة لما ذُكر من الأمور التي تعتمد على الكذب والخيال وتتشابه مع السحر:
- ما يسمى بقانون الجذب والذبذبات، الذي يقول أن فكر الإنسان سواء الإيجابي منه أو السلبي ما هو إلا طاقة يردها الكون عليه بطاقة مماثلة، فعلى سبيل المثال إن تركزت طاقة الشخص على الغنى والثروة وتخيل نفسه غنيًا بالفعل بأن يكتب (أنا غني) بعدد محدد وترديده بشكل معين فإن الكون سوف يرد عليه بنفس الطاقة ويشعره بذبذبة في جسده وكأن الكون استجاب وسوف يجذب له طاقة الغنى.
وهذا الأمر وإن كان فيه جانبًا واحدًا من الصواب ألا وهو التفاؤل بتحقيق الطموح والإصرار عليه، ففيه الكثير من أوجه الخطأ والشرك والذي يكمن في فكرة الكذب والزيف ومغايرة الواقع والتعلق بغير الله تعالى؛ إذ أن الأحلام والطموحات لن تتحقق لمجرد تدوينها وقولها صباحًا ومساء وإنما تتوقف على السعي والعمل الصالح كما قال تعالى:
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ النجم (39)
فلم يقل (إلا ما قال أو كتب)
بالإضافة إلى أنه قد يتمنى الشخص أمرًا ويُقدر له الله تعالى غيره لحكمة لا يدركها المؤمن إلا في وقتها، وقد يدعو بشيء لا يكون فيه الخير ليختار له خالقه ما فيه صلاحه وسعادته:
﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ لقمان (34)
وما يزيد الأمر تعقيدًا هو فكرة الاعتقاد بأن الكتابة بالأعداد المحددة والأوقات المعينة هي السبب في تحقيق الطموحات، بالإضافة إلى زعمهم بشعور الشخص بالذبذبة نتيجة تفاعل الكون معه، وهذا هو الشرك والاستكبار عن عبادة الخالق واستبداله بالكتابة والترديد، ومن يفعل ذلك فجزاءه بينه تعالى في قوله:
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ غافر (60)
- أما بالنسبة للطب الشعوري والاعتقاد بأن كل مرض له سبب شعوري، وعلى الرغم من أنه بالفعل هناك بعض الأمراض ناتجة عن سبب شعوري كالحزن والصدمة والبكاء، وقد أصيب نبي الله يعقوب نتيجة ذلك:
﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ يوسف (84)
ولكن الأمر ليس على إطلاقه، فليس كل شخص أصيب بمرض كالسكري أو الضغط قد تعرض لسبب شعوري، فبعض الأمراض وراثية، وبعضها ناتج عن سوء الغذاء وتلوث الهواء… وغيرها من الأسباب غير المشاعر السلبية فقال تعالى:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الرّوم (41)
كما أن توسوس الأسنان له أسبابه المعروفة من تراكم السكريات منذ الطفولة أو ضعف في الكالسيوم أو عدم العناية بنظافتها.. إلخ ولم يثبت العلم أنه يحدث نتيجة مشاكل مادية وإلا فلماذا تتسوس أسنان أطفال الأغنياء إن كان سببها الفقر؟!
ولذا ينبغي البحث في الأسباب الأخرى والعمل على إصلاحها بدلًا من التعويل على المشاعر وحدها.
- أما ما يسمى العلاج بالصدمة والادعاء أن كل مشكلة سببها صدمة في الطفولة، والعلاج يكون باسترجاعها والبكاء عليها، فهو مجرد ادعاء لا دليل عليه، بل إنه قد يدخل المريض النفسي الذي لديه فوبيا من شيء ما ويعيده إلى نفس الصدمة، وخاصة إذا كان ما تعرض له اغتصاب أو تعذيب أو إرهاب وتخويف فقد تحدث له انتكاسة، ولنا الأسوة الحسنة في هذا الأمر بنبي الله يوسف حين تعرض لأكبر صدمة يتعرض لها طفل صغير من إخوته: ﴿وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَت الْجُبِّ﴾ يوسف (10) وبِيع عبدًا أسيرًا، ولكنه حين التقى بهم وطلبوا منه العفو حتى أنه لم يتهمهم بالقسوة والظلم بل: ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ يوسف (92)
فهؤلاء المرضى علاجهم ليس في استدعاء الصدمة وإنما باحتوائهم ورعايتهم وتذكيريهم أنهم في ابتلاء ينبغي أن يستعينوا عليه بالصبر والصلاة ويبحثون عن الحكمة من ورائه ويستشعروا البشرى وينعموا بصلوات ربهم مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ… وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ… أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ البقرة (155: 157)
والعمل على بناء ثقتهم في أنفسهم بأنهم قادرون على تخطي المحن عن طريق ضرب الأسوة الحسنة لهم من قصص الأنبياء الذي لاقوا الظلم والاضطهاد والتعذيب: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ آل عمران (146)
- أما عن جرح الوالدين ومواجهتهما بما قد فعلوه مع أولادهم في الصغر، فلا يمت للشفاء بصلة، إذ لا ينبغي للأبناء أن يلقوا باللوم على والديهم إن أخطأوا في حقهم، بل يدعو لهم بالمغفرة امتثالًا لأمره تعالى:
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ الإسراء (24)
حتى ولو كفروا بالله تعالى:
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ لقمان (15)
وأسوة بخليل الرحمن صاحب القلب الرحيم الذي قال عنه ربه:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ هود (75)
والذي عذبه أبوه وقومه وهددوه وطردوه، فلم يحمله ذلك على لومه ومواجهته بل عامله باللين ودعا له وغادره بالسلام ووعده بالاستغفار:
﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ مريم (47)
وحتى لا يساء الفهم حول هذه المسألة، فنحن نتحدث هنا عما يسمى بعقدة الطفولة بسبب الوالدين التي مر عليها الزمان، فإن استطاع الأولاد أن يعفوا ويصفحوا دون لوم أو تجريح فلهم ثواب الصبر والصفح الجميل، وإن كان علاجهم في مواجهة الأمر مع الآباء والبحث وراء الأسباب أو رد المظلمة وبيان الحق فينبغي أن يكون ذلك باللين والرحمة أسوة برسولنا الكريم:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
ولقوله تعالى:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ فصّلت (34)
وهذا الأمر يختلف عن الأولاد الذين يزالون يعيشون الحاضر مع الوالدين، فنحن لا ندعو لاستسلام الأبناء لعنف وظلم الوالدين وقبول الإهانة والمذلة والاضطهاد تحت ستار طاعة الوالدين، فهذا لا يرضى الله تعالى ولم يدع إليه في كتابه، وهو سبحانه كما أمرنا بالإحسان إليهم كذلك أمرهم بعدم قتل أولادهم فقال تعالى:
﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ…﴾ الأنعام (151)
والقتل لا يكون بإزهاق الروح فقط، فهناك قتل معنوي بالقسوة والعنف والظلم مع الأولاد والذي يحملهم بالعقد والأمراض النفسية في الكبر، فلا حرج على الأولاد بل ينبغي عليهم أن يدفعوا الظلم عن أنفسهم بالحسنى، على أن يكون ذلك الجدال بالتي هي أحسن ونصح الوالدين وتذكيرهم بكلام الله وجزائه وإظهار الخوف عليهم من عذابه، وليس برد الظلم أو الإساءة والتطاول امتثالًا لأمره تعالى:
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ النحل (125).
فإن لم يستجب الآباء وأصروا على الظلم والطغيان فلا سبيل إلا الاعتزال والدعاء لهم حتى يعودا إلى ربهم كما فعل الخليل حين استيأس من قومه فقال:
﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ مريم (48)
- أما عن العلاج بالطاقة أو الشاكرات الذي يقول بمراكز الشفاء السبعة داخل جسم الإنسان، ففيه نوع من الدجل والسحر لاعتماده على التخيل الذي يزعم شفاء المريض بمجرد لمس المعالج لهذه الأجزاء في الجسم، وهو أمر غير مثبت علميًا ولا دليل على صحته.
وحتى لو شعر المريض بتحسن لحظي أثناء الجلسة أو بعدها فهذا لا يدل على شفائه من مرضه وإنما هو شعور مؤقت بالشفاء واختفاء الألم حيث يُخيل إليه هذا الشعور بسبب إيهام هؤلاء المعالجين بالفكرة مما يتسبب في رفع هرمون الأدرينالين لدى المريض، لكن هذا الشعور سرعان ما يختفي حين يزول تأثير الهرمون، وذلك كالمريض الذي تُزف إليه بشرى أو خبر سار فيزول معه الشعور بالألم ويشعر بالراحة ليعود إليه بعد أن يهدأ من انفعالاته.
وما زاد الأمر سوءًا هو الادعاء بأن هذه الشاكرات السبع متعلقة بسبع سور من القرآن الكريم، وهذا من وحي الشيطان ويصدق عليهم قوله تعالى:
﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُون إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ الأنعام (121).
وختامًا:
إن تلك الأمور في الحقيقة ليست علاجات ولا علاقة لها بالشفاء من الأمراض، ولو كان أحدها نافعًا ما تركه كتاب أنزله الله تعالى: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ وقد نبأنا العليم الحكيم أن كتابه نُزِّل فيه الشفاء: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ الإسراء (82)
والشفاء فيه على وجهين لا ثالث لهما:
- شفاء لأمراض القلوب من القسوة والجحود والحسد والغل وما يعرتيه من حزن وضيق وغم، وليس ذلك بقراءة أو تشغيل سور معينة في أوقات وأعداد محددة، وإنما باتباع تعاليمه والتسليم لأمره ونهيه وأخذ العظة والعبرة منه مصداقًا لقوله:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس (57)
- شفاء لأمراض الجسد حين نبأنا سبحانه عن أطعمة وأشربة فيها الشفاء، وهي كثيرة نذكر منها قوله تعالى:
﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ النحل (69)
وقوله: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ التين (1)
كما أرشد إلى بعض الحركات الجسدية كالركض واستعمال مياه الآبار والعيون الباردة: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ ص (42)
ولا ينبغي أن ننسى فضل الدعاء:
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأنبياء (83)
فليس الشفاء بيد أوراق الكتاب ولا في ثمار الشجر:
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ الرعد (31)
وإنما بيد من أنزل الكتاب وخلق الثمر وعلم البشر:
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ الشعراء (80).
الباحثة: شيماء أبو زيد


شرح كاف وواف ماشاء الله موفقين دائما في الرد لانه يستند الى الدليل القطعي من كتاب ربنا ويوافق العقل السليم البعيد عن التطرف من هؤلاء وهؤلاء
بارك الله فيكم وجزاكم عنا كل خير
ربنا يباركلك يا رب
ربنا يثبتك و يزيدك من فضله و ستره و علمه، ربنا يبصرك، بسم الله ماشاء الله عليك، شرحك للآيات جميل و أسلوبك مهذب، “وقل ربي ذدنا علما”