حبل الله
هل يمكن أن يكره العبدُ ربَّه العظيم؟

هل يمكن أن يكره العبدُ ربَّه العظيم؟

السؤال:

لماذا يُجبر الإنسان على تحمل مسؤولية ما لم يختره؟ أنا مثلًا أُجبر أن أطيع ربنا كامرأة وأنا أساسًا أكره العيش كأنثى، فلم لم يخيرني لاختار هل أكون ذكرًا أم أنثى؟ تخيل أن تكره نفسك وجنسك كأنثى ثم تجبر فوق ذلك على عبادته؟ أنا لا أعاني على الأقل إلى الآن من اضطراب الهوية ولكني أكره الجنس الذي اختاره الله لي، فهل سأظل أنثى حتى في الآخرة؟

مشكلتي الثانية هي الحجاب ومعاملة الله للأنثى كأنها جسد وليس إنسان، المشكلة أن الناس يخلطون بين الحجاب والحشمة ويبدؤون بذكر أسماء كالعورة والتعرية، لكن من قال أني لا أريد أن أحتشم، الاحتشام مطلوب للجنسين ولكن لماذا أخنق نفسي بالخمار وتغطية الذراعين مثلًا، ولكن الرجل يذهب ويمشي في الهواء حرًا كما يريد حتى الصلاة عندما أصلي وأنسى لبس الحجاب وأشعر بارتياح وبشعور الهواء وكأني أتنفس لأول مرة ثم فجأة ألاحظ أني لم أرتد الحجاب وأتذكر النعمة التي أنعمها الله على الرجل بينما أنا لا تقبل صلاتي إذا ظهرت شعرة واحدة، وانكشاف عورتي أسهل مئة مرة منه.

أصبحت لا أحب الله ولا أحب محادثته وليس باسم المجتمع بل بشريعته عندما يقولون أن الله حكيم لأنه أمر بذلك، أيقوم بوضع الفتنة والشهوة في المرأة ثم يأمرها بالحجاب ويقول أنا حكيم؟ أيحفر الحفرة ثم يفخر بحكمته لأنه أعطانا حبل؟ إذا لماذا لم يخلقني ذكرًا ولا أريد العيش تحت هذه الحكمة، مشكلتي ليست في الحجاب ولكن في كيفية تشريعه.

ولما يتفنن الله بعذابه وناره؟ فهل يوم القيامة سيقول لي اذهبي إلى النار لأني أظهرت معصمي؟ هل يوم القيامة سيحرقنا؟ أيعذب الوالد ابنه بالنار لأنه لعب بالكبريت؟؟

الجواب:

ما أيسر أن يكون الرد على السائلة الكريمة بقولنا أنه تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ الأنبياء (23) أو القول بأنها على شفا جرف هار من الكفر والإلحاد والردة ونصحها بالتوبة والإنابة لما فرطت فيه من جنب الله تعالى، أو القول بأن هذه النوعية من التساؤلات تندرج تحت الأسئلة العبثية التي لا طائل منها؛ وذلك لأننا عندما نسأل (لماذا لم يسألنا الله؟ ولماذا لم يخيرنا؟) فهذا يعني أن الاختيار كان متاحًا ولكن الله لم يمنحنا الفرصة لنختار! إذ لو تم تخييرنا فمتى من المعقول أن يكون هذا التخيير؟

  • فإن كان قبل أن يولد، فكيف يُخير من كان في العدم؟ ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ مريم (67)
  • وإن كان بعد أن يولد، فكيف يُخير من كان صغيرًا وهو لم يعش الحياة كأنثى أو كذكر حتى يقرر أي الخيارين أفضل له؟ ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا…﴾ النحل (78).
  • وإن خُير كبيرًا وتم له ما أراد، فماذا إن كره مسؤولياته وتكاليفه بعد أن يتحقق له اختياره – كما حدث مع السائلة الكريمة – فوجدت الأنثى نفسها ذكرًا وسقط عنها مسألة الحجاب التي تؤرقها وزال عنها الضيق والحر خلال الصلاة التي لا تتعدى سوى دقائق معدودة على مدار اليوم كله – فوجدت مسؤوليات أخرى مفروضة عليها كذكر، من وجوب الإنفاق وتوفير المسكن والمأكل والملبس والعلاج والتعليم والحماية لمن تعولهم.

ثم يأتي دور الذكر هو الآخر أمام الاختيار ويختار أن يكون أنثى غير مسؤولة عن أحد ولا حتى عن نفسها، ويتخلى عن مسؤولياته وأعبائه من العمل الشاق ليلًا في البرد القارص أو نهارًا تحت الشمس الحارقة لساعات طويلة في أعمال كرصف الطرق وتنظيم المرور أو أمام الأفران وفي المحاجر وفي التشييد والبناء والصيد والزراعة والصرف الصحي… إلخ من الأعمال الشاقة، بالإضافة إلى واجبه في الدفاع عن وطنه وأهله ودخوله الخدمة العسكرية وخوضه للحرب في الحر وسط لهيب الشمس وأزيز الأسلحة وألبسة الدروع والسرود وصرير الأسنان وسط الدماء يذوق الموت في كل لحظة؟!

لتدور دائرة الأماني المفرغة لكل ذكر وأنثى يتمنى كلاهما نصيب الآخر لتضيع أجيال وأطفال وسط حيرة آبائهم وأمهاتهم في متاهة الاختيار لتفسد الأرض ويهلك الحرث والنسل، ليجيء الرد من فوق سبع سموات من أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين:

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ النساء (32)

فالسائلة تتمنى أن تكون ذكرًا وكأن الذكر لا يعيش تحت الحكمة التي تنفيها عن الخالق لمجرد أنه لم يُكلفه بالحجاب فظنت أنه يعيش حرًا طليقًا بدون القيد الذي قيدها.

وقد نسينا أو تناسينا في خضم هذه الاختيارات التي يطلبها المخلوق لنفسه أن نسأل أنفسنا سؤالًا هامًا: إذا كان المخلوق من حقه أن يختار كيف يريد أن يُخلق، فماذا عن حق خالق السموات والأرض في أن يختار ماذا يريد أن يخلق؟! : ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟!

فهل نثبت للمخلوق حق الاختيار في الوقت الذي ننفيه عن الخالق؟! : ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾!!

إن السؤال رغم قسوته وما يحمله من شعور البغض واليأس ولكننا في الحقيقة نشك في تلك الكراهية أو نكاد نوقن أن هذا الشعور البغيض ليس لخالقها إذ أنها لم تعرفه حق معرفته كي يمس قلبها حبه ولم تدرك حكمته حتى تصدر حكمها بعدم استحقاقه جل جلاله للحكمة. والحق أنها كرهت إلهًا آخر أو بالأحرى آلهة أخرى!! ألا وهي آلهة (التراث) والمتمثلة في:

  • تراث الجاهلية الذي وأد الأنثى في مهدها وطمس هويتها وورِثها ضمن متاعه.
  • تراث الروايات المفتريات الذي خلقها من العوج وأنقص عقلها ودينها ووصفها بالنجاسة أكثر أيامها وصب عليها اللعنات لمجرد وصلها شعرها أو إزالتها الشعر من وجهها.

آلهة وصفتها بالعورة من منبت شعرها إلى أخمص قدميها حتى صوتها، وحاصرتها وحدها في سجن العورة وقيدتها بقيود الفتنة والشهوة وأطلقت ذكورها من السجن أحرارًا أبرياء، فإن زنى كانت هي الغاوية وإن عصى كانت هي المحرضة الآثمة فكانت أكثر أهل النار وسوف تُعلق في جهنم من لسانها وثدييها!!

  • تراث العادات والتقاليد البالية الذي عمل على حرمانها من التعليم لحساب الذكر وشرع زواجها وهي طفلة بالإضافة إلى تكسير أضلاعها إن تفوهت بما يخالف ما عهد آباؤها.

فقدس أكثر الناس (إلا من رحم ربي) تلك الآلهة مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾ الفجر (19) بداية من الأبوين إلى الأهل والمحيطين بها في الدراسة وسوق العمل وصولًا إلى أكثر الشيوخ والدعاة المختبئين تحت عباءة الدين: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ يوسف (106).

فالحق والحق نقول، أن هذه الآلهة المعبودة من دون الله تستحق الكراهية وتنتفي عنها الحكمة، وهي التي حفرت حفرة الفتنة ولفت حبل الشهوة حول رقبة الأنثى – على حد تعبير السائلة الكريمة – فذبحت تلك المخلوقة الضعيفة قربانًا لذكورها فتحمل خطاياهم وتزر أوزارهم! وأصدرت عليها أحكامًا مسبقة بدخولها النار وصوبت نحوها سلاح اللعن والحرق؟!

وقد حذر رب العالمين من اتخاذ تلك الآلهة من دونه حين طالب أتباعها بالدليل والبرهان على ادعاءاتهم المفتريات عليه تعالى وعلى رسوله وذلك بوضعها في ميزان الذكر الحكيم: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ، هَٰذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ الأنبياء (24)

  • فأين برهان هؤلاء من كتاب الله تعالى يدل على أن المرأة هي سبب الفتنة؟!

فلم تأتِ آية واحدة جعلت من الأنثى فتنة، ألم يقل الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ الأنبياء (35) ولم يقل نبلوكم بالنساء فتنة! أليس الخير والشر هو فعل البشر إناثًا وذكورًا؟!

ألا يكون الرجال سببًا في فتنة النساء فتفتتن المرأة برجل وتترك بيتها وتهمل أطفالها من أجله؟!

الا تفتتن الفتيات بالشباب ويحفرن أسماءهم على أجسامهن بالنار؟!

  • وأين جاء تعذيب المرأة إذا أظهرت معصمها أو تخففت من لباسها عند الصلاة في بيتها؟!

ألم يوجه تعالى خطابه للمؤمنين كافة:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ آل عمران (135)

فهل ظهور معصم المرأة أشد عنده تعالى من فعل الفاحشة والظلم حتى يعذبها ويحرقها؟!

وهل تخفيفها من ثيابها يجعلها أعظم عنده تعالى ممن قيل فيهم: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا… إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ الفرقان (70)

فكيف يتوب تعالى على كل أولئك العصاة ويبدل سيئاتهم إلى حسنات ويغفر لهم ويرحمهم ولا يغفر لامرأة ظهر معصمها في الصلاة أو في غيرها!! ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾؟!

  • وأين ذكر أن المرأة وحدها هي العورة والسوأة؟

ألم تبدَ سوأة أبينا آدم وزوجه حين استجابا لفتنة الشيطان:

﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ الأعراف (22)

وهنا ملمح تجدر الإشارة إليه، فعند الحديث عن السوأة والعورة جاء الخطاب فيه للبشر جميعًا:

﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا، وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ…… يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ الأعراف (26: 27) وقال تعالى: ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ النّور (58) وهذا دليل على أن تورية العورة – وكما ذكرت السائلة – أمر على الذكر والأنثى على حد سواء.

كما أن غض البصر وحفظ الفروج جاء لكليهما على حد سواء:

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ..﴾ النّور (30).

ولكن عندما جاء الحديث عن لباس يخص المرأة وحدها جاء التعبير بلفظ الزينة: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ، وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ…﴾ النّور (31) ولم يقل (ولا يبدين عورتهن) على الرغم أن العورة جاءت في نفس الآية: ﴿أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ النّور (31)

فمن حكمته تعالى أن سمى ما يظهر من المرأة (خلاف العورة) زينة، وقد أمرت بعدم إبدائها إلا لمحارمها، ومن هنا فالأصح عن الحديث عن المرأة التي تظهر شعرها أن نقول أنها أظهرت زينتها ولا نقول عورتها.

وتلك الزينة خص تعالى بها المرأة ففطرت ونشئت على الحلية لتكون موضع حسن وجمال وحياء وليس للوصمة والعار. وهذا لا يعني أن الرجل ليس لديه مقومات أخرى تجذب الأنثى كما ذكرنا.

  • وعندما جاء الحديث في الكتاب عن الشهوات وذُكر النساء من ضمنها في قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ…﴾ آل عمران (14) فهذا لا يعني أن المرأة وحدها هي سبب الشهوة؛ إذ أنها داخلة في عموم الناس الذي زين لهم حب الشهوات تجاه الرجل ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ فتنجذب المرأة إلى الذكر كما ينجذب هو إليها وذلك كما شُغفت امرأت العزيز بفتاها وسعت هي إليه.

ومن هنا فما ذكرته السائلة الكريمة من شبهات وصمت بها المرأة ليست من الله وكتابه في شيء، وإنما مصدرها تلك الآلهة التي أفسدت المجتمع وفتنت كثير من النساء في دينهن وظنن ظن السوء في ربهن اللطيف الخبير، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ الأنبياء (22) ونحن من جعلناهم آلهة حين أعمينا أبصارنا عن القرآن وتعاليمه وذهبنا وراءهم نشهد لهم بحق التشريع:

﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً، قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ، أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ، قُلْ لَا أَشْهَدُ، قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ الأنعام (19)

أما عن المثال الذي ذُكر في السؤال، هل يحرق الأب ابنه لأنه لعب بالكبريت؟ فالجواب أنه لا يحرقه – وهذا لا يمنع أن يخوفه من النار بإشعاله ثقاب الكبريت وملامسة يد ابنه حتى يعرف خطره – ولكن ألم تفكر السائلة الكريمة من أين لهؤلاء الآباء بتلك الرحمة والحكمة التي تمنعهم من حرق أولادهم وتعذيبهم؟ من الذي أودعها في قلوبهم؟! هل خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟

يجيب علينا أرحم الراحمين:

﴿فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الأنعام (54)

وهو الذي ينادي عباده:

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر (53).

ومن رحمته تعالى رفعه الحرج فيما كتبه على عباده وبيَّن لهم بعد كل التكاليف الشرعية أنه ما كتبها ليشق أو يضيق عليهم فقال تعالى:

﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج﴾ المائدة (6)

﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ النساء (28)

﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر﴾ البقرة (185)

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ البقرة (286)

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾ التغابن (16)

فالرحمة والحكمة والعفو والمغفرة هي روح منه تعالى نفخها في عباده ليتراحموا ويعفوا ويغفروا ويتجادلوا ويحكموا بالحكمة وهو الذي: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ البقرة (269) أما الأب فربما يتخلى عن رحمته وحكمته ويحرقه بالفعل وقد أحرق أبو الخليل ابنه – وكذلك الولد قد يحرق نفسه إذا أصر على إشعال الكبريت دون التفات لكلام أبيه وتحذيره له.

وقبل الختام، إن القضية التي طرحتها السائلة الكريمة ليست وليدة اللحظة، فقد تشابهت قصتها بامرأة كانت تنتمي لذرية الأنبياء والمرسلين، تزوجت ولما حملت دعت ربها أن تضع مولودًا ذكرًا حتى تنذره لله لعبادته، فقد أرادت أنه تهبه للمعبد عاكفًا خادمًا منذ صغره وكم تمنت أن يتقبل الله دعاءها.

ولكن شاء العليم الحكيم أن تضعها أنثى، فحزنت وانتابها القلق والخوف على طفلتها كيف سيقبلها الكهنة – ولم تكن المعابد آنذاك تقبل أن تخدم فيها الإناث ولا أن تقيم فيها للعبادة والصلوات – وكيف لتلك المخلوقة الرقيقة التي فطرت على العطف والحنان وحب الزينة والحلية أن تقوى على خدمة المعبد وحياة التقشف والاعتكاف دون أن يصيب جسدها الوهن ودون أن يعيدها الحنين إلى حضن الأم ودفء البيت!

ولكنها لم تستطع أن تتراجع عن نذرها ما في بطنها وأتمت عهدها مع ربها واختارت لها اسم خادمة الرب وتركتها في المعبد منذ نعومة أظفارها واستعاذت بربها أن يحفظها من الشيطان. ولأن الحكيم هو الذي اختارها أنثى فقد هيأ لها الأسباب لتُقبل في المعبد بأن تكفل بها أحد الكهنة من ذوي رحمها.

فتفتحت عينيا الصغيرة على أصوات ترانيم المزامير والتسابيح والصلوات وبدلًا من أن يحتويها حضن أمها احتضنتها جدران المعبد، وكبرت النبتة الحسنة قانتة لربها في محرابها لا يؤنسها بشر ولكنها آمنة مطمئنة فاختارت راضية بما اختيرت له لتُنادى من فوق سبع سماوات:

﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران (42)

ولم تنته القصة عند هذا الفصل وإنما بدأت تلك الأنثى فصلًا أو فصولًا أخرى أشد وطأة للدرجة التي تمنت أن لو ماتت قبلها وكانت نسيًا منسيًا، فهي لم تكن تعلم أنها ستضع مولودًا يضيء الدنيا بالسلام والمحبة وعبادة الله الواحد الأحد.

ولو علمت وأمها ما أخفي لها من قرة عين لاختارت أن يسلكا نفس الطريق رغم صعوبة الرحلة ليصل بهم إلى مصير الرضا والرضوان ولتظل رمزًا للطهر والعفاف والقوة.

نحن نعلم أنه لم ولن تكرر قصة تلك العذراء الطاهرة بذات الشكل، ولكنها وأمها أسوة حسنة لكل امرأة تمنت أن تلد الذكور أو أنها كانت ذكرًا، ولكل امرأة عاشت في مجتمع قاس ملهمة لغيرها من الفتيات والنساء أنهن قادرات على صنع المعجزات ما دام لديهن الإيمان والطهر، وكما حملت العذراء في أحشائها روحًا من ربها فلتحمل كل أنثى في قلبها روحًا من أمر ربها فتسمو روحها بهدي كتبه: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الشورى (52).

فاطمئني أيتها الأنثى واعلمي أنه تعالى كان قادرًا أن يخلقك ذكرًا، وإنما خلقك أنثى لحكمة بالغة لم تدريكها:

﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ، لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ آل عمران (6) وأن هذا التصوير هو الأمثل لك: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُم﴾ غافر (64) وأن ما اختاره الرحمن لك هو الخيرة: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ القصص (68)

وكوني سببًا في طمأنة فتيات كثيرات أنهكهن الحزن واليأس من روح الله، فإرسالك للسؤال يدل على حبك وخوفك وحيرتك، وكرهك نابع من قيود ينبغي عليك تحطيمها بالعلم والفكر كما فعلت الكثير من الفتيات اللاتي هدمن آلهة تراث الجاهلية والعادات والتقاليد ونلن نصيبهن من التعليم والفكر ووصلن إلى مناصب مرموقة في كثير من المجالات.

فقد آن الأوان لها أن تحطم التصورات الخاطئة حول مكانة المرأة وأن تثق في رحمة وحكمة خالقها ولتنظر إلى نفسها نظرة التكريم واليقين والرضا عن اختيار خالقها، وحينها سوف تشعر بالهواء يتدفق نحوها ولكنه هواء طاهر نقي عندما أدركت الحكمة في أن جسدها الذي هو زينتها ينبغي أن يكون مصانا لا تهتك ستره النظرات ولا تنتهك حرمته اللمسات ولا تمتهنه الشهوات فلا تظهره إلا لمن سعى إليها بالعفة وبذل الغالي والنفيس لترضى به زوجًا فتأذن لمتعتها ومتعته بلا خزي ولا هوان.

كل ذلك يكون لها إذا صدَقت بكلمات ربها أسوة بأطهر نساء العالمين:

﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ التحريم (12)

ندعو الله سبحانه وتعالى أن يشرح صدرك وأن يربط على قلبك.

*وللمزيد حول الموضوع ننصح بالاطلاع على المقالتين التاليتين:

الاستدلال الخاطئ بآية (وليس الذكر كالأنثى)

هل الاعتقاد بأن الله تعالى منحاز للرجال يدخل المرء في دائرة الإلحاد؟

الباحثة: شيماء أبو زيد

التعليقات

  • للأسف أنا كنت واحده من البنات اللي شايفه ان الاسلام مصدر أساسي لظلم و قمع الستات في مجتمعاتنا العربيه. و لكن أراد ربنا سبحانه و تعالي انه يريني الحقيقة و هي ان مجتمعاتنا هي مصدر الظلم و الكره تجاه المرأة و فقط استخدموا تفسيرات منحرفه و احاديث كاذبه كستار لقبحهم و تقليل المرأة الي اداه للجنس و ثم رحم للإيجار و ثم مرضعه و ثم خادمه له و لاولاده. بلا حقوق. عقد عبوديه مدي الحياه، المالك فقط يتغير من الاب للأخ للزوج للابن للخال الي اي حيوان مذكر. فهو عنده عقل و كرامه عنها. إجابتك علي السؤال احلي ما فيها انها بدون تلاعب ديني (ده كفر، انتي مش خايفه من النار، ازاي تقولي كده …) لان ده لا يليق بالله عز و جل. انتي سفيره لكتاب الله. أنا فخوره بتفكيرك و مستوي عمق تدبرك. ربنا يزيدك علم و حب لكلامه و تشريعه الراقي الرحيم 🧡

  • هدانا الله والسائلة الكريمة لما يحب ويرضى وجزى الله هذا الموقع والاخت شيماء عنا كل خير كلماتها المعتمدة على الدلائل من كتاب الله بلسما لكل أنثى جرحت من سكين الموروث والعادات والتقاليد الجائرة والدين منها كلها براء.
    للاسف معظم النساء المسلمات يعانين بنسب متفاوتة بسبب هذه الاعتقادات الباطلة والنظرة للمرأة وأثر ذلك عليها فكرهت نفسها كانثى او كرهت الاقدام على الزواج بسبب الاعتقادات الجائرة التي انشئ عليها الذكر (ولو لم يكن متدينا) الا ما رحم ربي .
    والحل الوحيد هو العودة لكتاب الله وقراءته قراءة جديدة بعد طرح كل المرورث الذي تعلمناه لأننا للاسف عند قراءة الكتاب نفهمه بفهم التراث لا نفهمه عل حقيقته.. ووالله انا شخصيا فرق معي كثيرا كثيرا هذا الأمر فبت افهم كتاب الله واكتشفت اني لم أكن اقرأه من قبل .

  • لقد بكيت عندما قرأت سؤال هذه القارئه لأننا نحن النساء نعاني كثيرا من أحكام الدين الموروث او الدين الموازي الذي كله تحقير للمرأة
    وبكيت أيضا عندما قرات الإجابه بقلم الأستاذه شيماء أبو زيد فكلامها والله كله يمس القلب.. أحبك كثيرا، مقالاتك موفقة، وتتقنين التعبير في الصميم
    وأنصح السائلة ونفسي طبعا بأن تقرأ هنا على الموقع في المواضيع الخاصه بالنساء وسوف تجدين إجابات على الكثير من الأسئلة المحيره والتي لا يجاوب عليها أي شيخ بل يعتبرونها وساوس شيطان وقلة إيمان، وإنما هو في الحقيقه صوت العقل والمنطق والفطرة السليمة .لأن أي شي غريب على الفطرة الطبيعية للإنسان لا يمكن أن يكون من شرع الله بل هو من شرع الفقهاء الذين أرهقونا باجتهادتهم وخرجوا لنا بدين موازي.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.