حبل الله
هل هناك أصل ديني لدعوى الفصل بين الجنسين؟

هل هناك أصل ديني لدعوى الفصل بين الجنسين؟

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته جزاكم الله عنا كل خير.

سؤالي: هل فصل الذكور عن الإناث له أصل ديني سواء في المدارس والجامعات والعمل وغير ذلك، أعلم أن الالتزام بالأخلاق أساس في كل أمر وعدم الميوعة من الإناث وتعليم الجنسين الأخلاق الإسلامية لتجنب المشاكل.

أسأل هذا السؤال لسماعي عن حالات الشذوذ في مدارس الإناث ومدارس الذكور المنفصلة وفي الجيش وفي الأندية التي فيها جنس واحد، فهل تجمّع الجنس الواحد في مكان يؤدي إلى حالات من الشذوذ؟ وهل الحل هو عدم تفرقة الجنسين لأني في قرارة نفسي أعتقد أن مجتمع النبي لم يفرق بينهما، فهل اعتقادي صحيح؟ ومشايخ الدين الموازي يدعون للفصل التام في كل المجالات.

الجواب:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، جزانا الله وإياكم الخير وهدانا سواء السبيل.

إن السائلة الكريمة قد أجابت عن السؤال بما تعتقد في قرارة نفسها والذي جاء موافقًا لكتاب الله تعالى الذي بيَّن فيه أن مجتمع النبي وكل المجتمعات قبله لم تفصل بين الذكور والإناث.

فالاختلاط في حد ذاته ليس محرمًا، ولو كان كذلك لما دعا سبحانه وتعالى عباده (ذكرًا وأنثى) وأمرهم بغض البصر وحفظ الفروج:

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ…﴾ النّور (31)

فوضع الله تعالى الضوابط التشريعية التي تنظم حركة الحياة بين الجنسين في كثير من آياته يمثل دليلًا _بحد ذاته_ على أنه الخيار الأمثل للمجتمعات إذا تخلَّقت بما أمر الله تعالى به – كما أشارت السائلة الكريمة – من التزام الجميع رجالا ونساء بالخلق القويم.

وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن يُفتح الباب على مصراعيه بحجة أن المثلية والشذوذ الجنسي قد ظهر نتيجة عدم الاختلاط؛ بدليل وجوده في المجتمعات المختلطة وربما بدرجة أكبر، فالانفتاح والاختلاط الزائدين كذلك لهما سلبيات ومضار لا تعد ولا تحصى، وعندئذ سيغلب الإثمُ النفعَ، وهو ما وصفه تعالى بالحسرة عند الغل أو البسط في قوله:

﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ الإسراء (29)

فالمجتمعات التي تغلو تعاني تمامًا كالمجتمعات التي تبسط وكلاهما يتجرع مرارة غله وبسطه، والعلاج الأمثل لتلك المشكلات هو القسط بإقامة الوزن كما أمر رب العالمين الذي هو أعلم بخلقه وما يصلح لهم حين قال:

﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ الرحمن (9)

وعلينا في هذه المسألة أن نعود إلى بعض التربويين والمعلمين الذين يرون أن الاختلاط والفصل له مراحل يُفضل اتباعها قدر الإمكان:

  • ففي السن الصغير يفضل الاختلاط حيث يجعل الطفل/ ة يعيش في بيئة سوية يشترك فيها الأطفال ذكورًا وإناثًا في التنافس الدراسي واللعب، وهذا يعود بالصحة النفسية على كليهما مستقبلًا من كسر حاجز الخوف تجاه بعضهم بعضا، وتدريبهم منذ الطفولة على ثقافة الاختلاط وحدود التعامل مع الجنس الآخر، ومن ذلك غرس ثقافة احترام الجسد وعدم تعمد اللمس أو الالتصاق، وتعلم آداب الاستئذان وآداب الحديث والاستماع وغيرها من آداب التعامل؛ ليتشبع الطفل بالمبادئ والقيم الخلقية في نشأته الأولى، حتى يكبر وقد اكتسب مهارة التعامل مع الجنس الآخر دون تعدي على حقوقه ودون الحاجة إلى التصنع أو الرفض والرهاب من الجنس الآخر.
  • ثم بعد ذلك يُرى أنه من الأفضل أن يتم الفصل بينهم في فترة البلوغ والمراهقة وهي المرحلة المتوسطة – حتى لو كان الفصل بينهم داخل غرفة الصف الدراسي دون الساحة- حيث أنه في هذه المرحلة يبدأ النمو العاطفي والجنسي بوتيرة متسارعة، قد تضر بالتحصيل الدراسي، وقد تصرف الطلاب من التنافس العلمي إلى التنافس في جذب ولفت انتباه ونظر الطرف الآخر، ومن ثم يزيد العبء على القائمين على العملية التعليمية في فرض الرقابة بشكل أكبر على الطلاب خلال تواجدهم في المدرسة مما قد يخلق التوتر والعنف حول علاقة الزملاء بين الطلاب والطالبات.

وهذه المرحلة التي تحتاج فيها الأسر والمدارس مزيدًا من الجهد في الوقوف بجانب الأبناء ومحاولة شغل أوقاتهم _بعد تحصيلهم العلمي_ بممارسة الرياضات المختلفة وتنمية الهوايات والاشتراك في الأعمال الخيرية، وأهمها تكوين الصداقات بين الأبناء والآباء والمعلمين وكسب قلوبهم للتعبير عن مشاعرهم وتوجيهها بشكل سليم باللين والرحمة وبعيدًا عن العنف والقسوة حتى تمر هذه الفترة بسلام.

  • ليعود الاختلاط مرة أخرى في مرحلة الجامعة وسوق العمل لينعكس ما اكتسبه في الطفولة، بالإضافة إلى تخطي المراهق مرحلة التخبط العاطفي فيصبح قادرًا على وضع الحدود في التعامل الأمثل بينه وبين الجنس الآخر، وينعكس ذلك بالإيجاب على علاقة التعارف وتبادل الأفكار والثقافات بأدب واحترام بين الذكر والأنثى بعضهم من بعض، فيؤتي ثماره من العمل الصالح النافع الذي يرضى الله تعالى عنه:

﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ آل عمران (195).

فالاختلاط سنة الله في خلقه:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات (13)

وسبل التعارف وضعت بالمنهاج الرباني والميزان السماوي الذي سار على دربه نبينا الكريم والنبيون والصالحون من قبله، حين كان الاختلاط مقدر بقدره وليس على إطلاقه وهو موجود في أكثر المواقف الحياتية – بخلاف الحج والعمرة والصلاة في الساحات – ونذكر منها:

  • الاختلاط في مجال العمل والدعوة وتدارس العلم، كجلوس النبي نفسه مع النساء لدعوتهن وتعليمهن وأخذ البيعة منهن:

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ…﴾ الممتحنة (12)

وكانت تأتي إليه النساء للجدال والحوار والنقاش والشكوى:

﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ المجادلة (1)

ولم يقتصر الأمر على النبي وإنما الحكم عام في المؤمنين:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ…﴾ الممتحنة (10)

وبالطبع هاجرت هؤلاء المؤمنات في الطريق مع رجال، وليس من المنطقي أن تؤخر مواكب النساء خلف القوافل أو تكون بمعزل عنها فربما يتعرضن لخطر.

ومن قبل ذلك النبي زكريا الذي كفل أطهر نساء العالمين وكان زوج خالتها[1] وعلمها الكتاب والحكمة في محراب العبادة والعلم:

﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ آل عمران (37)

ومن قبله إسلام ملكة سبأ للنبي الملك سليمان بعد زيارتها له في قصره:

﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ. وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ النّمل (42: 43).

  • والاختلاط في إطار الأسرة وذوي القربى وتبادلهم الزيارات والدعوة إلى الطعام:

﴿وَلَا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ النّور (61)

فيتزاور الأقارب ويتعارفون حتى من الدجة الثانية كأولاد وبنات الأعمام والأخوال ويلتقون في ظل وجود الأهل مما يقوي صلة الأرحام.

وقد اشتملت الآية كذلك على دعوة الأصدقاء:

﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾

وهو ما كان النبي الكريم يفعله بدعوة أصحابه كما جاء في قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا…﴾ الأحزاب (53)

وبالطبع كان هناك تعاليم خاصة لبيت النبي وأزواجه.

ومن قبل ذلك في قصة: (ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) والحوار الذي دار بينهم وبين زوجه:

﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا… قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ هود (73)

  • كذلك الاختلاط في الأماكن العامة والأسواق، وذلك بدليل قوله تعالى لنبيه:

﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ الأحزاب (52)

ولو لم يكن الاختلاط مباحًا فكيف سيرى النبي والرجال عامة هؤلاء النساء ويُعجبون بحسنهن؟

والأمر نفسه في قصة النبي موسى وحديثه مع فتاتي مدين اللتين التزمتا أدب الاختلاط من عدم التزاحم والتدافع مع الرجال:

﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ، قَالَ مَا خَطْبُكُمَا، قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقَىٰ لَهُمَا… فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ القصص (25)

فهذه هي مجتمعات النبي والأنبياء من قبله والمؤمنين والصالحين من بعدهم، ولنا فيهم الأسوة الحسنة في التزامهم بآداب الاختلاط وعدم غلوهم في دينهم أو اتباعهم الأهواء والشهوات، وذلك بالبعد عن التشدد وعدم التفريط امتثالًا لأمر ربهم:

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ، وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ المائدة (77).

وختامًا:

_ الإيمان الحق يتمثل في القسط بعيدا عن الغلو أو البسط، فالمسلم وسطي لا إفراط عنده ولا تفريط.

_الضلال يأتي بالإعراض والبعد عن المنهج الرباني وتعاليم كتبه، وعلى هذا فسواء فصل المجتمع بين الذكور والإناث أو خلط بينهم فإن لم يتبع الهدى فسوف يعاني من ضنك المثلية والشذوذ الجنسي والفواحش والأطفال المشردين. وصدق الله العظيم عندما قال:

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ طه (124)

*وللمزيد حول الموضوع ننصح بالاطلاع على العناوين التالية:

الاختلاط بين الرِّجال والنِّساء

ما حدود التعامل بين الرجال والنساء الأجانب، وهل تصح الصداقة بين الجنسين؟

نظرة الإسلام إلى المثلية الجنسية

 

الباحثة: شيماء أبو زيد

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[1] هناك من يرى أن زكريا عليه السلام كان خال مريم وليس زوج خالتها

تعليق واحد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.