د. عبدالله القيسي
الاسترقاق ظاهرة قديمة وجدت عند اليونان والرومان والفراعنة والفرس وعند العرب قبل الإسلام، وكان ممارسا عند اليهود وعند المسيحيين وعند البرهمية. ولما جاء الإسلام كان هذه الظاهرة متغلغلة في المجتمع بشكل كبير، فعالجها بأفضل أدوات المعالجة التي يسمح بها ذلك العصر، ولو أننا استطعنا أن نعيش ذلك السياق التاريخي ثم وضعنا ما طرحه القرآن من معالجة لهذه القضية لعرفنا القيمة الأخلاقية التي أحدثها في ذلك الزمن، لكن البعض يتجاوز ذلك كله ويحاكم التاريخ بسياق اليوم فلا يدرك ما أحدثه ذلك التصور، ولا حجم صعوبته ورفض المجتمع له!!
بعض الظواهر الاجتماعية التي صارت متمكنة من المجتمع وارتبطت بمصالح سياسية واقتصادية لا يمكن معالجتها بخطوة واحدة، لأنها في الغالب ستفشل، وإنما تحتاج لمعالجة زوايا مختلفة لتصل بمجموعها لمعالجة كاملة، وهذا ما عمله القرآن مع هذه الظاهرة الاجتماعية المشتبكة مصالحها بين طرفين هما الرقيق ومالكيهم، فالمعالجة تراعي مصلحة الرقيق أولاً بتهيئة الأرضية المناسبة لتحريرهم، وذلك بتغيير النظام الاجتماعي السابق بنظام يسمح للرقيق بالاندماج الطبيعي، حتى لا يتسبب لهم التحرير في حالة عزلة اجتماعية أو اقتصادية.
بدأ القرآن بترسيخ فكرة أساسية هي تكريم الإنسان، تكريم آدميته دون النظر لأي شيء آخر، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[الإسراء:70]، وهذه الفكرة رسخها النبي عليه السلام في حياته العملية، إذ جعل للإنسان القيمة الأعلى في هذه الأرض وجعل هدم الكعبة حجرا حجرا أهون من إراقة دمه بدون حق، ثم جاءت الحكمة العمرية التي رويت عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في إطار هذا التكريم: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).
فكرة أخرى رسخها القرآن لإعادة هيكلة النظام الاجتماعي بقيم أخلاقية فأكد على فكرة المساواة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]. فهذا التنوع البشري بين الشعوب والقبائل غايته أن يتعارف الناس فينتسب كل فرد لذلك الشعب أو القبيلة، ليُعرف لا ليكتسب تميزاً عنصرياً، والأكرم عند الله من بين أولئك هو الأتقى، والأتقى هو غير الفاجر، والفاجر هو الذي فجر حائط التقوى الذي كان يقيه من ارتكاب الشر والبغي والعدوان، فأصبح يبغي ويعتدي على الناس، أما المتقي فهو من لازال قائماً على ذلك السور الواقي له من أن يقع في البغي والعدوان.
كانت ظاهرة الرق من الظواهر الوقتية التي جاء الإسلام للقضاء عليها، نظرا لأنها تخالف رؤية الإسلام للإنسان والقيمة التي أعطاها له، وتخالف مبلغ التكريم الذي حظي به عن سائر الخلائق والذي رفعه عن أن يكون مسخرا لغيره يوجهه كيف يشاء، فالإنسان الذي يولد حرا لا بد أن يعيش حرا، وبالتالي يجب رفع الأسباب التي قد تؤدي به للوقوع في الاسترقاق، وهذا ما فعله الإسلام حيث ألغى كل أسباب الاسترقاق التي كان معمولا بها عند الأمم المذكورة سلفا، وجعل الأصل هو حرية الإنسان، فألغى اجتماعياً ما يلي:
1-رق السرقة، وكان معمولاً بها في بعض المجتمعات.
2- رق الخطيئة، وكان معمولاً بها في بعض المجتمعات.
3- الاسترقاق للرجل أو لأولاده بسبب عدم القدرة على تسديد القرض الذي تضاعف بالربا، وكان موجوداً في المجتمع العربي.
4- بيع الأولاد بسبب الفقر، وكان معمولاً به في المجتمع العربي.
5- الاسترقاق بعد الغارة على قبيلة أو قرية لنهبها، أو الاسترقاق بقطع الطريق.
6- الاسترقاق بسبب الأسر في الحرب، ولهذا جاءت الآية لتؤكد مصير الأسير بين خيارين لا ثالث لهما، فقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد:4]. فمصير الأسير هو المن عليه أو الفداء بمال أو غيره، ولا خيار غير ذلك، إلا ما قال به بعض الفقهاء لاحقاً من إضافة الاسترقاق أو القتل ليكون الخيار في الأسير واحدا من أربعة بدلا من أن يكون واحدا من اثنين كما ورد في الآية، وهي إضافات مخالفة للنص القرآني الذي حصر المسألة بأداة الحصر “إما …وإما”.
ولأن هذه المسألة من المسائل المتجذرة في تلك الفترة كما ذكرت كان لا بدّ من التدرج في حلها حتى يسهل على المجتمع تقبلها ويسهل على العبيد أيضا الاندماج والعيش في المجتمع الجديد -مجتمع الحرية – الذي سينتقلون إليه، فبدأ الإسلام أولاً بمرحلة التحرير الروحي أو المعنوي للأرقاء، ثم جاءت ثانياً: مرحلة التحرير العملي وفتح أبواب التحرر.
أولاً: التحرير الروحي والمعنوي
كان ذلك عبر مجموعة من الأحكام تشعر الرقيق بأن له إنسانية مثل إنسانية مالكه، فله الحق أن يطعم من طعامه ويلبس من ملبسه ولا يكلف بما لا يطيق بل يجب الإحسان إليه، وكل الأحكام في القرآن عامة تشمل العبيد والأحرار إلا ما خص به الرقيق من أحكام -كانت تخفيفا عليهم – وهي محدودة جدا، وإن وسعت فيما بعد عليهم للأسف، فالعبد والحر تجري عليهما أحكام القصاص بشكل متساو ” النفس بالنفس ” كما تسري عليهما بقية الأحكام التي جاء فيها لفظ العموم دون تخصيص لأحدهم.
يقول الشيخ أبو زهرة: ” إن المعنى الإسلامي العام المفهوم من مصادر الشريعة ومواردها أن الرق لا يُفقِد العبد آدميته فهي محرمة على قاتله سواء أكان مالكه أو غير مالكه، ولا شك في أن عدم القصاص من مالكه إهدار لمعنى الآدمية فيه، وذلك ما لم يقل به أحد من المسلمين، وإن كان الأكثرون من الفقهاء قد جرتهم الأقيسة الفقهية إلى مخالفة ذلك الأصل”([1]) . كما جعل الإسلام للعبد الأهلية الكاملة في التصرف لأنه مخاطب كما الحر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أعطاه حق منح الأمان لفرد أو جماعة ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره﴾ والنص عام لكل مسلم حر أو عبد. ومثلها شهادته.. .. الخ، وللعبد حق التقاضي ومقاضاة سيده، وحق التصرف في البيع والشراء والهبة وغيرها كالحر تماما، وله الحق في تكوين أسرة بالزواج فلا يحق لسيده إكراهه على زوجة معينة، وله أن يمتلك المال فلا يجوز لسيده انتزاعه منه، كما حرم بعض الممارسات الخاطئة التي كانت تمارس عليهم كالبغاء وغيره.
ثانياً: التحرير العملي وفتح أبواب التحرر
اتخذت مرحلة التحرر العملي عدة أساليب لإنهاء تلك الظاهرة بصورة واقعية:
- العتق بالمكاتبة: حيث رغب في المكاتبة وأوجبها على المالك إن طلبها الرقيق.
- العتق بالكفارة: حيث جعل أول الكفارة على من لزمته أن تكون عتقا للرقيق، فأول الخيارات في أي كفارة على المسلم هي عتق أحد الرقيق، ومنها كفارة القتل الخطأ، إذ كان التحرير بمثابة إحياء نفس مكان النفس التي ماتت.
- العتق بالترغيب: حيث رغب في العتق طواعية وقربة إلى الله تعالى، فجعل عتق الرقبة أحد المنجيات من عقوبة الآخرة.
- العتق من مصارف الزكاة: حيث جعل قسما من مصارف الزكاة في إعتاق الرقيق باعتباره واجباً على المجتمع ككل، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يرغب أصحابه باستمرار في عتق رقاب الرقيق، كما أنه-كما يقول الشيخ أبو زهرة -لم ينشئ رقا على حر قط وأن ما كان عنده من رقيق الجاهلية أو ما أهدي إليه فقد أعتقه.
- العتق بأم الولد: فإذا تزوجت الأمة من حر، ثم ولدت له ولداً، فإنه لا يستطيع بيعها، فإن لم يعتقها بحياته، فإنها تصير حرة بعد موته.
- العتق بالاعتداء أو الإهانة: وأصلها أن المعاملة بين الرقيق ومالكه يجب أن تكون قائمة على المودة والرحمة والتعاطف.. كي يشعر الرقيق بكيانه، ويحس بإنسانيته، ويعي أنه إنسان مخلوق شأنه كشأن أي إنسان له حق الكرامة والحياة، فإذا تعدى المالك ذلك وتجاوزه كأن لطمه على خده أو ضربه كان كفارته عتق ذلك الرقيق، فصار هذا القانون حامياً للرقيق من أي انتهاك فلا عن كونه بابا لتحريرهم.
ولأن ظاهرة الرق كانت من الظواهر الوقتية التي تنقضي بانتهاء أسبابها، سنجد أن الآيات القرآنية التي ذكرت ملك اليمين، جاءت كلها بصيغة الفعل الماضي، “مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ”، “مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ”، “مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ”، وهذا يعني أن الآيات تعالج الحالات الموجودة سابقاً دون استحداث حالات جديدة، فتأتي تلك المعالجات المذكورة أعلاه كي تنهي الظاهرة بتدرج يراعي حالة الرقيق قبل مالكيهم.
وقد اتبع الإسلام الطريقة التدريجية تلك في تحرير الرقيق حتى لا يوقع الرقيق ومالكيهم والمجتمع في الحرج، فلو أنه أعتقهم جميعا من أول يوم للحق الحرج والضرر بهؤلاء الأرقاء قبل غيرهم، وما حصل من حرج عند تحرير العبيد في أمريكا في بداية القرن الماضي من قبل إبراهام لنلوكن يؤكد ذلك، فالإسلام يعلّم الرقيق الحرية قبل منحها لهم، حتى إذا أعتقوا عرفوا كيف يعملون ولا يتمنون أو يطلبون العودة إلى الرق.
كانت هذه هي الصورة الأخلاقية التي رسمها الإسلام حتى تنتهي تلك المسألة بشكل نهائي، لكن تلك الصورة اخترقت باجتهادات فقهية خاطئة أحياناً كإجازة الاسترقاق في الحرب للمقاتل وغيره، وهذا اجتهاد معارض للنص القرآني كما ذكرت من قبل، واخترقت أيضاً بأفعال خاطئة عبر الشراء والبيع لعدد كبير من الإماء والعبيد، وكان للسلطات السياسية دور في انتشار تلك الظاهرة.
ولتصحيح معلومة خاطئة أرى البعض يكررها بغير وعي بالتاريخ، وهي أن معارك المسلمين التي كانت بين دولتهم ودولة فارس وبيزنطة أو أي دولة أخرى كانت تنتهي بعد الانتصار إلى تحويل المجتمع المنهزم إلى الرق، وسبي نساء المجتمع جميعهن ثم بيعهن، وهذه معلومة زائفة تاريخياً، وغير منطقية، إذ لو أن كل تلك المجتمعات التي فُتحت قد تحولت لعبيد وإماء لصار غالبية المجتمع عبيداً، ولكان مجتمع العبيد أكثر من الأحرار، ولكن الذي حدث أن تلك الدول (فارس والروم) كانت أسواق مجتمعاتها تعج بالنخاسة، ولما فتحت تلك البلدان ووصلها المسلمون تم الشراء بأعداد كبيرة ثم إدخالها إلى البلدان الإسلامية، وبهذه الطريقة انتشرت أسواق النخاسة في المجتمعات العربية، وليس عن طريق تحويل المنهزم إلى عبيد وإماء، حتى وإن وجدت حالات نادرة من الاسترقاق لكنها تظل محدودة، ويظل السبب الأكبر لانتشار الظاهرة هو ما ذكرته سابقاً.
كما أن تلك البلدان لم تدخل مباشرة الإسلام مما ساعد على بقائها وعدم تعمق تلك القيم عندها، إذ بقيت لقرنين أو أكثر على أديانها السابقة حتى تحولت للإسلام، ففارس مثلاً لم يكن الإسلام ديناً لأغلب المجتمع إلا بعد مرور قرنين من الزمن.
والخلاصة أن لدينا قيمة أخلاقية إسلامية ولدينا أفعال وممارسات تاريخية، والتاريخ لا يمثل الدين ولا هو جزء منه، فالدين قيم عليا والتاريخ أعمال وسلوكيات بشرية تقترب أحياناً من تلك القيم وتبتعد أحياناً أخرى، وعلينا محاكمة كل سلوك تاريخي إلى تلك القيم، على تكون تلك المحاكمة أو المساءلة في سياق ما يثبت تاريخياً، أما وأحداث التاريخ ليست بذاك اليقين فإن هذا يجعلنا نتخفف قليلاً من تلك الإدانة التي وصلت مرحلة الجلد للذات، أو من حالة الانتشاء تلك التي لا تجعلنا نعترف بأي خطأ في التاريخ.
*المصدر: كتاب “عودة القرآن” للدكتور : عبدالله القيسي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ