السؤال:
لدي سؤال بخصوص كُتّاب الوحي وجمع القرآن، وكذلك إضافة النِّقَاط إلى الأحرف، لأن حروف القرآن في البداية كانت بلا نِقَاط كما اعتاد العرب.
أشعر أن هذا الادعاء غير صحيح، وقد بحثت في موقعكم ولم أجد مقالًا يتناول هذا الموضوع. هناك من يقول إن القرآن نزل على النبي ﷺ مكتوبًا، وليس كما يُزعم أنه جُمِع في وقت لاحق، وأن النِّقَاط أُضيفت إلى الحروف بعد ذلك.
بل أرى أنه نزل بالنِّقَاط، إذ كيف يجعل الله كتابه في أيدي البشر ليضيفوا إليه أو ليختلط عليهم الأمر في حرف قد يُغيِّر المعنى؟
وهذا يجعلني أستنتج أنه لا وجود لما يُسمَّون «كُتّاب الوحي» الذين كان النبي ﷺ يُملي عليهم فيكتبون، أو أن معنى «أمّي» لا يدل على أنه لا يعرف القراءة والكتابة، بل على أن قومه لم يُنزَّل عليهم كتاب سماوي من قبل، ولم يُرسل إليهم أنبياء سابقون.
فلو افترضنا أن القرآن نزل على النبي شفهيًا، ثم كتبه كُتّاب الوحي بدون نِقَاط على الأحرف، وأُضيفت النِّقَاط بعد ذلك، فهل من المنطقي ألا يراجع النبي ﷺ هذه النِّقَاط بنفسه للتأكد من مطابقتها للوحي؟
خاصة أن الله في كثير من الآيات يشير إلى أن الذي نُزِّل على النبي وحيٌ مكتوب، مثل قوله تعالى: «ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ» و «الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ»، وغيرها من الآيات التي تُركِّز على لفظ الكتاب، أي أنه نزل مكتوبًا.
أما القول بأن النِّقَاط أُضيفت إلى الأحرف بعد وفاة النبي ﷺ بسنوات، فهذا يثير التساؤل: كيف تم اعتمادها وهو غير موجود لمراجعتها؟ فنحن حتى في الأمور الدنيوية عندما يُعِدّ أحد طلاب العلم رسالة ماجستير أو دكتوراه، لا بد من مراجعتها من قبل المشرف، فكيف برسالة ربانية ستُتلى إلى قيام الساعة؟!
فأين النبي ﷺ من مراجعة هذه النِّقَاط واعتمادها؟
ثم إن الصحابة لم يكونوا معصومين، وربما وقع أحدهم في خطأ، فإذا قلنا إن الصحابة والتابعين هم من كتبوا القرآن وأضافوا النِّقَاط إلى حروفه، فسنقع في فخ الذين يؤمنون بما يسمونه «الوحي الثاني»، أي الأحاديث، وزعمهم أن مَن نقل الأحاديث هم أنفسهم مَن نقلوا القرآن، وأن رفض بعض الأحاديث الصحيحة السند يؤدي لاحقًا إلى رفض القرآن نفسه، وهكذا يُخَوِّفون أتباعهم من نقد الأحاديث.
فهل يمكن توضيح هذا الموضوع؟ جزاكم الله خيرًا مقدمًا.
الجواب:
هذا السؤال يطرح مسألة هامة تُعد من أوائل القضايا التي أثيرت حول القرآن الكريم،
فهذا الادعاء يُعد بمثابة النواة الأولى لزرع بذور الشك حول أحكام القرآن، كما يُعد تمهيدًا لوضع حجر الأساس لتشييد الدين الموازي لدين الله تعالى، ومن ثَم إشهار السلاح في وجه من يعارضه _كما ذكرت السائلة الكريمة_ وكما سيتبين.
وسنحاول الإجابة على السؤال عبر النقاط التالية:
أولا: معنى كلمة (الأميِّ)
تُطلق هذه الكلمة _عند أكثر الناس_ على من يجهل القراءة والكتابة، ولكنه في كتاب الله تعالى قد جاءت بمعنى من ليس لديهم كتاب سماوي أو أنهم ليسوا على علم ودراية بمحتوى الكتاب الذي بين أيديهم والدليل على ذلك قوله تعالى:
﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ آل عمران (20)
فجاءت لفظ الأميين في مقابل (الذين أتوا الكتاب)
وكذلك قوله تعالى:
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ البقرة (78)
مما يدل على أن علمهم بالكتب السماوية ليس علمًا حقيقيًا عن تدبر ودراسة وإنما مجرد أماني، ولو أراد الله تعالى نفي القراءة والكتابة عنهم لقال (ومنهم أميون لا يتلون ولا يخطون الكتاب).
ولو قلنا أن معنى الأمي هو الجهل بالقراءة والكتابة للزم أن يكون كل أهل مكة ومن حولها لا يقرؤون ولا يكتبون في قوله تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ الجمعة (2)
ولكنه تعالى بيَّن أن هؤلاء الأميين قبل مجيء الرسول لم يأتهم كتاب سماوي وأنهم: ﴿كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
والأمر نفسه في قوله تعالى:
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ آل عمران (75)
ولو كان معنى الأميين هم الذين لا يعرفون القراءة والكتابة لكان المعنى هنا أن تأديتهم للأمانة كان خاصًا بمن يعرف القراءة والكتابة دون غيرهم، وهذا غير صحيح.
فالأميون هم الذين لم ينزل عليهم كتابًا سماويا وليسوا على دراية بالكتب السابقة:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾.
ثانيا: القول بتدوين وجمع القرآن بعد وفاة الرسول!
قد بدأ هذا الأمر بتلك الروايات التي تدور كلها حول الزعم أنه لم يتم تدوين القرآن كاملًا في كتاب واحد، وأن الرسول مات وتركه متناثرًا فبعضه كان مكتوبًا في رقاع وجلود وبعضه محفوظًا في صدور الرجال، وأنه قد جُمع في عصر الخلفاء الراشدين من بعده؛ وذلك عندما رأوا استشهاد حفظة القرآن وكُتَّاب الوحي في حروب الردة فخافوا على القرآن من الضياع! فقرروا تدوينه ثم جمعه في كتاب واحد!
ونضع خطًا تحت خوفهم من ضياع القرآن: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾!!
ثالثا: الرسول لم يترك جمع كتاب الله لاجتهاد الصحابة
والحق أن ما تشعر به السائلة الكريمة تجاه هذا الادعاء صحيح ولا شبهة فيه، والأمر هنا لا يتوقف على ما ذكرته من عدم عصمة الصحابة – رضي الله عنهم – والخطأ الوارد منهم فحسب؛ إذ أننا حتى لو افترضنا عصمتهم أو حتى استحالة كذبهم وتحريفهم لكتاب الله تعالى، فالأمر أكبر من ذلك بكثير فيما يتعلق بجنب الله تعالى ورسالته الخاتمة، وكذلك في حق رسوله الكريم.
فما يتعلق بجنب الله تعالى فإنه قد منَّ الله تعالى على عباده بكمال دينه الذي ارتضاه لهم حين قال:
﴿اليومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ المائدة (3)
فكماله يقتضي جمعه في كتاب واحد بيد رسوله.
وبجنب كتابه الذي:
﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ هود (1)
وأنزله تعالى بالحق والميزان:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ الحديد (25)
فهل يكتمل الدين بغير اكتمال القرآن الذي هو عماد هذا الدين؟ وأين الكتاب الذي أُحكم وفُصَّل من لدن الحكيم الخبير؟ وكيف أُرسل الرسول بكتاب قد تُرك – على حد زعمهم – أوراقًا ورقاعًا متناثرة قد تضل طريقها وصدور رجال قد تنسى وقد تموت!
فهل بدَّل تعالى قوله:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ الحجر (9) فلم يعد الذكر محفوظًا؟ ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾.
رابعا: مهمة الرسول تقتضي كتابة القرآن
وإذا جئنا إلى الرسول، فما هي مهمته التي بُعث من أجلها؟ أليست تعليم الكتاب وإيصاله لأمته قبل الممات مصداقًا لقوله:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ…﴾ الجمعة (2)
أم أن مهمته ﷺ في أن يتلو القرآن على الحاضرين وما كُتب منه كُتب وما حُفظ منه حُفظ وما لم يدَّون فكيفيه ما حفظه الرجال وفُرق بين الأمصار؟ فهل مات ﷺ قبل أن ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ واكتفى بما تُرك مكتوبًا ومتناثرًا في الدور واعتمد على ما حُفظ في الصدور؟!
وهل بُلِّغ أصحابُ الرسول وكتبةُ الوحي من الحكمة التي تجعلهم أعلم وأدرى وأشد حرصًا وهمًّة من رسولهم في حفظ الكتاب الذي قد بُعث نبيًا ورسولًا من أجله، فعلموا ما لم يعلمه، وفعلوا ما لم يفعله، وتذكروا ما نسيه، وانتبهوا لما غفل عنه؟!
فكيف حُفظ الذكرُ بعد وفاته وهو المؤيد بوحي السماء؟ فماذا إن اختلف الصحابة وكتًّاب الوحي فيما يتعلق بأسماء السور وتدوين الآيات وسياقاتها وترتيبها ورسم كلماتها وحركاتها وسكناتها، فمن أين لهم بالقرار الصائب وصاحب الوحي نفسه الذي لم ينطق عن الهوى و ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ﴾ النجم (5) قد مات؟! أم أن الصحابة كذلك أُنزل عليهم الوحي بالذكر؟!
فما الذي أنساه وقد خاطبه ربه: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَىٰ﴾ الأعلى (6).
وما الذي جعل همته تتراخى حتى يدركه الموت وهو الذي كان متعجلًا في تحريك لسانه به من شدة حرصه على كل كلمة وحركة وسكنة فطمأنه ربه:
﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ طه (114) ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ القيامة (16) ووعده ربه: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ القيامة (17: 18).
وما الذي شغل الصادق الأمين عن تبليغ الرسالة وتأدية الأمانة؟:
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ المائدة (67)
أليس أمره تعالى له ﴿بَلِّغْ﴾ واضحًا وأنه إن لم يفعل ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾؟! فهل مات الرسول وما بلغ رسالة ربه؟
﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾!!
وكذلك نتساءل، كيف كان يقرأ الرسول وصحابته القرآن آناء الليل وأطراف النهار:
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ… فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ المزّمّل (20)
فهل كانوا يذهبون – بما فيهم الرسول نفسه – إلى البيوت يطرقونها وقت السحر يطلبون الآيات المكتوبة عند غيرهم؟ أم أن كل بيت يتلو ما وجد عنده فقط وما عند غيره فليس له منه نصيب؟!
كل هذه التساؤلات وأكثر تدعونا إلى اليقين بأن هذا الادعاء اكتتبه أعداء الدين ظلمًا وزورًا على كتاب الله تعالى؛ والهدف من ورائه _كما ذكرنا_ من أنه كان النواة الأولى وحجر الأساس للشك في القرآن؛ ليتخذه المشككون حجة في الطعن فيه بأنه لربما زاد عليه الصحابة أو نقصوا منه وهم ليسوا معصومين من الخطأ.
خامسا: الدين الموازي
وقد كان هذا الزعم تأسيسا للدين الموازي لكتاب الله تعالى، حين زعموا أن الكثير من آياته قد نُسخت بروايات غيَّرت وبدّلت أحكامه وشرائعه، بل الأدهى والأمر من ذلك أنهم ادعوا أن بعض الآيات قد ضاعت، بل وصلوا في الكذب والبهتان أن قالوا أن هناك بعض الآيات قد أكلتها الداجن كقولهم في الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) فزعموا أنها نسخت حكم الزنا في كتاب الله تعالى! ولا عجب أنهم كعادتهم يناقضون أنفسهم، فتارة يدًّعون خوف الصحابة على ضياع القرآن ثم يزعمون ضياع بعضه! ﴿فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾.
وحتى يتم إعطاء هذه الروايات الصبغة التشريعية وفرضية الاتباع، وحتى يدفعوا عنها تهمة الظنية كان يلزمهم خلق هالة من الأكاذيب حول القرآن وإضفاء طابع الظنية عليه؛ حتى يصبح مساويًا لما أسموه بسنة الرسول التي افتريت عليه بعد موته بعقود وقرون وخضعت لتحريفات البشر وجُعلت له سنة خاصة به بعيدة كل البعد عن سنة ربه – وهو الذي كان أول الناس اتباعًا لها – فزعموا أن كلاً من (الآيات والروايات) لم يقم الرسول بجمعهما على حد سواء، وأن الصحابة الذين كتبوا الأحاديث وجمعوها هم أنفسهم الذين كتبوا القرآن وجمعوه.
واستخدموا هذا الادعاء كسلاح يُشهر في وجه كل متدبر، فإن علا صوت أحد المفكرين من ذوي الألباب وبيَّن تلك الافتراءات والتحريفات: ﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ وحاربوه بنفس سلاحه بالقول بأن القرآن كذلك قد جُمع بعد وفاة النبي، وأن من يطعن في سنتهم اليوم فسوف يأتي عليه الوقت ليطعن في القرآن لاحقًا كنتيجة حتمية، وكأن بداية الكفر والإلحاد تبدأ بإنكار الروايات لينتهي المطاف بصاحبها إلى إنكار الآيات البينات، وهؤلاء يتوعدهم ربهم في قوله:
﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ، يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكُمُ، النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ الحج (72)
سادسا: حفظ القرآن في الصدور
ولنا هنا وقفة حتى لا يُفهم الكلام على نحو خاطئ.
إن رد هذا الادعاء وإثبات أن القرآن قد تم تدوينه وجمعه في كتاب واحد في حياة النبي الكريم لا يمنع من حفظه في صدور المؤمنين به منذ نزوله وإلى قيام الساعة:
﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ العنكبوت (49).
وكذلك لا يمنع من وجود كتبة للقرآن في عهد النبي الكريم، ولكن مهمتهم ليست كما قيل من أن الرسول كان يملي عليهم، وإنما كان الرسول يكتب بنفسه كل ما يتلقاه من الوحي، ومهمة هؤلاء تنحصر في كتابة بعض نُسخ الآيات مما كتبه الرسول لتلاوتها على بقية المؤمنين ونشره في مختلف الأمصار للدعوة به.
ولا شك أن الله تعالى سخر الرجال من بعد رسوله _إلى يوم الدين_ للحفاظ على كتابه وإعادة نسخه ونشر دعوته كما حدث بالفعل.
سابعا: هل نزل القرآن مكتوبا؟
أما بالنسبة لمسألة اعتقاد السائلة الكريمة أن القرآن نزل مكتوبًا مخطوطًا من السماء واستدلالها بالآيات الكثيرة التي ذكرت لفظ الكتاب كقوله تعالى:
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ السجدة (2)
فالحق أن الآيات التي استشهدت بها لا تدعم هذا الرأي؛ إذ أن كلمة الكتاب في القرآن لا تقتصر فقط على الرسالة المكتوبة فحسب، وإنما تحمل معان عدة حسب السياق نذكر منها:
ما جاء في قصة النبي سليمان:
﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ… قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ النّمل (29)
والمعنى واضح أنها رسالة مكتوبة بخط اليد.
كما يشير (الكتاب) كذلك إلى حكمه تعالى وسننه وتقديره، كقوله تعالى في النكاح: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ﴾ النساء (24) وقوله في تقدير الموت ومدة اللبث: ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ الرّوم (56) وقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ المجادلة (21).
والدليل على ذلك أن أهل الكتاب والمشركين قد طالبوا الرسول بأن يُنزل عليهم كتابًا كشرط للإيمان به في قوله:
﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ النساء (153)
وقد نفى سبحانه وتعالى حدوث ذلك الأمر حين بيًّن الحكمة في مواطن أخرى منها:
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ الأنعام (7)
وهذا يؤكد أن القرآن لم ينزل مكتوبًا من السماء لعدم جدوى ذلك أمام عناد المكذبين.
كما أن القرآن لم ينزل كوحدة واحدة وإنما نزل متفرقًا:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ الفرقان (32)
كذلك قوله تعالى لرسوله:
﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ العنكبوت (48
ففي هذا الآية دليل على أن الذي كتب القرآن عند نزوله هو الرسول نفسه، ولو نزل مكتوبًا فلا حاجة له بكتابته مرة أخرى.
وفي هذه الآية إعجاز طمس أعين المشركين لعلمهم أنه لم يكن يعرف عن الكتب السماوية من قبل ولم يقرأ أو يخط كتابًا منها بيده:
﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ يونس (16).
والآيات التي تتحدث عن القرآن بلفظ الكتاب تعني اكتماله في حياة الرسول، فحين أراد تعالى أن يذكر أجزاءً منه قال:
﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض﴾ البقرة (85)
ولكن قوله: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ البقرة (2) تشير إلى الكتاب كوحدة متكاملة وليس مجرد رقاع منثورة وأخرى محفوظة في الصدور؛ إذ أن الهدي ينبغي أن يكون عن اكتمال أركانه وأحكامه وتبيانه لكل صغيرة وكبيرة:
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ النحل (89)
والذي يؤكد على أن الكتاب قد اكتمل في حياة الرسول الكريم بداية من قوله ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ الفاتحة (1) إلى قوله ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ النّاس (6). ليتبين لنا أن الرسول نفسه هو الذي تولى كتابة القرآن وجمعه في كتاب واحد قبل وفاته وهذا ما أكدت عليه آيات الكتاب نفسه في قوله تعالى:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ الجن (28)
فبيَّن تعالى أنه عند نزول الوحي بالقرآن على الرسول فإنه يسلك من أمامه ومن خلفه رصدا وجندًا وحرسًا من الملائكة يحفظونه ويترصدون حوله لمنع الشيطان من التدخل أو الوسوسة في الوحي، وليعلم الرسول علم اليقين أنه قد بُلغ رسالات ربه وأنه أدرك وفهم وحفظ كل حرف وكلمة وحركة وسكنة من الآيات وأحاط بكل صغيرة وكبيرة في الكتاب وأحصى كل شيء عددًا.
وختامًا:
فلا يقال إلا ما قال رب العزة:
﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ فصّلت (41: 42)
الباحثة: شيماء أبو زيد


بارك الله فيك يارب ماشاء الله شرحك مأكد بالآيات الكريمه ربنا يشرح صدرك و يثبتك و ينور بصرتك
بارك الله في هذا الموقع وجزاكم الله خيرا. أنرتم حياتنا بفهم كناب الله. وأنا كان عندي يقبن بهذا الكلام وأن من كمال الرسالة ألا يموت النبي إلا وكتاب الله محفوظ ليس في الصدور فقط بل كاملا في كتاب، وإلا عمت الفوضى التي أوصلوها إلينا وأقنعوا الأمة بها..
بارك الله فيكي كنت على يقين بذلك ولكني كنت احتاج لمثل هذا الشرح الجميل والموفق ليكون حجه على من يدعي عكس ذلك ..
اذا أفهم من هذا ان موضوع ان القرآن كان مكتوب بدون نقاط على الحروف هذه كذبه وان النبي كتبه بالنقاط كما هو في يدينا الان؟ ؟حيث ان تغير نقطه مكان اخري يغير معاني الكلمات