حبل الله
خطبة الجمعة

خطبة الجمعة

د. عبدالله القيسي

مشكلات كثيرة يعاني منها الخطاب الوعظي عموماً وخطبة الجمعة خصوصاً، بعضها في ذات الخطاب وبعضها في وسائله..

في إحدى المرات وبعد الانتهاء من خطبة الجمعة ذهبت إلى الخطيب قائلاً: أخي الحبيب لقد كان صوتك في خطبة الجمعة مرتفعاً ومزعجا لآذاننا وصار أكثر مما يحتاج إليه السامع فهلا خففته؟ قال: إنني أتأسى بالنبي عليه الصلاة والسلام فقد كان يرفع صوته حتى تنتفخ أوداجه، قلت: لكنك لو تأسيت به وحذفت الميكرفونات فإن صوتك حينها مع انتفاخ أوداجك لن يبلغ مؤخرة المسجد! فهل يصح أن تجمع علينا انتفاخ أوداجك وانتفاخ أوداج الميكرفونات؟، لا أظنك تقبله لو كنت في مكاننا، ولا أظن نبينا كذلك يقبله لو رأى حالنا.

خطبة أخرى وفي مسجد آخر اعتلى الخطيب المنبر وظل يخطب فينا ساعة كاملة، كان معي موعد مهم بعد الصلاة والوقت يمر، والخطيب يريد أن يشرح الإسلام كاملا في خطبة واحدة!! وحين رأيت الضجر في وجوه الناس، أشرت له بيدي إلى الساعة ليفهم أن الوقت طال، فهم ذلك وزاد بعدها عشر دقائق حتى انتفخت أوداجي..

بعد الصلاة انقسم من بجواري إلى قسمين: منهم من رأى فعلي حسناً وقال: جزاك الله خيرا، ومنهم من انزعج من إشارتي لخطيب الجمعة وقال: يا أخي لا يصح أن تؤشر للخطيب وتوقفه عن خطابه، فقلت: لا أظن ذلك الفعل خاطئاً بل هو صحيح ومندوب، وسأحكي لك قصة مشابهة في تراثنا.

روي عن جابر بن عبد الله أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام ثم يأتي قومه فصلى ليلة مع النبي عليه الصلاة والسلام العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان، قال لا والله ولآتين رسول الله فلأَخبرنّه، فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله: إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار وإن معاذا صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله على معاذ فقال: “يا معاذ أَفَتَّانٌ أنت -ثلاثا- فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة”.

وتخيلوا معي حال النبي عليه الصلاة والسلام وهو يكرر العبارة ثلاثا، إنني على يقين أنه لو شاهد خطباءنا اليوم لقالها مائة مرة، إن فعل هذا الصحابي على إمامه في الصلاة يعلمنا درسا بسيطاً تجاه من يطيل الخطبة أيضاً، صحيح أن هناك من اتهمه في فعله ذلك بالنفاق وهو ما سيتكرر اليوم لمن يفعل ما يشبهه، ولكن لا يهم ذلك ما دام النبي عليه الصلاة والسلام قد أقره على فعله وأنكر على معاذ فعلته تلك، وكذلك الحال بالنسبة لخطبة الجمعة التي يحضرها الكبير والضعيف وذو الحاجة.

ثم طرحت سؤالاً على من كان حولي كم أطول خطبة خطبها النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يجيبوا بشيء، فقلت: أكبر خطبة ستجدونها في كتب الحديث لن تتجاوز سبع دقائق، فلماذا لا يقتدي الخطباء بالنبي عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة! والغريب أن ذلك الخطيب بعد أن أطال الخطبة أطال أيضا في الصلاة، وكانت حجته في إطالة الصلاة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطيلها، فتعجبت كيف استن بالنبي في الثانية وترك الأولى!

كان هذا حديثاً مقتضباً عن بعض ما يحيط خطبة الجمعة من إشكالات، ولكن الإشكال الأهم هو الخطاب ذاته، كيف يؤدي رسالته على الوجه الصحيح كما كان في أول الرسالة.

إن الهدف والمقصد الأساس من خطبة الجمعة باعتقادي هو التذكير والموعظة الحسنة لإحياء الضمير الأخلاقي، والمقصود بإحياء الضمير الأخلاقي، إحياء نوازع الخير وإماتة نوازع الشر عند الإنسان، فيكون الإنسان محمياً في حياته بثلاثة أسوار:

1-القانون وهذا من وظيفة الدولة.

2- العرف الاجتماعي وهذا من وظيفة المجتمع.

3- الضمير الأخلاقي وهذا من وظيفة الخطاب الديني، فإذا أفرغنا الموعظة الحسنة التي تحيي الضمير الأخلاقي فقد هدمنا سوراً لحماية الإنسان.

أما عن موضوع خطبة الجمعة فلو أني كنت خطيباً لجعلت خطبة الجمعة صفحة من كتاب الله تفسيراً وتأويلاً، تقريباً لمعنى الآيات بالتفسير السياقي، وتنزيلاً لمعنى الآيات بالتأويل المقاصدي، وهذا سيحقق عدة أهداف منها:

-أن القرآن هو رسالة الإسلام وقد يعيش المسلم عمره كاملاً دون أن يتوقف عند رسالة الإسلام كاملة، يسمعها أو يقرأها أو يفهمها، بينما سيسمع مئات الحكايات والقصص والروايات التي لن تعدو بأن تكون حاشية على متن الرسالة، وفي جزء كبير منها مخالف لذلك المتن.

-يتميز القرآن بعرضه الشامل للقضايا، فتجد في الآية الواحدة أو المقطع من الآيات ربطا بين الإيمان والأخلاق والتشريع والقصص والشعائر، وهذا يعني أن الموعظة الأسبوعية ستحقق كل ذلك في كل خطبة، فيتحقق الفرد بقيمة أخلاقية أو تشريعية ويربطها بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهذا يحقق هدف القرآن والرسالة بأنه كتاب تذكرة وهدى، وهدي النبي في التبليغ بأن يتلو الآيات ويزكي النفوس ويعلمهم الكتاب والحكمة.

-هذه الطريقة ستيسّر على الخطيب اختيار موضوع خطبته لأنه سيطرح القرآن كاملاً في اثني عشر عاماً إن عمل صفحة واحدة، أو ست سنوات إن عمل ورقة كاملة، وستربط المسلم بالقرآن الكريم وربما قرأ عن تفسير الآيات قبل أن يأتي لاستماع الخطبة، فيظل متدبراً للقرآن متفاعلاً معه لا مع القصص والحكايات.

-بهذه الطريقة سيخرج الخطيب من حرج الضغط الاجتماعي والسياسي، لأنه سيعلّم المستمع القيم الأساسية ويدع الاختيار له في الواقع، دون أن يصرح الخطيب بالانحياز لطرف من أطراف المجتمع المختلف مذهبياً وسياساً، وبهذا يتحقق الطرح الشمولي للرسالة دون تضييقه في زاوية محددة، ويحقق في نفس الوقت وقوف الخطيب بالحياد تجاه التنوع المجتمعي، ويكون مرجعاً للموقف الأخلاقي السليم، بينما يترك للناس اختيارهم السياسي والمذهبي.

-بهذه الطريقة أيضاً لن تستطيع السلطة السياسية إحراجه بالسكوت في هذه القضية أو تلك، لأنه لن يتحدث عنها فور قوعها، وإنما سيعلم الناس الموقف منها قبل حدوثها، فإن حدثت عرف الناس تلقائيا الموقف السليم، فمثلا تكررت قصة فرعون وموسى كثيراً، وفي كل تلك القصص صراع الطغيان مع الحرية، فإن رأوا طغياناً عرفوا كيف يتعاملوا معه، وهكذا.

-الحديث حول القرآن سيخفف الصراع المذهبي ويبتعد ولو قليلاً عن التخندق للخطاب المذهبي، الذي زاد له حاشية خاصة بالروايات والأقوال، وهذا سيجعل من خطبة الجمعة خطاباً جامعاً قدر الإمكان، ويتحقق ذلك أكثر بحصافة وحكمة الخطيب ذاته.

-لم تكن خطبة النبي عليه الصلاة والسلام سوى تلاوة للآيات في اليوم الذي يجتمع فيه كل المسلمين لتصلهم الرسالة جميعاً، ولذا لن تجدوا في كتب الحديث خطب الجمعة في عشر سنوات خطبها، وإنما ستجدون رواية واحدة عن إحدى الصحابيات أنها سمعت سورة ق في خطبة الجمعة.

لست مع أولئك الذين يرون الحديث المستمر عن أحداث الواقع، لما يحدث ذلك من إشكالات عند الخطباء الذين لا يحسنون طرحها، أو يكون حديث كل منهم في واد مختلف، وهذا فتح الباب للسلطات لتهيمن على المساجد والخطاب الديني وتجيره لصالحها، وبهذا نخسر منبراً يفترض أنه ليس تابعاً لأي جهة، وإنما ينحاز للموقف الأخلاقي السديد الذي يحمي الإنسان وحقوقه وحريته.

*المصدر: كتاب “عودة القرآن“، للدكتور عبدالله القيسي

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.