السؤال:
كنتُ قد قرأت في موقعكم هنا سؤالًا حول معنى كلمة “الناس” في القرآن الكريم، لأن بعض المفكرين يقولون إنها تعني الرجال فقط. وقد كانت إجابتكم تنفي هذا المعنى، وأنا مقتنعة بذلك، لكن استوقفتني بدايات سورة النساء:
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾ [النساء: 1]
ثم يأتي بعد ذلك الكلام موجَّهًا إلى فئةٍ معينة من الناس، حتى نصل إلى قوله تعالى:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ..﴾ [النساء: 3]
وهذا الخطاب موجَّه بالتأكيد إلى الرجال!، لكن أوّل الخطاب كان بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، فكيف تكون كلمة “الناس” هنا شاملة للرجال والنساء، بينما سياق الآيات بعد ذلك يتحدث عن أحكام تخص الرجال فقط؟
وإن افترضنا أن “الناس” هنا تعني الرجال، فكيف نُفرِّق بين المواضع الأخرى في القرآن التي وردت فيها الكلمة، وهي كثيرة جدًا؟
لأن من يتبنّى هذه الفكرة يقول إن النساء غير مكلَّفات، وإن خطاب الله موجَّه للرجال فقط، حتى في الأمور الخاصة بالنساء، لأن الرجل هو المكلَّف عنها.
واستدلّوا أيضًا بأن الله قال في سورة الأعراف:
﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾ [الأعراف: 46]
فقالوا إن وجود “الرجال” فقط في هذا الموضع دليل على أن الخطاب الإلهي خاصٌّ بالذكور.
فأرجو منكم التوضيح، لأن هذا الموضوع حيّرني كثيرًا.
وشكرًا مقدمًا.
الجواب:
سؤالك يتعلق ببابين مهمين من علوم القرآن:
الأول: الخطاب القرآني العام والخاصّ. والثاني: دلالة الألفاظ المشتركة (كلمة “الناس” مثلًا).
وسنحال الإجابة على السؤال في النقاط التالية:
أولا: معنى كلمة «الناس» في القرآن
كلمة “الناس” في اللغة العربية تشمل جميع بني آدم — رجالًا ونساءً — ولا تُطلَق على الذكور فقط، إلا إذا دلّ السياق على التخصيص.
قال ابن فارس في مقاييس اللغة:
“النون والواو والسين أصلٌ يدلّ على ظهورٍ وبروزٍ، ومنه الناس، لأنهم ظاهرون في الأرض.”
أي أن الكلمة لا تفرّق بين الذكر والأنثى.
وقال الطبري في تفسير قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}: أي يا جميع بني آدم، المؤمن والكافر، الذكر والأنثى.
فالأصل في لفظ “الناس” أنه لفظ عام يشمل الجميع، ولا يُقيَّد بجنس أو فئة إلا إذا خصّصه السياق.
ثانيا: لماذا بدأ الله سورة النساء بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ثم تحدّث عن أحكام تخص الرجال؟
هذا من أسلوب القرآن البليغ. فالله تعالى بدأ الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لتذكير الجميع – رجالًا ونساءً – بأصل الخَلْق ووحدة البشرية، فقال:
﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]
ثم بعد هذا التمهيد العام، انتقل الخطاب إلى بيان أحكام معيّنة تخصّ فئة من الناس، وهم الرجال، كأحكام الزواج واليتامى والمهور.
فالخطاب العام يشمل الجميع، لكن التفاصيل التالية تُوجَّه إلى من يختصّ بهم الحكم.
وهذا لا يعني أن “الناس” = الرجال، بل أن الخطاب تغيّر سياقه من العام إلى الخاص.
مثال توضيحي:
قال الله تعالى في سورة آل عمران (173–174)
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 173-174]
كلمة “النَّاس” تكررت مرتين في الآية نفسها، ولكن بمعنيين مختلفين:
- الموضع الأول:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ والمقصود بـ “الناس” هنا شخص معيّن أو جماعة محددة من الناس، وليس عموم البشر. والمفسرون (كالطبري والقرطبي وابن كثير) يذكرون أن القائل هم مجموعة من المنافقين الذين أرادوا تخويف المؤمنين بعد معركة أحد.
إذًا: الناس هنا لفظ خاص، وإن كان لفظه عامًا.
- الموضع الثاني:
﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ والمقصود بـ “الناس” في هذا الموضع هو عموم المشركين من قريش وحلفائهم الذين تجهزوا لقتال المؤمنين. وهنا صار المعنى عامًّا يشمل فئة كبيرة من البشر (العدوّ كلّه).
إذن في السياق نفسه:
- «الناس» الأولى خاصة (شخص أو فئة محددة من المنافقين أو المخذّلين)
- «الناس» الثانية عامة (الكفار أو عموم العدوّ)
ثالثا: هل النساء مكلَّفات بالشرع مثل الرجال؟
نعم، النساء مكلَّفات تمامًا كالرجال، وهذا ثابت بنص القرآن الكريم. قال تعالى:
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: 195]
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ .. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]
فهذه الآيات ومثيلاتها تُبطل تمامًا القول بأن النساء غير مكلَّفات.
بل إن الخطاب القرآني حين يأتي بصيغة المذكر، يكون على طريقة العرب في شمول اللفظ للذكور والإناث معًا، إلا إن دلّ الدليل على التخصيص.
رابعا: قولهم إن “الرجال فقط على الأعراف”
الآية التي استدلّوا بها لا تدلّ على أن النساء غير موجودات على الأعراف أو غير مكلَّفات، بل تتحدث عن فئة من الناس (رجال) كان لهم دورٌ معيّن. وهم جماعة من المؤمنين، سُمّوا رجالًا لترجلهم كما قيل في القادمين للحج:
﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ﴾ [ الحج: 27].
فـ (رجالا) في الآية وصف للجنسين إذ يأتون للحج من كل فج عميق. وقال تعالى في موضع آخر:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23]
والمقصود بهم المؤمنون الصادقون جميعًا، وليس الذكور فقط. وقال تعالى:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: 36- 37]
فكلمة “رجال” هنا لا يقتصر معناها على الذكور، بل تشمل النساء اللاتي يرتدن المساجد،
وقد غلب تسمية البالغين من الذكور بالرجال لترجلهم وسعيهم في الأرض لطلب الرزق، فليس اللفظ مقصورا عليهم.
خامسا: قاعدة مهمة في فهم الخطاب القرآني
اللغة العربية تقوم على قاعدة أن: “المذكّر إذا أُطلق شمل المذكر والمؤنث ما لم يأتِ دليل على التخصيص.”
ولهذا فخطاب القرآن الموجَّه بـ “يا أيها الناس”، أو “يا أيها الذين آمنوا”، يشمل الرجال والنساء معًا، لأن كليهما داخل في وصف الإيمان أو الإنسانية.
أما تخصيص بعض الأوامر بالذكور، مثل “فانكحوا”، فهو لأن الزواج في تلك الصيغة خاصّ بدور الرجل في العقد باعتباره الطرف المباشر له والمكلف بتبعاته كدفع المهر والنفقة وغيرهما، بينما جاءت أحكام أخرى تخص النساء في مواضع أخرى بخطاب خاص للمؤنث لأنه لا يشمل الذكور، مثل قوله تعالى:
﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: 233]
فكلٌّ له نصيبه من الخطاب الشرعي.
الخلاصة
-كلمة “الناس” في القرآن تشمل جميع البشر، رجالًا ونساءً.
-بدايات سورة النساء خطابٌ عام لجميع البشر للتذكير بالأصل الإنساني الواحد.
-بعدها انتقل القرآن إلى أحكامٍ تخصّ الرجال لأنهم المعنيون بتلك المسائل في السياق.
-النساء مكلَّفات شرعًا مثل الرجال تمامًا، والقرآن صرّح بذلك.
-لفظ “رجال” في القرآن لا يعني نفي وجود النساء، بل هو تعبير لغوي تغليبي.
-القول بأن النساء غير مكلَّفات باطل تمامًا لأنه خلاف نصوص القرآن الصريحة.
-الخطاب للمذكر يشمل الجنسين بينما الخطاب للمؤنث يقتصر على جنسهن.


رد مبدع كالعادة جزاكم الله عنا كل خير