حبل الله
الحيرة والتشتت بسبب كثرة المعلومات الدينية المنتشرة على الإنترنت

الحيرة والتشتت بسبب كثرة المعلومات الدينية المنتشرة على الإنترنت

السؤال:

أنا شاب مثل كثير من الشباب في هذا الزمن، أجد نفسي مشتتًا بسبب كثرة المعلومات الدينية المنتشرة على الإنترنت. وفوق ذلك أعاني من الوسواس القهري، وهذا الوسواس جعل تعلمي للدين شبه مستحيل. فعندما أبحث عن حكم مسألة معينة، أبدأ بتحليلها كثيرًا وأحاول فهم كل جانب منها، حتى أصل إلى مرحلة من الإرهاق والعجز عن اتخاذ قرار واضح، فأترك المسألة وأتجنب الفعل خوفًا من أن يكون حرامًا. في الوقت نفسه، لا أشعر بالراحة عندما أكتفي بأخذ رأي عالم وأقلده دون أن أفهم الدليل وراء هذا الرأي، لأنني أريد أن أعمل عن علم وفهم. فسؤالي لكم هو: كيف أتعامل مع هذا الوسواس الديني؟ وماذا أفعل عندما أعجز عن التفكير أو الوصول إلى نتيجة في مسألة فقهية؟ هل الأفضل أن أتركها تمامًا، أم أكتفي بالتقليد في هذه الحالة؟ أم ماذا؟ جزاكم الله خيرا

الجواب:

هذا السؤال مهم لأنه يُعبّر عن حيرة حقيقية يعيشها كثير من الشباب اليوم بين حبّهم الصادق للدين، وبين خوفهم من الوقوع في الخطأ أو التقصير. وسنحاول الإجابة على السؤال عبر النقاط التالية:

أولًا: تفهّم نفسك ولا تَشعُر بالذنب من وجود الوسواس

ما تمرّ به ليس ضعف إيمان، بل هو ابتلاء في طريق طلب الحق، لكن الوسواس يأتي ليشوّش على النيةٍ الصافية، فيحوّل الدين من طمأنينة إلى قلق.

والعلاج الأول للوسوسة هو الإعراض وعدم الاسترسال، لا الاستمرار في التحليل العقلي المرهق، أما الاستعاذة بالله من الشيطان فهي مفتاح التخلص من الوسوسة: قال الله تعالى:

﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ ‌الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 200-201] 

وقد روي عن نبينا الكريم أنه قال:

“‌يأتي ‌الشيطانُ ‌أحدَكم ‌فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته” (رواه البخاري ومسلم)

ثانيًا: لا يُطلب من المسلم أن يفهم كل شيء قبل أن يعمل

ليس من الواجب أن تكون عالمًا لتعبد الله عبادة صحيحة، لأن ذلك متعذر على معظم الناس، لذا شرع الله تعالى لنا أن نسأل أهل العلم في المسائل التي لا نعلمها فقال تعالى:

﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].

﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ ‌يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83] 

أي أن التقليد للعالم الراسخ الموثوق عبادة مأجورة، وليس تقصيرًا.

فلو كنت مريضًا، هل يشترط أن تشخص مرضك ثم تفهم تركيب كل دواء قبل أن تأخذه؟ كلا، بل تثق بالطبيب المعالج والصيدلاني الذي يصرف الدواء. وهذا لا يعني عدم وجود هامش الخطأ عند هؤلاء، بل لأنهم أدرى منك بصنتعهم على كل حال،
كذلك في الدين، الله تعالى لا يُكلفك إلا بما تستطيع.

فالدين طريق طمأنينة، لا طريق قلق. وما دام قلبك يريد الحق، فالله سيقودك إليه، قال الله تعالى:

﴿وَالَّذِينَ ‌جَاهَدُوا ‌فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69] 

فمن الجهاد أن تتعلم على يد عالم راسخ في العلم تثق بدينه وعلمه فيرشدك إلى الحكمة الموجودة في القرآن، ويدربك على أساليب فهم القرآن واستنباط الحكم والأحكام منه.

وقد حذر القرآن الكريم من علماء الفتنة وكذلك من العلماء الأميين، بينما وجه لتلقي العلم من الراسخين فيه الذين يأخذون العلم من آيات الله جميعها، أي لا يأخذون بآية ويتركون أخرى، كما أنهم يفسرون الكتاب بما فسره الله تعالى به، حيث إن آيات الكتاب منها المحكم ومنها المتشابه، فالعلماء الراسخون لا يؤولون المتشابهات على هواهم، وإنما يردونها إلى المحكمات، حيث بالجمع بينهما يظهر مراد الله سبحانه.

*وللتوسع في المسألة يرجى الاطلاع على العنوان التالي: العلماء في القرآن الكريم

ثالثًا: من الناحية النفسية والاجتماعية

ما يعانيه السائل الكريم يُشبه ما يسمّيه الأطباء “التحليل المفرط القهري”، وفيه يظن الشخص أن عليه أن يفهم كل التفاصيل ليطمئن، لكنه كلما حاول الفهم أكثر زاد قلقه أكث، ولهذا كان العلاج هنا ليس في المزيد من التفكير، بل في التوقف عند حدٍّ معقول، واستبدال التحليل الزائد بـما يلي:

  • الدعاء لله بالهداية والطمأنينة.
  • وضع وقت محدد للبحث في مسألة واحدة، ثم التوقف بعده مهما شعرت بعدم الاكتفاء.
  • تذكير نفسك أن العبادة ليست امتحانًا في الفهم العقلي، بل طاعة عن حب واتباع.

*وللتوسع في المسألة يرجى الاطلاع على العنوان التالي: الوسواس القهري ونصائح للتخلص منه

رابعًا: تذكّر أن الدين يُبنى على اليسر لا التعقيد

من القواعد المهمة في الدين أنه مبني على اليسر لا على العسر، فإذا رأيت أن فهم الدين صار يرهقك ويزيد وسواسك، فاعلم أن الشيطان يريدك أن تترك العبادة كليًّا باسم “الحرص على الصواب”. لكن الدين الحقيقي يدعوك إلى السكينة والتوازن، لا إلى الانهيار والشك المستمر. يقول الله تعالى:

﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ ‌مِنْ ‌حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] 

﴿‌يُرِيدُ ‌اللَّهُ ‌بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185] 

﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ ‌مِنْ ‌حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]

وقد روي عن نبينا الكريم أنه قال:

“إن هذا الدين يُسر، ولن يُشاد الدين أحدٌ إلا غلبه” (رواه البخاري).

 الخلاصة العملية:

  1. إذا شعرت بالوسواس، استعذ بالله وتوقّف فورًا عن التحليل.
  2. اسأل عالمًا راسخا تثق به، واجعله يأخذ بيدك إلى الفهم السليم لما يشكل عليك.
  3. ذكّر نفسك بالحقيقة التالية: “الله تعالى يمتحن عباده بفعل ما هو مطلوب منهم وليس بالتفكير المفرط في خلفيات ومآلات كل عمل”.
  4. خذ بالأيسر ما دام له دليل من كتاب الله تعالى، ولا تُتعب نفسك بالمقارنة بين أقوال العلماء، فهذا ليس مطلوبا من كل أحد.
  5. لو اشتدّ الوسواس لدرجة تعيق حياتك، استعن بطبيب نفسي مختص بالوسواس القهري الديني، فالعلاج موجود وفعّال بإذن الله تعالى.
  6. اعلم أن الله لا يُحاسبك على عجزك عن الفهم، بل على نيتك وطاعتك بقدر استطاعتك.
  7. الوسواس الذي يُرهقك ليس حرصًا محمودًا، بل باب خفيّ يفتح لك الشيطان منه باب القلق.

 

التعليقات

  • بخصوص حِجر إسماعيل الذي هو بجانب الكعبة، وهو في الأصل جزء منها، فإنه في عصر الجاهلية قبل الإسلام لم يجدوا مالًا حلالًا مئة بالمئة ليُكملوا بناء الكعبة، فقاموا بتحويط الجزء المتبقي بالشكل الذي هو عليه الآن، لأنه جزء من الكعبة، حتى يطوف الناس حوله وليس من خلاله.
    هذه هي القصة القديمة.
    والسؤال الآن: لماذا بعد الإسلام، وبالأخص في عهد النبي ﷺ، لم يُكمَل البناء بعد فتح مكة مثلًا، ومع انتشار الإسلام، ليتم ذلك تحت إشراف النبي عليه الصلاة والسلام؟
    أَلَم يجدوا مالًا حلالًا لاستكمال البناء؟
    بالمناسبة، هذا سؤال ابنتي التي تبلغ من العمر خمس عشرة سنة، ولم أستطع أن أجيبها إجابة منطقية.
    في انتظار التوضيح، وشكرًا مقدمًا.

    • الجواب:
      أولا: أصل القصة:
      عندما أرادت قريش إعادة بناء الكعبة قبل الإسلام، انهدم جزء منها بفعل السيول. فأرادوا ترميمها، لكنهم اشترطوا أن لا يدخل في بنائها مال فيه شبهة أو حرام، مثل مال الرِّبا أو الظلم أو البغاء.
      ولأن المال الحلال لم يكفِ، نقصوا من طول الجدار الأصلي الذي بناه إبراهيم عليه السلام، وتركوا جزءًا من الكعبة خارج البناء، وهو ما يُعرف اليوم بـ حِجر إسماعيل. ثم بنوا الجدار المقوّس ليُعلِم الناس أن هذا الجزء من الكعبة الأصلية، وليس من خارجها.
      ثانيا: لماذا لم يُكمِل النبي ﷺ البناء بعد الفتح؟
      في حديث صحيح رواه الإمامان البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
      قال رسول الله ﷺ: “يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لهدمت الكعبة ولجعلت لها بابين: بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه، ولألصقتها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر.” (رواه البخاري ومسلم).
      بناء على هذه الرواية فإن النبي ﷺ كان يعلم أن البناء الحالي ليس مطابقًا لما بناه إبراهيم عليه السلام، وكان يريد أن يُعيدها على أصلها، لكنّه خشي الفتنة؛ لأن أهل مكة كانوا حديثي عهد بالإسلام، وقد يرون في هذا التغيير نوعًا من العبث ببيت الله الذي تعظّمه قلوبهم، مما قد يثير الشكوك والاضطراب بينهم.
      فقدّم نبينا الكريم المصلحة العامة ووحدة الناس على تنفيذ ما هو أكمل من حيث الشكل. وهذا من حكمته ورحمته، إذ راعى حال الناس ومشاعرهم حتى لا يُفتنوا.
      ثالثا: هل بُنيت الكعبة على قواعد إبراهيم بعد ذلك؟
      نعم، ففي عهد عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، أعاد بناءها على قواعد إبراهيم كما تمنّى النبي ﷺ، وأدخل فيها حِجر إسماعيل، وذلك بعدما هُدمت الكعبة أثناء حصار مكة. لكن بعد مقتله، أعادها الحجاج بن يوسف إلى الشكل الذي نراه اليوم بأمر من عبد الملك بن مروان (صحيح مسلم 402 – (1333)) ، ومنذ ذلك الوقت بقيت كما هي.
      وقد ذكر ابن حجر أن عبد الملك بن مروان قد ندم على ما فعل بعد أن بلغه الحديث وقال: “وددت أني تركته وما تولى ابن الزبير من شأنه.” (فتح الباري ج 3، ص 548–550)
      الخلاصة:
      _ حِجر إسماعيل جزء من الكعبة الأصلية.
      _ النبي ﷺ لم يُكمِل البناء لأنه خاف من الفتنة والاضطراب بين الناس حديثي العهد بالإسلام.
      _ تصرّفه ﷺ كان من أعظم صور الحكمة السياسية والدينية، إذ قدّم وحدة المسلمين على مصلحة فرعية في البناء.
      _ أعاد عبد الله بن الزبير بناءها كما تمنى النبي الكريم
      _ هدم الحجاج ما بناه ابن الزبير ثم أعاد بناءها كما كانت بأمر من عبد الملك بن مروان.

      • شكرا جزيلا على التوضيح برغم اني لم اقتنع تماما بالحديث المذكور كدليل !! حيث أن مقاصد الاسلام اصلا جاءت وابطلت شياء وفعلت اشياء و أقرت اشياء اشد تاثيرا على الناس وهم حديثو عهد بالجاهليه تمس معتقداتهم ومعاملاتهم !! من مجرد بناء الكعبه او بالأدق إعادتها لشكلها الاصلي فايهما اشد على الناس بناء الكعبه بالشكل الصحيح على اساس ان الإسلام جاء ليصحح كثير من عادات الجاهليه ام الأوامر والنواهي والتي جاءت ضد ما اعتادوا عليها في حياتهم لسنين طوله ؟؟
        اظن والله اعلم ان هناك حلقه مفقوده في هذه القصه ..
        ملحوظه : رأيي هذا لا يتنافى أبدا مع تقديري واحترامي الشديد لشخصكم الكريم ولموقعكم الرائع والمتميز
        وانا لست عالمه في الدين بل مجرد باحثه تعلمت منكم الكثير فأصبحت اتدبر بدقه اكثر من ذي قبل و الفضل في هذا يرجع الى موقعكم الجميل بعد فضل الله طبعا
        شكرا جزيلا

  • مقالكم موفق كالعاده لكن عندي تعليق اذا سمحتم لي مع كامل احترامي وتقديري الشديد طبعا .. انتم استشهدتم بايه
    (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وهي مجتزأة من سياق الآيات فهي لا تهم رجال الدين او المشايخ كما يقال فالايه يرد الله على المشركين الذين شككوا في نبوه النبي عليه الصلاة والسلام فكانت الاجابه عليهم :
    {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ۖ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) }
    [سورة الأنبياء: 6 إلى 8] فاهل الذكر المذكورين في الايه تعني اليهود والنصارى مما نزل عليهم كتب سماويه و رسل من قبل.
    وهذا بالمناسبه قراته عندكم في موقعكم الكريم اليس هذا هو المعنى الصحيح . ارجو تقبل تعليقي . شكرا

    • نعم سياق الآية هو ما ذكرت، لكن معناها يفيد العموم، أي أن الجاهل بأمر يسأل العالم فيه، ولأنه لا يمكن لكل الناس أن يكونوا على قدر واحد من العلم فمن الطبيعي أن يتوجه الذي يحتاج لفهم مسألة معينة لعالم موثوق. ويؤكد ذلك قوله تعالى:
      ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ ‌يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]
      وأولو الأمر في سياق الآية هم الراسخون في العلم الذين ذكرهم الله تعالى في الآية 7 من سورة آل عمران.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.