حبل الله
الحكمة الواردة في الآيات 22-39 من سورة الإسراء

الحكمة الواردة في الآيات 22-39 من سورة الإسراء

السؤال:

الإخوة الكرام: جزاكم الله خيرًا على ما تقدمونه من مفاهيم صحيحة وإظهار الحق. قرأت لكم بحثًا بعنوان الكتاب والحكمة، ولم أجد أنكم ذكرتم صلب الموضوع حيث أن رب العزة بيَّن ذلك ومقصد الحكمة التي وردت في التنزيل الحكيم حيث فصلها في سورة الإسراء من الآية 22 إلى الآية 38 ﴿ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ الإسراء (39) أي الوصايا العشر. من الأهمية تبيان هذا التفصيل في بحثكم المنشور. والسلام عليكم ورحمة الله.

الجواب:

وعليكم السلام ورحمة الله، نحمده تعالى وحده أن: ﴿هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ ونشكر السائل الكريم على تذكيره وملاحظته القيمة فيما يتعلق بمفهوم الحكمة، وجعله الله من المتدبرين لكتابه والمستنبطين للحكمة منه والمذكرين بها، وجعلنا من المؤمنين المنتفعين بالذكرى امتثالًا لأمره تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذاريات (55)

المقال المشار إليه في السؤال

فما يتعلق بالبحث والمقال المنشور سابقًا عن الحكمة الذي تناول مفهومها بأنها علم إيجاد الحلول والأحكام المستخرجة من كتاب الله تعالى، وبالفعل كان من الأهمية بمكان – وكما أشار السائل الكريم – ضرورة الاستشهاد بآيات الحكمة المذكورة في سورة الإسراء التي تتحدث عن كثير من مجمل صورها، وربما كان السبب في عدم التطرق إليها أن البحث والمقال كان موجهًا بشكل خاص حول التفريق بين بعض المفاهيم كالسنة والحكمة وغيرهما؛ ولذا لم يتطرق للتفصيل وضرب الأمثلة عن صور الحكمة في كتاب الله تعالى التي لا يسعها بحث واحد ولا يوفيها مقال.

وهنا ملمح تجدر الإشارة إليه فيما يتعلق بقول السائل الكريم عن الوصايا العشر، ولا نعلم قصده على وجه التحديد.

  • فإن قصد بالوصايا العشر التي وصى بها الله تعالى النبي موسى وجاءت بالتوراة المذكورة في القرآن في سورة الأنعام (151_ 153) فإن آيات سورة الإسراء من (22_ 38) وإن اتفقت مع أكثر الوصايا العشر لكنها زادت عليها في العدد وفصلتها بشكل أكبر وبينت الحكمة من ورائها.
  • وإن قصد أن الآية موطن الشاهد: ﴿ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ الإسراء (39) هي التعريف للحكمة، وأن تفصيلها جاء عقب النواهي والأوامر التي سبقتها، فالحق أنها بالفعل كذلك، ولكن السورة _وإن ذكرت مجمل من صور الحكمة_ لا تقتصر عليها وحدها.

فالحكمة بالإضافة لما ذكره البحث في الموقع، لها معان أخرى تدور كلها حول وضع الأمور في مكانها المناسب ونصابها الصحيح، وهذا يستلزم النظر في عواقب الأمور قولًا وعملًا قبل الإقدام عليها، وهذه الحكمة قد تُذكر بلفظها وقد تستنبط بأثرها.

فعلى سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة (183)

فالحكمة من وراء أمره تعالى بالصيام ظاهرة بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

وكذلك الحكمة من الأمر بالصلاة: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ…﴾ العنكبوت (45)

وفي الصدقات: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ التوبة (103)

وما شابه هذا من الأوامر والنواهي التي تشتمل على مضمون الحكمة.

أما ما فصله تعالى عن الحكمة بشكل مفصل ومتتالي فقد جاء في الآيات التي ذكرها السائل الكريم ونجدها مرتبة من أكبرها وأعظمها؛ وهو الشرك بالله تعالى يليه تجنب الكبائر والفواحش إلى المشي في الأرض بتكبر، كما يلي:

  • فقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ﴾ ثم بيَّن الحكمة المترتبة على الشرك في الدنيا والآخرة: ﴿فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ الإسراء (22).
  • وفي قوله: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا… وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا… رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ الإسراء (25) فبيَّن أن الإحسان إلى الوالدين نابع من العبودية والإيمان الحقيقي والاعتراف بالفضل ورد الإحسان وأنه سبب لمغفرته تعالى للأوابين.
  • ثم أمر بالإنفاق ونهى عن التبذير: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ الإسراء (26) ثم بيَّن الحكمة المترتبة من ذلك: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ الإسراء (27)
  • ثم نهى عن الغل والبسط في كل الأمور: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ ثم بيَّن الحكمة المترتبة على كليهما: ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ الإسراء (29)
  • ثم نهى عن القتل والزنا وعن الإسراف في القصاص وعن أكل مال اليتيم، وأمر بالوفاء بالعهد والكيل والقيام بالوزن بالقسط، ثم نهى عن اتباع ما لا علم لنا به مذكرا بمسؤولية الإنسان بسبب تمتعه بالسمع والبصر والفؤاد، ثم بيَّن الحكمة المترتبة وراء كل منها.
  • وصولًا إلى التواضع بالنهي عن الفخر والاختيال: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ وبيان الحكمة: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ الإسراء (37).
  • ثم أعقب كل ذلك ببيان الحكمة من جميع ما سبق من أمر ونهي بقوله تعالى: ﴿كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ الإسراء (38)
  • وكما بدأها تعالى بقوله: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ الإسراء (22) فقد ختمها بذات التحذير لجسامة خطر الوقوع فيه: ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ الإسراء (39) ليبيِّن أن اتباع تلك (الحِكم) من النواهي والأوامر والنظر في عاقبتها من (الحكمة) ﴿ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ نابع أولًا وأخيرًا من عدم اتخاذ الشريك المُضل عن سبيله الذي يلقي بصاحبه: ﴿فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾

الحكمة صفة مشتقة من اسم الله الحكيم

فالحكمة صفة مشتقة من اسمه تعالى الحكيم: ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ الزخرف (84) والحكمة لا تنشأ إلا عن علم وهي ملازمة لصفتي الخبرة والعزة، ولذا نجد اسم الله الحكيم أكثر مجيئًا مع اسمه العليم والخبير والعزيز: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ البقرة (32) ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ الأنعام (18) ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ المائدة (118)

والحكيم وصف من أوصاف الكتاب: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ يس (2) فمن أرد الحكمة فعليه التمسك به: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ فصّلت (42)

الحكمة من أعظم الخصال

والحكمة من نعمته وفضله تعالى على عباده فعلمها وآتاها النبيين:

﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ النساء (54)

﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ… وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ المائدة (110)

﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ ص (19: 20)

وقال في خاتم النبيين: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ النساء (113)

وكذلك الصالحين: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ لقمان (12).

ومن الحكمة امتلاك العلم والقدرة على التدبر وربط الأحداث والشواهد المؤدية للفهم: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ الأنبياء (79) ولذا فهي الأسلوب الأمثل في مجال الدعوة والنصح: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ النحل (125)

فالحكمة من أعظم النعم والصفات التي يتحلى بها المؤمن فتضفي عليه الوقار والأدب وتجعل له من العزة والود بين الناس وتجنبه الوقوع في الأخطاء والكبائر:

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ البقرة (231).

وصدق العليم الحكيم الذي قال:

﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ البقرة (269).

الباحثة: شيماء أبو زيد

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.