السؤال:
أنا شاب، وككثير من الشباب أفكّر في الهجرة إلى الدول الغربية، لكني متردد جدًا، ولذلك أود أن أستفتيكم. سؤالي هو: ما حكم الإقامة في الدول الغربية؟ وما حكم الحصول على الجنسية، خاصة وأنها تتطلب غالبًا القسم بالولاء لتلك الدول، وما يتبع ذلك من تعهّد باحترام الدستور وغير ذلك؟ فالكثير من أبناء المسلمين هناك يعانون من ضعف في الالتزام الديني، بل ويصل الحال ببعضهم إلى الانسلاخ التام عن الدين، وحتى إن حافظ الإنسان على دينه، فسيكون من الصعب جدًا الحفاظ على دين الأبناء، فضلًا عن الأحفاد. فهل يكون الإنسان آثمًا أو متسببًا في هذا الفساد إن قرر الهجرة؟ كما أن صعود اليمين المتطرف، وزيادة مظاهر الرهاب من الإسلام (الإسلاموفوبيا) في عدد من هذه الدول يزيدان من الحرج والقلق. فما الموقف الشرعي في هذه الحالة؟ جزاكم الله خيرًا، ونفع بكم.
الجواب:
لا بد من الإشارة إلى أن انتقال الإنسان من بلده إلى بلد آخر هو أمر طبيعي، ويحدث كثيرا منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض، والغاية الكبرى من هذه الهجرة الفردية أو الجماعية كان ولا يزال هو البحث عن بيئة أفضل وظروف معيشية أحسن. وقد وجدنا كثيرا من الآيات القرآنية تشجع على السير في الأرض والسعي في مناكبها والنظر في ملكوت الله تعالى:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [العنكبوت: 20]
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]
أولًا: حكم الإقامة في الدول الأجنبية (بلدان غير المسلمين)؟
الأصل في الإقامة في بلاد غير المسلمين هو الحل، لأن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، ولا يوجد نص يمنع المسلم من اختيار أرض جديدة للعيش فيها، فيبقى الحل هو الأصل إلا إذا خشي المسلم على دينه أو دين أبنائه، وكان لتلك الخشية قرائن ودوافع ملموسة وليس مجرد هواجس.
ذكر ابن حبان في صحيحه (4861) أن فديك (صحابي) أراد أن يهاجر فطلب منه قومه وهم كفار أن يبقى معهم، واشترطوا له أنهم لن يتعرضوا لدينه، ففر فديك بعد ذلك إلى النبي – ﷺ – فقال: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلَكَ، فقال النبي – عليه الصلاة والسلام: “يا فديك أقم الصلاة، وآت الزكاة واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت”.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده (1420) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، وحيثما أصبت خيراً فأقم”
هذان الحديثان موافقان للنصوص القرآنية المتعلقة بهذه المسألة، ويُفهم منهما جواز الإقامة في البلدان الأجنبية لمن يستطيع أن يظهر شعائر دينه.
وقد أقام الصحابة في الحبشة زمنا بعد هجرتهم إليها بالرغم من كون سكانها غير مسلمين، إلا أن وجود عنصر الأمان كان كافيا ليأمرهم النبي الكريم بالهجرة إليها فرارا بدينهم من أذى قريش.
فالمسلم الذي يأمن على نفسه وماله وأهله، ويستطيع إقامة شعائر دينه في بلد من البلدان غير الإسلامية جاز له الهجرة إليها والإقامة فيها، ولا يجب عليه الهجرة من هذا البلد ما دام آمنا على نفسه ودينه.
وأما قوله ﷺ: “أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين”، فقد قال الحافظ ابن حجر: “هذا محمول على من لم يأمن على دينه”[1]
جاء في كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي تفصيل حسن في حكم الهجرة باختلاف حال المهاجر فقال:
“الناس في الهجرة ثلاثة أضرب: أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة، لقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء:97]. وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها، إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والوالدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه، لقول الله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) [النساء:98-99]. ولا توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: من تستحب له، ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه في دار الكفر، فتستحب له، ليتمكن من جهادهم، وتكثير المسلمين، ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار، ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه، لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي ﷺ مقيماً بمكة مع إسلامه، وروينا: أن نعيم النحام، حين أراد أن يهاجر، جاءه قومه بنو عدي، فقالوا له: أقم عندنا، وأنت على دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم، فتخلف عن الهجرة مدة، ثم هاجر بعد، فقال له النبي ﷺ: “قومك كانوا خيراً لك من قومي لي، قومي أخرجوني، وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك”، فقال: يا رسول الله: بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله، وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله، أو نحو هذا القول”[2] انتهى.
ثانيًا: حكم الحصول على الجنسية الأجنبية؟
الحصول على الجنسية الأجنبية ليس محرمًا بذاته، وإنما يُنظر في المآلات:
فإذا كانت الجنسية وسيلة لاكتساب حق مشروع، أو حفظ النفس، أو طلب العلم، أو تحقيق النفع للمسلمين، فلا حرج فيها ما دام ذلك لا يوجب موالاة الكافرين أو تعظيم شرائعهم أو مساعدتهم عل حرب المسلمين. قال الله تعالى:
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8-9]
ثالثا: القسم عند طلب الجنسية:
كثير من الدول تطلب “القسم بالولاء” للدستور، أو “الاحترام” للقوانين.
وهنا يجب التنويه أن الولاء الإداري لا يعني بالضرورة الولاء الديني.
فإن نوى المسلم بقسمه الالتزام بالنظام العام وعدم الإفساد، فهذا لا يضره بإذن الله، بشرط عدم القبول أو الرضا بالحرام، وعدم موالاة الكافرين في دينهم أو أخلاقهم أو مناهجهم.
رابعا: هل يكون الإنسان آثمًا إن علم بخطورة ذلك على دين أبنائه ثم هاجر؟
نعم، إن هاجر مع ظنه الغالب أو علمه بأن أولاده سيفسدون أو يتركوا الدين، فهو آثم، لأنه فرط بأمانة حفظ الأهل ووقايتهم من النار، والله تعالى يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6]
خامسا: الموقف الشرعي من هذه الفتن المعاصرة مثل الإسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرف
هذه مؤشرات مهمة يجب أن تُحسب ضمن قرار الهجرة أو الإقامة في البلاد الأجنبية، فإذا كانت الإقامة ستعرض المسلم للإهانة أو الحرج الديني أو الاجتماعي، أو قد تجرّه إلى التنازلات، أو تمنعه من تربية أولاده على الدين، فالواجب عليه أن يبتعد عنها، لقوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء:97]
فإذا كانت الهجرة واجبة من بلده التي لا يستطيع إقامة شعائره فيها فالأولى ألا يذهب إلى بلد يغلب على ظنه أنه لن يتمكن فيها من إقامة دينه.
*وللمزيد حول الموضوع ننصح بالاطلاع على المقالات التالية:
فكرة الاندماج في المجتمعات ذات الأغلبية غير المسلمة
تعهد المسلم باحترام قوانين البلد الأجنبي الذي يقيم فيه
إقامة المسلم في بلدان غير المسلمين
هل يجوز إطلاق وصف الكافر على غير المسلمين جميعهم؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فتح الباري لابن حجر (6/ 39)
[2] انظر: المغني والشرح الكبير لابن قدامة (10/513)