كلمة القدر تدُلُّ عَلَى مَبْلَغِ الشَّيْءِ وَكُنْهِه وَنِهايَته[1]. يقول الله تعالى:
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر 54/ 49)
﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الملك 67/ 1)
لقد أنشأ الله تعالى نظامه لاختبار المكلَّفين، وقد بيَّن أنَّه ليس اختبارًا للمعرفة، بل اختبار الجهاد والصَّبر، ولأنَّ معرفة نتيجة الامتحان مسبقا تتنافى مع جديَّة الامتحان ونزاهته أوضح _سبحانه_أنَّه لا يعلم مَن سينجحُ في هذا الامتحان ومن سيرسب فيه، كما يُفهم مِن الآيتين التَّاليتين:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد 47/ 31)
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران 3/ 142)
والجهاد يعني استفراغ الوسع في مدافعة العدو والشَّيطان والشَّهوات[2]، أمَّا الصَّبر فهو حبس النَّفس على ما يقتضيه العقل والشَّرع، ويضادُّه الجزع[3]. وفي القرآن ينصبُّ الترَّكيز على التَّحلي بالصَّبر، بما في ذلك الصَّبر في الجهاد[4]، وهذا يقتضي أنْ يتابع الشَّخصُ طريقَه دون الإخلال بموقفه، فالذين يضعون الحقائق في المقام الأول فإنَّهم يفوزون في الاختبار. أمَّا من يقدمون منافعهم فيخسرون فيه.
تقعد شياطينُ الإنس والجنِّ على الصِّراط المستقيم ليصدُّوا النَّاس عنه، وذلك بخلط المفاهيم عليهم. ولا يستطيع القيام بهذه المهمَّة إلا مَن لهم باعٌ في العلم. لقد كان بنو إسرائيل أكثر الأقوام الذين بُعث فيهم الأنبياء، وقد كان علماؤهم الأكثر خبرة في تحريف كلام الله تعالى. وقد كان من هؤلاء من ادَّعى الإسلام في حياة نبيِّنا الكريم واحترف النِّفاق بهدف تحريف كلام الله تعالى. وقد عرَّفَنا الله تعالى بهؤلاء في قوله تعالى:
﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ[5] مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة 2/ 75- 76)
التَّشوُّهات التي بدأها اليهود بينما كان نبيُّنا على قيد الحياة ما تزال مستمرةً حتَّى اليوم. كما سنرى لاحقًا فإنَّ البِنية التَّقليديَّة المتأثِّرة بتشوُّهاتهم شكَّلت اعتقادًا في القدر على النَّحو التَّالي:
“القدر هو العلم السَّابق الذي حكم الله به في الأزل، والقضاء هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السَّابق. ما أراده الله تعالى منذ الأزل لا يمكن تصوُّر عدم وقوعه. يعتمد علم الله المسبق على ما سيختار العبد، وعلمُه المسبق ليس له تأثيرٌ على اختيار العبد”[6].
لقد تمَّ تدجين عقول المسلمين عبر الأزمنة حتى صار من غير الممكن الاستدراك على علمائهم السَّابقين فظهر من اللَّاحقين من يقول:
“القدر هو السِّرُّ الإلهيُّ الذي لا يَعرف حقيقَته إلا الله تعالى، لذا لا يمكن معرفة كنهه بشكلٍ مطلق ونهائيّ”[7]. “إنَّ محاولة حلِّ مسألة القدر تعني بالتَّحديد تكليف ما ليس في وسع الشَّخص وطلب المستحيل”[8].
يُقال هذا في الوقت الذي يقول الله تعالى فيه: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (يونس 10/ 100)
في هذه المقالة ، سأذكر مبادئ الإيمان بحسب القرآن، ومن خلالها سيتمُّ الكشف عن خطأ الفهم التَّقليدي للقدر في ضوء الآيات المتعلِّقة بمعركة بدر. وإذا أمعنت النَّظر ستلاحظ أنَّ تلك الآيات لم يتمَّ تناولها عند بحثهم لمسألة القدر، وهو ما يثيرُ التَّساؤلات حول نزاهة مسلكهم.
*المصدر: مقدمة مقالة أ.د عبد العزيز بايندر ( معركة بدر والقدر )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مقاييس اللغة، مادة قدر
[2] المفردات اللغة للرَّاغب الأصفهاني، مادة جهد
[3] المفردات، مادة صبر
[4] انظر البقرة 2/ 153، 155، 249، وآل عمران 3/ 17، 146، والأنفال 8/ 46، 66، والأنبياء 21/ 85، والصافات 37/ 107
[5] تحريف الشيء: إمالته، وتحريف الكلام: أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين (المفردات، مادة حرف)، والتحريف لا يكون في النص بل في المعنى، لهذا يُصدِّق القرآن النُّصوص الرئيسية للكتب السابقة. ولكن بسبب تحريف كلمة التحريف فقد نُسي أنَّ القرآن صدَّق على الكتب السابقة، كما تم تغطية ما تمّ تحريفه من معاني بعض الآيات القرآنية. وكان معظم التحريفات قد دخلت على الآيات التي أزعجت اليهود. وفي كتب التفسير فإنّ التحريف المذكور في الآية متعلق بالتوراة وليس بالقرآن.
[6] عمر نصوحي بيلمان، Büyük İslam İlmihali ، ص 30- 31 ، الفقرات 67- 71. اسطنبول 1986
[7] أحمد صايم قلاووز، Diyanet İlmihali، 1/ 135
[8] Diyanet İlmihali، 1/ 133