حبل الله
البداء في حق الله تعالى

البداء في حق الله تعالى

السؤال:

ماذا تقولون عن البداء الذي يؤمن به الشيعة الإمامية؟ وشكرًا.

الجواب:

مسألة البداء متعلقة بموضوع القدر التي تحدثنا فيه من قبل، لذا لن نتعرض له بالتفصيل، وإنما سنبين حكمه من كتاب الله تعالى ونوضحه مختصرًا قدر الإمكان.

البَداء أصله من لفظ (بدا) الذي يعني وضوح ما كان مخفيًا من قبل، وهو يختلف عن الظهور في أن الأخير لا خفاء يسبقه؛ إذ أنه متوقع أو مترتب على شيء، كقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ…﴾ الرّوم (41) فلم يقل (بدا الفساد..) لأن ظهور الفساد لم يكن أمرًا مخفيًا أو غير متوقع وإنما حدث كنتيجة حتمية لــ (ما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ).

أما البداء فلا يكون إلا في مقابل الخفاء كقوله تعالى لرسوله: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ الأحزاب (37) أو مقابل الكتمان كقوله تعالى لملائكته: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ البقرة (33) أو خلاف ما كان في الحسبان والتوقع كقوله في حق الظالمين: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ الزمر (48) لأنهم قبل ذلك لم يضعوا في حسبانهم أنه تعالى سوف يعذبهم بما فعلوا كما بينه في الآية السابقة: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ الزمر (47)

ان العبد قد يبدو له من الله : ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ وليس العكس، فلا نقول (وبدا لله)، إذ أنه عالم الغيب الذي يعلم ما تكنه الصدور وما تخفيه: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ آل عمران (29) ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ الأنعام (59) ولذا فهو الذي يحاسب عباده على ما بدا وما خفي منهم: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة (284).

وكذلك يرد البداء بكثرة بين العباد تجاه بعضهم بعضًا، لقصور علمهم وجهلهم لما لا تدركه حواسهم وعدم اطلاعهم على الغيب أو ما في الصدور، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها:

  • فقد يبدو للعبد له خلاف ما كان يعلمه أو يظهر له أمرًا كان يجهله، كالعداوة التي بدت للمؤمنين من المشركين: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ آل عمران (118)
  • وقد يبدو للمرء فكرة لم تخطر بباله من قبل، أو يبدو له رأيًا آخر في مسألة ما فيبدِّل رأيه ويغير قراره بناء على ما بدا له، كما حدث في قصة النبي يوسف عندما بدا للملك وحاشيته من الحقائق ما جعلهم يغيرون قرارهم بسجنه: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ﴾ يوسف (35)
  • وربما يعلم العبد أن شخصًا ما متصف بصفات طيبة ثم يبدو له خلاف ذلك بأن يصدر منه عكس هذه الصفات كقوله تعالى لرسوله عن المنافقين: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ…﴾ آل عمران (154)

ولكن السؤال هنا: إذا كنا نستطيع القول بأن العبد قد (بدا له) من ربه سبحانه و(بدا له) من عبد مثله، فهل كذلك يجوز البداء في حقه تعالى والقول بأنه قد (بدا لله) أمرًا أو شيئًا لم يكن يعلمه أو كان مخفيًا عنه أو لم يكن في الحسبان؟! ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾.

تجيب علينا بعض فرق الشيعة الذين قالوا بجوازه ووروده في حق الله تعالى! وحتى نتسم بالموضوعية والإنصاف رغم الاختلاف، علينا أن نبيَّن أنهم يفرقون بين البداء في حق العبد الذي ينشأ عن جهله وعدم إدراكه، وبين البداء في حقه تعالى فزعموا أنه قد يبدو له سبحانه أمرًا يجعله يبدل أو يغير ما كتبه وكان مقدرًا عنده، بمعنى أن يفعل العبد شيئًا خلاف ما دُوَّن عليه منذ الأزل فيمحو تعالى ما كتبه ويثبت غيره، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ الرعد (39) فعلى حد زعمهم أن (أُمّ الكتاب) هو ذلك الكتاب الذي كُتب فيه كل ما يصيب الإنسان طيلة حياته من بلايا وفتن ونعيم وسرور بشكل لا يمكن أن يتطرّق إليها المحو والإثبات قدر شعرة، ولكن متى ظهر لله تعالى من العبد عملًا صالحًا أو سيئًا فإنه يمحو ويثبت حسب ما ظهر له!

وذكروا أن القول بجواز البداء في حقه تعالى من كمال الإيمان إذ يثبت له المقدرة على التغيير والتبديل فيما كتبه، وأن عدم الإيمان به يجعله تعالى مكتوف الأيدي كما قالت عنه اليهود: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ…﴾ المائدة (64) وأن البداء كالنسخ تمامًا، وكما ينسخ تعالى الشرائع، فهو كذلك يمحو ويثبت أقدار العباد التي كتبها عليهم منذ الأزل! ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾! وساقوا الكثير من الأمثلة التي يرونها تثبت البداء في حقه تعالى من الكتاب نذكر منها الآيات التالية:

  • ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ نوح (12)

فجعل نبيُّ الله نوح الاستغفار علّة مؤثّرة في نزول المطر، وكثرة الأموال والبنين، وجريان الأنهار إلى غير ذلك، فقالوا أن الأقدار المكتوبة تٌمحا وتتغير بالاستغفار.

  • ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ الرعد (11) ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَك مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ الأنفال (53)

فقالوا أن تغيير العبد لما في قلبه وعمله يغير قدره المكتوب عليه.

  • ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ الطلاق (3)

فتقوى الإنسان تجعل له المخرج من الضيق الذي قد كُتب عليه ويُثبت له رزقًا لم يكن مقدرًا له منذ الأزل.

  • ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ إبراهيم (7)

فالشكر عندهم يمحو النقص ويثبت الزيادة.

  • ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ الأنبياء (76)

﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ﴾ يونس (98)

فذكروا أن الإيمان هنا محا عذاب القوم وثبّت لهم النجاة.

هذا بالإضافة إلى استشهادهم بالأحاديث والروايات التي تقول بتأخير الأعمار عن أوقاتها بسبب صلة الرحم أو الصدقة، وأخرى تقول بنقص الأعمار بناء على الظلم أو قطع الرحم.

فعلى حد زعمهم أن هذه الآيات وغيرها الكثير تعرب عن أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الإنسان، وأنّ الإنسان بعمله يؤثّر في تحديد قدره وتبديل القضاء، وليس هناك مقدّر محتوم فيما يرجع إلى أفعاله الاختياريّة حتّى لا يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل، – وعلى حد قولهم – لولا الإقرار بالبداء بهذا المعنى ما عُرف الله حقّ المعرفة، بل يبدو سبحانه في نظر العبد الذي ينكر عقيدة البداء أنّه تعالى مكتوف الأيدي، لا يقدر على تغيير ما قدّره، ولا محو ما أثبته.

والحق أن هذا الاعتقاد ليس مقتصرًا على الفرقة الشيعية، وإنما يتطابق في مضمونه مع اعتقاد فرق أهل السنة بما أسموه بتغيير القضاء عن طريق الدعاء، فذكروا الكثير من الروايات التي تدعم ذلك بأن القضاء لا يرده إلا الدعاء ومنها بعض الأدعية التي تمحو قدرًا وتثبت غيره كقولهم بالدعاء الوارد في كتبهم «إن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب شقيّاً فامح عنّي اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيداً، وإن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب محروماً، مقتّراً على رزقي، فامح حرماني، ويسّر رزقي، وأثبتني عندك سعيداً موفّقاً للخير.

فكلا الفريقين (سنة أم شيعة) قد اتفقا في المضمون واختلفا في المسمى، فالقدر عند الشيعة يتغير بالبداء وعند السنة يتغير بالدعاء. فالمسألة كلها تدور عند كليهما حول قضية تغيير القضاء والقدر الذي يزعمونه مكتوبًا على الإنسان، فقد كان قدره منذ الأزل قد كُتب شقيًا ثم عمل صالحًا فسوف يمحا ويكتب سعيدًا والعكس صحيح.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما فائدة كتابة القضاء والقدر منذ الأزل مادام سوف يمحا فيما بعد أو يثبت؟! ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾؟!

فالحق أن جميع الأدلة التي ساقها الشيعة للاستدلال على البداء، أو ما استدل به أهل السنة على الدعاء لا علاقة لهما من قريب ولا بعيد بمحو القدر وتغيير القضاء؛ إذ أنه لا قدر قد قُدَّر ولا قضاء قد مُحي ولا مصير قد تبدل أو تغير، والآيات التي استدلوا بها تشهد عليهم وليس لهم:

  • إن قوله سبحانه ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ…﴾ نوح (12) لا يعني أن الاستغفار سوف يمنع حدوث ما كان مقدرًا عليهم، فلم يكتب تعالى هلاك قوم نوح إلا لكفرهم حال دعوتهم، وليس لأن الهلاك قد قُدر عليهم في (أم الكتاب منذ الأزل وقبل أن يوجدوا على ظهر الأرض، وأنهم لو استغفروا لكان مُحي قدرهم).
  • وقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ لا علاقة له بتغيير مصير الإنسان المحتوم والمكتوب عليه قبل أن يولد إذا غيَّر ما في نفسه، وذلك بدليل دوام الآية نفسها: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ الرعد (11) فقضاؤه تعالى لا مرد له.

والخير والسوء يصيبنا نتيجة أعمالنا إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ الزلزلة (7: 8).

  • أما بالنسبة للآيات التي استدلوا بها على البداء في جميع قصص الأنبياء بداية من نوح: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ الأنبياء (76) فلم يكن النبي نوح مقدرًا عليه العذاب ثم دعا أو تاب (فبدا لله تعالى) أن ينجيه من الكرب العظيم، ولم يكن الكرب مقدرًا على قومه منذ الأزل فأثبته تعالى عليهم لعدم إيمانهم، وإنما كان جزاء وفاقًا لكفرهم واستكبارهم عن دعوة نبيهم ليلًا ونهارًا سرًا وجهارًا.
  • والأمر نفسه في قوم يونس: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ﴾ يونس (98) فلم يكتب الله تعالى عليهم عذاب الخزي منذ الأزل ثم بدا له تعالى إيمانهم فمحا الخزي وكشف العذاب.

وجميع قصص الأنبياء تؤكد على أن الله تعالى قد نجا رسله والمؤمنين وكشف السوء عنهم لإيمانهم بربهم وطاعتهم له، وليس لأنه بدا له تعالى عملهم الصالح أو أنهم دعوا خلاف ما كان مقدرًا عليهم فبدَّل مصيرهم ومحا عذابهم.

فهو سبحانه وتعالى قد أرسى سنته في عباده في جزاء الصالحين وعقاب المكذبين، والسنة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ الأحزاب (62) والجزاء والعقاب فيها متغير لأنه مرهون بما كسب الإنسان وليس بما كُتب عليه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ المدّثر (38) فلم يقل (كل نفس بما كُتب عليها) وهو تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ البقرة (286)

وكسب الإنسان يكون بعمل يده: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ الشورى (30) وبكسب قلبه: ﴿وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ البقرة (225)

فالفساد لم يظهر لأنه كان مقدرًا ولكنه أثر الكسب السيء: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الرّوم (41)

والعذاب لم ينزل إلا لمكر أصحابه وليس بقدر الله تعالى عليهم، فسنته تعالى أن يرى الماكرين مكرًا والطائعين خيرًا: ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ فاطر (43).

وكذلك سنته تعالى في توسعة الرزق للمتقين: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ الطلاق (3) وزيادة الشاكرين: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ إبراهيم (7) وليس لأنه تعالى قد قدر عليهم الضيق والنقص منذ الأزل ثم بدله تعالى بالرخاء لأنهم اتقوا وشكروا.

  • وهنا ملمح تجدر الإشارة إليه ألا وهو، أننا لا ننكر فضل الدعاء، ولكن الدعاء لا يمنع قضاءه تعالى بالسوء الذي نزل جزاء وفاقًا: ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ النحل (94).

وإنما يكشفه إذا نزل بساحة الظالمين فتابوا وأنابوا ورجعوا إلى ربهم فيكشفه عن المضطرين والتائبين: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ النّمل (62)

وأما قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ الرعد (39) فلا تدل على محوه تعالى وإثباته للأقدار التي كتبت منذ الأزل من الخير أو الشر حسب تغيير حال العبد، وإنما تدل على محو الآيات والمعجزات الكونية وإثباتها على أيدي رسله كما أراد هو وليس كما يريد خلقه، لأنه تعالى هو الأعلم بما ينفعهم وما يضرهم، بدليل السياق والآية التي قبلها: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً، وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ. يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ الرعد (39)

و (أُمُّ الْكِتَابِ) لا يُقصد به ما زعموه من أسطورة الكتاب الأزلي الذي كتبت فيه أقدار وأرزاق العباد، وإنما يُقصد به أصل هذه الآيات والقواعد التي تنزل الآيات على أساسها كما ذكر في السياق نفسه: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) فكل آياته لها أجل محدد حسب الزمان والمكان والأقوام والأحوال، ثم بيَّن أنه تعالى هو الذي يمحو ما يشاء منها وما يثبته على أيدي رسله لأنه جل جلاله: (عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.

فلا يمحو الله تعالى ما كتبه؛ إذ لا قدر ولا قضاء قد كُتب على الإنسان بالخير أو الشر مسبقا حتى يبدله تعالى بالدعاء أو يغيره بالبداء فـ ﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ يونس (64) ومن قال أو ادعى ذلك على الله سبحانه وتعالى فقد افترى عليه تعالى العبث: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ المؤمنون (115)

وبصرف النظر عن أن كتابة القضاء والقدر يتنافى مع مسألة امتحان العبد (إذ أن الامتحان ونتيجته – على حد قولهم – قد دُوِّن على الإنسان قبل أن يوجد في الحياة) فهذا الادعاء كالأفلام التي يؤدي الممثلون فيها الأدوار التي كتبت لهم في السيناريو والحوار الذي أعده وكتبه المؤلف من قبل ولا يحق لهم الخروج عن النص وهو الوحيد الذي يحق له محو وتغيير ما كتبه، ودور الممثلين فيها ينحصر في نقل القصة من وقائع مكتوبة إلى مشاهد حية.

والفرق الوحيد بين هذه الأفلام وبين حياة الإنسان أن الممثل يعرف دوره المكتوب في العمل مسبقًا ويقرأه قبل أن يقوم بتمثيله، كما أن له مطلق الحرية في قبول العمل أو رفضه، أما الإنسان فلا يعرف دوره وهو مسير لما كُتب له، كما أنه ليس مخيرًا في قبول أو رفض أي شيء يخص هذا العمل!

فإن قلنا بأن الإنسان ما هو إلا ممثل ومؤد للدور الذي كُتب له قبل ولادته فقد نسبنا العبث إلى رب العالمين فــ ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾

وبما أن الإنسان لم يخلق عبثًا، فلم يكتب الله تعالى على الإنسان قدرًا ولا قضاءً ليترتب عليه (بداء أو دعاء) يمحوه أو يثبته.

وختامًا:

إن القائلين بكتابة الأقدار منذ الأزل _وما بني عليه من البداء والدعاء اللذان يغيران القدر والقضاء_ مثَلهم كمن افترى على الله تعالى بأنه الذي كتب عليهم السوء وأنهم مسيرون في هذه الحياة وليسوا مخيرين، وكأنهم مجرد دُمى وألعاب تتحرك وفق ما كُتب عليهم ولهم، فهؤلاء  كمن ينسبون لله تعالى ظلمهم وفاحشتهم وسوء أعمالهم كمن قيل فيهم:

﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ الأعراف (28)

فهؤلاء يريدون أن يخلِّصوا أنفسهم من عبء الاختيار وتحملهم مسؤولية نتيجة الاختبار كمن قيل فيهم:

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ النحل (35)

فـــــ ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾

الباحثة: شيماء أبو زيد

التعليقات

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.