حبل الله
الإسرائيليات وتفسير القرآن

الإسرائيليات وتفسير القرآن

د. عبدالله القيسي

هناك الكثير من الكتابات التي انتقدت دخول الإسرائيليات في تفسير الآيات القرآنية، حتى صار ذلك مستنكراً في الخطاب الديني خلال العقود الماضية، ولكن ما لم يأخذ حظه من النقد والدراسة ولا زال بحاجة لجهد في دراسته هو تسرب الإسرائيليات إلى كتب الحديث وسردها على لسان النبي عليه السلام، ومن ثم أخذها والتعامل معها على أنها من كلام النبي لا من الاسرائيليات! وهناك أمثلة ذكرها الفقهاء، وهناك ما لم يذكروه برغم الشواهد على أنه من الإسرائيليات، وسأضرب مثالاً لكل منهما.

المثال الأول:

ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام بيدي فقال: (خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِي آخِرِ الْخَلْقِ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ) [1] .

يقول ابن تيمية: “ومما قد يسمى صحيحا ما يصححه بعض علماء الحديث وآخرون يخالفونهم في تصحيحه فيقولون: هو ضعيف ليس بصحيح. مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم، إما مثله أو دونه أو فوقه، فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل … ومثله حديث: “إن الله خلق التربة يوم السبت … “. فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم، مثل: يحيى بن معين ومثل البخاري وغيرهما، وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار، وطائفة اعتبرت صحته مثل أبي بكر بن الأنباري وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما. والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه، وهذا هو الصواب.. اهـ”[2] .

وقال ابن كثير: “اختلف فيه على ابن جريج، وقد تكلم في هذا الحديث علي بن المديني، والبخاري، والبيهقي وغيرهم من الحفاظ، قال البخاري في (التاريخ): وقال بعضهم عن كعب وهو أصح. يعني أن هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة وتلقاه من كعب الأحبار، فإنهما كان يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يحدثه عن صحفه وهذا يحدثه بما يصدقه عن النبي عليه الصلاة والسلام، فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صحفه، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأكد رفعه بقوله: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي. ثم في متنه غرابة شديدة فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن؛ لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين .. اهـ”[3] .

المثال الثاني:

وهو متعلق بتفسير قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً﴾[الأحزاب: 69].

حيث اختلف المفسرون في نوعية الأذى الذي حصل لموسى وكيف برأه الله من قولهم، وجاء اختلافهم رغم وجود رواية عند البخاري ومسلم يرى المؤمنون بها أنها فسرت بوضوح نوع الأذى الذي حصل لموسى وكيف برأه الله مما قالوا، فإذا كانت تلك الرواية ثابتة عن النبي، فكيف تجاوز بعض المفسرين هذه الرواية، لا شك أنهم رفضوها لعلة فيها وإن لم يصرحوا بذلك، وأنا هنا كذلك لا أومن بتلك الرواية لوضوح وضعها على النبي عليه السلام، فعند أدنى تأمل في عباراتها وصيغتها يجد قارئها أنها من الإسرائيليات التي تسربت إلى فكرنا، وإن كان التسرب هذه المرة عبر دخولها في الحديث، وما أكثر تلك الإسرائيليات التي تسربت لفكرنا عبر الروايات، وحين اجتهد كثير من المفسرين في تهذيب التفاسير من الإسرائيليات شطبوا ذلك الكم الهائل من الإسرائيليات، إلا أنهم لم يتعرضوا إطلاقا للإسرائيليات التي صارت أحاديث تروى على لسان النبي، وما أكثرها لو نقبنا في كتب الحديث.

– عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ، إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ: وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ، ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾)[4].

فالرواية تحكي أن الإيذاء كان باتهام موسى بعيب في بدنه بأنه آدر (منتفخ الخصية)، وأن الله برأه عن طريق عرض جسده عريانًا على كل قومه، ولست أدري أي تبرئة تلك التي تجعل رجلا حييا يمر عريانا بين كل قومه، إنها فضيحة لا تبرئة!! ولست أدري أي خيال لدى الراوي وهو يحكي هروب الحجر بتلك الطريقة!!، وكيف قبل الناس تلك القصة التي يمجها العقل والمنطق والخلق السوي.

وإذا تأملنا الآية بعيداً عن تلك الرواية وفي ضوء سياقها في سورة الأحزاب، فإننا نصل للمعنى القريب للآية، فالآيات السابقة ذكرت أن المنافقين قالوا –حين حاصرتهم الأحزاب –﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ فكذب المنافقون ما وعدهم الرسول من النصر، بينما كان موقف المؤمنين الصادقين هو التصديق والتسليم ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ واستمر المنافقون في تخذيل المؤمنين عن القتال مع النبي ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلً﴾.

وفي آخر السورة تذكر الآيات جزاء من يؤذي النبي ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾، كما ذكّرت مرة أخرى ما قام به المنافقون من أذية للنبي في تخذيل المؤمنين عن القتال معه ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾.

وفي هذا الجو من أذية المنافقين للنبي بتكذيب وعده للمؤمنين بأن وعده غرور، وأنه لن ينتصر فاتركوه ليحارب وحده، تأتي الآية لتقول للمؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ فلا تقولوا لنبيكم كما قالوا لموسى ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾[المائدة:24]، وقولهم: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً﴾[البقرة:55]، وقولهم: ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد﴾[البقرة:61]، إلى غير ذلك.. فقال للمؤمنين لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول إلى القتال.

وكانت تبرئة موسى بأن صدقه الله وعده بالنصر بعد اتهامهم له، بالخداع لهم بالأماني التي يحدثهم بها؛ فبرأه الله وصدقه الوعد الذي وعده، ونجّى القوم على يديه من فرعون، وأراهم من آيات الله عجبا. وكما صدق الله وعده لموسى سيصدق وعده لمحمد عليهما الصلاة والسلام.

كان المعتزلة قد رفضوا هذه الرواية واعتبروها مسيئة لنبي الله موسى عليه السلام، وذكروا معنى آخر للآية، فقد ذكر الحاكم الجشمي المعتزلي عن أبي مسلم الأصفهاني قوله: “آذوه من حيث نسبوه إلى السحر والجنون والكذب بعدما رأوا الآيات كعادة الكفار مع الأنبياء”[5]. وقد برأه الله وأيّده بالمعجزات، ثم قال: “فأما ما ترويه الحشوية أنهم رموه بأنه آدر- آفة في عورته- فوضع ثوبه على حجر ليغتسل، فبعد الحجر حتى رآه بنو اسرائيل! فليس بصحيح؛ لأن فيه هتك الستر، وكشف العورة، وما يؤدي إلى التنفير”[6] .

*المصدر: كتاب (عودة القرآن) للدكتور عبد الله القيسي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح مسلم ج4ص2194.

[2] مجموع الفتاوى ج18ص17.

[3] البداية والنهاية ج1ص18.

[4] صحيح البخاري 4/156، رقم الحديث 3404. صحيح مسلم 4/1842.

[5] التهذيب في التفسير للحاكم الجشمي 8/5773.

[6] التهذيب في التفسير للحاكم الجشمي 8/5773.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.