حبل الله
كيف يمكننا التأكد يقينًا من أن القرآن هو كلام الخالق؟

كيف يمكننا التأكد يقينًا من أن القرآن هو كلام الخالق؟

السؤال:

كيف يمكننا التأكد يقينًا من أن القرآن هو كلام الخالق، وليس من تأليف كيان أو كيانات ما داخل هذا الكون؟ مثلا، قد تكون كائنات فضائية أو بشر من المستقبل أو أي كيان ضمن الأبعاد التي نعيش فيها. من الناحية العقلية يبدو احتمال أن يكون القرآن من صنع كائن داخل الكون أكثر قابلية للتصديق على كونه صادر عن كيان ميتافيزيقي خارق يدّعي الكمال المطلق في الحكمة والخير والقدرة، خصوصًا أن بعض الأدلة على صدق النبوة مثل الإخبار بالمغيبات أو الإعجاز البلاغي، لا تُثبت بشكل قاطع أن المصدر هو الله وحده، بل فقط أنه فوق طاقة الإنسان المعتادة. ومن هنا تنشأ لدي إشكالات أخرى أرجو منكم توضيحها: إن القول بأن الكون له خالق لأن كل شيء له مسبب هو في جوهره استنتاج استقرائي مبني على ما نراه نحن في هذا الكون، وهذا قد لا ينطبق بالضرورة على الكون ككل، بما أنه كيان أعقد من كل تجاربنا. حتى لو سلمنا بوجود خالق، فما الذي يُثبت أنه كامل القدرة أو أنه سيرسل رسلا؟، أو أنه يرى ذلك ضروري؟ أليس القول بأن عدم الإرسال عبث هو في حد ذاته إلزام للخالق بحكم بشري؟ ثم ما المانع العقلي من أن يكون هذا الخالق لا بداية ولا نهاية له لكنه ناقص أو محدود من بعض الجوانب؟ فكيف يمكن تجاوز هذه الاحتمالات العقلية؟ وهل هناك دليل عقلي قطعي يجعلنا نربط بالضرورة بين الرسالة القرآنية وبين ذات إلهية مطلقة، لا مجرد كيان خارق داخل منظومة هذا الوجود؟ أرجو منكم التفضل بالإجابة، فإني أسعى لاكتساب يقين راسخ لا تزعزعه الشكوك، وأسأل الله أن يهديني وإياكم للحق والصدق. وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

السؤال بقصد المعرفة هو من أعظم أبواب الهداية. وسأحاول الإجابة بما يزيل اللبس ونتجاوز الاحتمالات المطروحة خطوة بخطوة.

أولاً: لماذا نرفض أن يكون القرآن من “كائن داخل الكون”؟

1_ الكون نفسه ليس أزليًا:

كل ما هو داخل الكون خاضع للزمن والمكان والطاقة والمادة. وهذه كلها بحسب العلم الحديث (مثل نظرية الانفجار العظيم) نشأت في لحظة بدء، أي أن كل ما هو “كائن” داخل الكون، سواء بشر، فضائي، أو مخلوق خارق، هو محدث وليس أزليًا.

فأي كائن داخل الكون خاضع لقوانينه، حتى لو كان أعلى منا ذكاءً أو قدرة. وبالتالي لا يمكن أن يخرج بشيء خارج قوانين الكون تمامًا.

2_ إعجاز القرآن لا يُفسر بقدرة كائن مخلوق:

الإعجاز البلاغي للقرآن لا يظهر جانب الجمال اللغوي فحسب، بل هو منظومة بنائية متكاملة لا يمكن إعادة إنتاجها، فلو حاول الناس إعادة كتابة سورة من القرآن فلن تكون الإعادة مساوية للنص الأصلي من حيث البلاغة وتناسق المحتوى.  إن لغة القرآن صالحة لكل زمان، وتحفظ وحدة المعنى عبر تشابك رياضيّ دقيق بين الألفاظ والمعاني. كما أنها خالية من التناقض على مدى 23 سنة رغم تغير الأحوال وتبدل الأجيال، لذلك احتج القرآن على إلهية مصدره بعدم وجود التناقض فيه:

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ‌اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82] 

إن أي كيان داخل الكون لا يملك الإحاطة الكاملة بجميع ظروف الماضي والمستقبل والقلوب والضمائر والكون. مهما بلغ من الذكاء والفطنة والتجربة، وبما أن القرآن أحاط بكل ذلك فلم يبق مجال إلا التسليم بأنه من عند الله تعالى مطلق القدرة والعلم والحكمة:

﴿وَمَا كَانَ هَذَا ‌الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 37] 

3_ القرآن يدّعي الكمال الإلهي ويثبت صدقه بالبرهان:

لو كان القرآن من تأليف كائن “خارجي” ذكي (فضائي مثلًا)، فلماذا يدعي أنه الله الأزلي الخالق، ويتحدى البشر أن يأتوا بسورة من مثله؟ هل هذا تضليل؟ هل هذا الكائن المخلوق يكذب؟

يقول الله تعالى:

﴿‌قُلْ ‌لَئِنِ ‌اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88] 

هذه الآية وما حوته من حقيقة لا يجادل فيها أحد تقرر أن مصدر القرآن خارج حدود الإنس والجن، أي المخلوقات.

كثير من آيات الكتاب تؤكد على القرآن تنزيل من رب العالمين، ومن هذه الآيات قوله تعالى:

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لَا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ. وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ ‌مِنْ ‌رَبِّ ‌الْعَالَمِينَ﴾ [الحاقة: 38-43] 

ثانيًا: ماذا عن احتمال أن يكون الخالق ناقصًا أو لا يرسل رسلًا؟

هذه أسئلة فلسفية مرجعها الافتراض العقلي وليس الحقيقة المثبتة، ونجيب عنها بالعقل الصرف:

1_ وجود الخالق:

السائل الكريم محق في أن الاستقراء (أن كل شيء له سبب) لا يساوي يقينًا. لكن قوانين العلم الحديث (مثل القانون الثاني للديناميكا الحرارية) تشير إلى أن الكون يتجه نحو الاضمحلال والفوضى، ولا يفسر ذاته من الداخل.

فإما أن نُسلم بوجود شيء خارج عن الزمان والمكان هو الذي أوجد كل شيء (أي الخالق العظيم)، أو نقع في التسلسل والدوران في الحلقة المفرغة.

إذن وجود خالق عظيم مطلق القدرة والحكمة والعلم واجب عقليًا.

2_ هل يمكن أن يكون هذا الخالق ناقصًا؟

لا يمكن أن يكون الخالق العظيم ناقصا، لأن كل “نقص” يقتضي وجود “كمال”، والنقص يتبدى عند الحاجة والتغير. والله الصمد لا يتغير ولا يحتاج لغيره، وقد نزه نفسه عن الزوجة والولد باعتبارهما يكملان النقص:

﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ ‌صَاحِبَةً ‌وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3] 

﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. ‌اللَّهُ ‌الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1-4] 

فلو كان ناقصًا (حاشاه)، لكان بحاجة لغيره لإكماله، فيكون مخلوقًا لا خالقًا. إذن الكمال صفة ضرورية للخالق.

3_ هل يُلزَم بإرسال الرسل؟

الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، ومن مظاهر رحمته بخلقه أنه يريد الهداية لهم. وقد منح الله تعالى للإنسان عقلا وفطرة يهتدي بهما، لكن الإنسان بكليهما قاصر عن الاهتداء التام، فكان إرسال الرسل ضروريا لتوجيه التفكير وتعزيز سلامة الفطرة، لذلك لو لم يُرسل الخالق رسلًا، لكان تركنا في التيه والضلال، وهذا لا يليق بالحكمة والعدل والرحمة التي كتبها على نفسه.

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ‌لِيَقُومَ ‌النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25] 

إذن إرسال الرسل لا “يُفرض” على الله، بل يثبت بالعقل كضرورة تليق بحكمته ورحمته:

﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، قُلْ لِلَّهِ، ‌كَتَبَ ‌عَلَى ‌نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 10-12] 

ثالثًا: لماذا القرآن تحديدًا هو رسالة الله المطلقة؟

القرآن الكريم هو رسالة الله الخاتمة إلى الناس جميعا، التي صدقت ما أنزل الله تعالى من الكتب من قبله، فكان هو النسخة الأخيرة التي احتوت ما جميع ما يريده الله من البشر، وقد كان للقرآن صفات لا يمكن أن تجتمع إلا في كلام الله، وهي كما يلي:

1_ العالمية: فقد خاطب الناس جميعهم في كل زمان ومكان

2_ الخلو من التناقض: لم تظهر فيه أي تناقضات رغم نزوله منجمًا خلال 23 سنة.

3_ التحدي البياني والعلمي والغيبي: فقد تحدى الناس أن يأتوا بمثله وأو بسورة من مثله، والتحدي به قائم إلى قيام الساعة.

4_التحكم بالمصير الحضاري: فقد أثر القرآن على شعوب وأمم، وقلب ميزان التاريخ خلال عقود قليلة.

5_ الانسجام مع الفطرة، فهو يخاطب العقل والقلب والروح معًا، لا يلغى أحدها لصالح الآخر.

6_ المنظومة التشريعية المتكاملة: فقد احتوى على شريعة صالحة متوازنة لمختلف جوانب الحياة بدون اختلال.

رابعًا: اليقين لا يعني انعدام السؤال، بل تجاوزه

اليقين لا يُبنى على معجزة واحدة، بل على تراكم البراهين وتماسكها، فأنت لا ترى الجاذبية، لكنك لا تشكك فيها؛ لأن كل الظواهر تسير باتساق معها. كذلك اليقين في مصدرية القرآن، لا يبنى فقط على “نبوة” أو “بلاغة”، بل على المنظومة الكاملة التي يستحيل أن تكون من غير الله:

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ (القرآن) مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ‌أَنَّهُ (القرآن) ‌الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 52-53] 

خلاصة الجواب:

  1. كل ما هو داخل الكون مخلوق، ولا يملك القدرة المطلقة ولا العلم الشامل ولا الاستقلال الذاتي.
  2. القرآن ينفي تمامًا أن يكون من بشر أو جن أو أي كائن، بل يؤكد أنه من رب العالمين.
  3. الخالق لا يمكن أن يكون ناقصًا، لأن النقص يعني الخضوع لقانون أعلى.
  4. إرسال الرسل ضرورة تليق بحكمة الخالق، وليس إلزامًا بشريًا.
  5. القرآن يجمع صفات لا يمكن أن تجتمع إلا في كلام الله.
  6. الشك طريق إلى اليقين، واليقين لا يأتي بلحظة، بل بالبحث والتأمل الصادق.

النتيجة:

لا يمكن عقليًا أن يُنسب القرآن إلا لخالق عظيم عليم حكيم كامل، خارج الزمان والمكان. وكل البدائل (كائن فضائي، بشر خارق، جن، آلة ذكية…) تنهار أمام حقيقة هذا الإعجاز القرآني الشامل.

نصيحة أخيرة:

اقرأ القرآن بنية السؤال والبحث، لا بنية التكرار والاعتياد. اقرأه كأنه يخاطبك شخصيًا، وستبدأ ترى النور في مواضع ما كنت تلتفت إليها.

وأسأل الله أن يرزقك نور اليقين، وطمأنينة الإيمان، وأن يجعل هذه التساؤلات مفتاحًا للثبات لا بابًا للتيه.

*وللمزيد حول الموضوع ننصح بالاطلاع على المقالات التالية:

القرآن بنفسه هو البرهان على أنَّه كلام الله تعالى

معجزة القرآن بلغته أم بمحتواه؟ 

القرآن حجة على كتب النحو واللغة وليس العكس

تقليد القرآن بكتابة المحتوى

التشكيك في القرآن الكريم

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.