السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يقول الله تعالى في سورة الممتحنة:
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ الممتحنة (4).
ما المقصود من هذه الآية (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا) والله تعالى يخاطبنا أن لنا أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه في هذه العداوة والبغضاء.
فهل المقصود في هذه الآية ما ورد ذكره في أول السورة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ…﴾ الممتحنة (1) أن نكن العداوة والبغضاء للكفار والمشركين الذين يُخرجون الرسول والمسلمين من بعده.
لأني سمعت أحد (المشايخ) يستدل بهذه الآية على وجوب أن يُكنّ المسلمون العداوة والبغضاء للمشركين.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ الممتحنة (8) والتفسير التقليدي لهذه الآية يقول أنه مع عداوتنا لهم لكن هذا لا ينفي عدلنا بينهم ومعهم.
وهذا غير مقنع أبدًا بالنسبة لي، فكيف يقنعون بجواز الزواج من كتابية مشركة ويكنون لها العداوة، أرجو تبيان هل فهمي صحيح للآية بأن العداوة والبغضاء تكون للذين يخرجونا من ديارنا؟ وأعتذر عن الإطالة وأدامكم الله لنا.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله.
بداية، نحيي السائلة الكريمة على تدبرها وسعيها لمعرفة الحق، والآية الكريمة قريبة المعنى لما فهمته، وإن كان هناك سوء فهم من أكثرنا لمعنى قوله تعالى (وبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا) وسوف نوضح معناها من خلال السياق والآيات المؤيدة في مواطن أخرى كما سيتبين.
وما سمعته السائلة من أحد المشايخ من وجوب أن يُكنّ المسلم العداوة والبغضاء للمشركين مع العدل بينهم، هو استنتاج حتمي لعدم مراعاة السياق الذي وردت فيه الآية، بالإضافة إلى استدلالهم بأحاديث وروايات مفتراه جعلت من رسول الذي أرسله ربه رحمة للعالمين لرسول بُعث بالسيف يقاتل الناس ويكرههم على النطق بالشهادتين وينادي بالعداوة القلبية للمسلم تجاه الآخر – حتى لو أظهر خلاف ذلك – التي تستوجب عدم بدئهم بالسلام وعدم تهنئتهم بالأعياد والمناسبات وصولًا إلى العداوة المعلنة التي تستوجب نبذهم وفرض الجزية عليهم إلى قتلهم.
فقد فصلوا الآية عن سياقها كما فعلوا باستدلالهم على وجوب قتل المشرك في كل حال بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ التوبة (5) وهذا ضرب من تحريف الكلم عن مواضعه.
وقد غض أصحاب هذه الآراء الطرف عن أمره تعالى بقتال المعتدين (المقترن بالشرط) والنهي عن الاعتداء في قوله:
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ البقرة (190)
ودعوته لرسوله:
﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ الأنفال (61)
وأن خطابه تعالى المتعلق بقتال المشركين يأتي ردًا على اعتدائهم:
﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ التوبة (36)،
فالمسلمون لا يبدؤون الحرب ولا يسعون إليها إلا أن تفرض عليهم:
﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ التوبة (13).
وسورة الممتحنة تتشابه وتتكامل في موضوعها وسياقها مع سورة التوبة، فالسورتان وغيرهما من الآيات أرست سنته تعالى إزاء التعامل مع المشركين سواء أكانوا من ناقضي العهود منهم أو المسالمين، فبدأت سورة التوبة ببراءة منه تعالى ورسوله ممن نقضوا العهد:
﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ التوبة (1)
واستثنت البراءة من الذين حافظوا على عهدهم:
﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا..﴾ التوبة (4)
ثم فصلت السورة كل الأمور المترتبة على ذلك وصولًا إلى النهي عن الاستغفار لهم:
﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ التوبة (113)
وذكرت علة استغفار الخليل لأبيه:
﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ التوبة (114)
وقد بيَّن سبحانه السبب وهو أن الاستغفار لهم لن يجدي إذ أنه يغفر الذنوب جميعًا إلا أن يشرك به:
﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ…﴾ التوبة (80)
القاسم المشترك بين خليل الرحمن وخاتم النبيين هو مواجهتهم إرادة قومهم لقتلهم وإخراجهم بسبب العداوة والبغضاء حتى من أقرب الناس إليهما.
وهذا ما يفسر بدء السورة بالنهي عن اتخاذهم أولياء:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ الممتحنة (1)
وقد بينت الآية أسباب عدم جواز اتخاذهم أولياء:
- أنه رغم مد الأيد إليهم بالسلام المتمثل في مودتكم: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) فقد كفروا بالحق المنزل: (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) وقاموا بإخراج الرسول والمؤمنين معه: (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) فقط لمجرد إيمانكم: (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)
- ثم بيّن تعالى أنهم في حالة امتلاك القدرة عليكم لن يتوانوا في العداوة وبسط الأيد والألسنة بالسوء:
﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ الممتحنة (2)
- ولذلك فإنه ينبغي على المؤمنين الوقوف والصمود أمامهم حتى لو كان ضمن هؤلاء الأعداء ذوي الأرحام الذين لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة:
﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ الممتحنة (3).
- ثم ضرب تعالى لنا المثل نفسه مع الخليل ليكون لنا الأسوة الحسنة:
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ…﴾ الممتحنة (4) حين ظل يدعو أباه ويرجوه بنداء الرحمة والحلم في قوله المتكرر: ﴿يَا أَبَتِ…﴾ ورغم قسوة أبيه وتهديده له: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ، وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ مريم (46) إلا أنه _ومن شدة حلمه_ وعد أباه فـ ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ مريم (47) ولكنه عندما تيقن من كفر أبيه وشركه وظهور عداوته بتآمره مع قومه لقتله وألقوه في الجحيم خرج مهاجرًا وتبرأ من شركهم: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ الأنعام (78) ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العنكبوت (26).
وهنا يأتي الفهم الخاطئ للآية الكريمة في الأمر باتخاذ الأسوة في قوله تعالى:
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ…﴾ الممتحنة (4)
والحق أن الآية لا تدعو المؤمنين إلى العداوة والبغضاء لكل المشركين كما يعتقد الكثيرون، وإنما تقرر وتحدد رد الفعل الواجب إذا أظهر المشركون العداوة والبغضاء وإرادة القتال بدلًا من علاقة السلم المبنية على العهود والمواثيق.
ولكي تتضح المسألة أكثر، علينا التفريق بين قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ…﴾ المائدة (14) ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا… وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ المائدة (64)
وبين الآية موطن الشاهد: ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ الممتحنة (4)
ففي آيات سورة المائدة جاءت العداوة والبغضاء بالإغراء والإلقاء بين النصارى واليهود تجاه بعضهم البعض جزاءً وفاقًا لما فعلوه وبينته الآيات.
أما في قوله: ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ فالأمر مختلف حيث أن كلمة (بدا) تعنى وضح وتكشف ما كان مستترًا، وهي تأتي في كتاب الله تعالى في مقابل الكتمان والإخفاء – بخلاف كلمة ظهر – فقَالَ تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ المائدة (99) ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ آل عمران (154)، والذي يعني أن المشركين أبدوا العداوة والبغضاء، وبدا ما كانوا يخفونه من قبل، فكشفوا خبايا أنفسهم، وأزالوا قناع الود، وذلك عندما نقضوا العهد وقاتلوا الرسول والمؤمنين وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم؛ لذا حذرنا علام الغيوب:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ آل عمران (118)
ومن هنا فالله تعالى لم يحث المؤمنين ولم يطالبهم بالتأسي بخليل الرحمن في العداوة والبغضاء وهو الذي أراد منع العذاب عن قوم لوط ووصفه ربه بقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ هود (75) وإنما تدعوهم إلى الدعوة باللين والحلم ثم التبرؤ من الشرك كما فعل الخليل وكما أمر تعالى في كتابه عند كفر الوالدين: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ لقمان (15).
- والدليل على ذلك بقية السياق والآيات التالية مباشرة ودعوتهم بأن لا يجعلهم ربهم فتنة بأن يكونوا مثل المشركين في عداوتهم وبغضهم: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ الممتحنة (5)
- ثم بيَّن تعالى أن التزام المؤمنين بأمر ربهم ربما يكون السبب في توبة المشركين وتحول عداوتهم إلى مودة حقيقية: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الممتحنة (7)
- وأتبع بيانه تعالى الواضح الجلي أنه لا ينهانا عن المودة والبر والقسط إليهم: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ الممتحنة (8).
- وأكد على أن المقصودين بالنهي هم فئات محددة معادية بينهم في قوله: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الممتحنة (9).
وختامًا:
إن المؤمنين وأولهم أبو الأنبياء وخاتمهم لا يكنون العداوة في قلوبهم ولا يبدون البغضاء من أفواههم لجميع الناس حتى لو كانوا مشركين، وفي الوقت نفسه فهم ليسوا بالضعفاء المغلوبين على أمرهم من أعدائهم، وإنما بتوكلهم على ربهم وبإيمانهم قادرين على رد العدوان وصد الاعتداء: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ…﴾ الفتح (29)
وهم لا يخشون لومة لائم كما وصفهم ربهم: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ المائدة (54)
ولا يقدمون على الله تعالى ونصرته أهلا ولا مالا امتثالًا لأمره: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التوبة (24)
الباحثة: شيماء أبو زيد