حبل الله
مسُّ الشَّيطان

مسُّ الشَّيطان

من الآيات التي رآها بعض العلماء دليلاً على ما ذهبوا إليه في السحر وأنه استخدام للجن في الإضرار بالإنس قوله تعالى:

﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: ٢٧٥].

لفهم هذه الآية نحتاج التوقف لبيان معنى القيام، والتخبط، ومس الشيطان.

أولا: القيام: اختلف المفسرون في قوله: “يقومون” هل هو في الدنيا أم في الآخرة؟

والمتبادر أنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث، فيكون المراد بالقيام في قوله تعالى: ﴿لا يقومون إلا كما يقوم﴾، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة، وهو معنى من معاني القيام جاء في عدة مواضع في القرآن، قال تعالى:

﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:٢٥]

﴿أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم:٢٥]

﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: ١٢٧]

ثانيا: التخبط: أطلق التخبط على اضطراب الإنسان من غير اتساق، وتخبط الشيطان المرء جعله إياه متخبطًا، أي: متحركًا على غير اتساق.

ثالثًا: مس الشيطان: والآية هنا تنسب المس للشيطان لا للجن كما يزعمون، وإذا أردنا أن نفهمَ المعنى القريب للمس في هذه الآية، علينا أن نقرأها في سياق آيات أخرى ذكرت مس الشيطان، إذ هناك آيتان تذكران لنا مس الشيطان ولكن المفسرين لم يفسروهما بالجنون ولا بدخول الجان في الإنس، يقول تعالى عن النبي أيوب:

﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾[ص:٤١]

فنسب أيوب الضر للشيطان إما من باب التأدب مع الله بنسبة الخير لله والشر للشيطان، وإما لأن الشيطان بوسوسته لأهله قد أدى لوقوعه في النصب والعذاب، فأدى للتفريق بينه وبين وزوجه، وأفسد بينهما، وذلك هو كل ما يستطيعه الشيطان، يقول تعالى:

﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾[الأنبياء: ٨٣]،

أي أنه أصابه الضرر والمرض فدعا ربَه ليشفيه، فاستجاب له ربُه وكشف عنه الضرر، وأصلح الله ما بينه وبين أهله، أي زوجته.

أما الآية أخرى التي تذكر مس الشيطان ولم يفسرها المفسرون بالجنون أو باحتلال الشيطان للإنسان وإنما فسروا مس الشيطان بالوسوسة، فهي قوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف:٢٠٠]،

ففسروا الطيف بالوسوسة[1] .

والقرآنُ يحصر عملَ الشيطان في الوسوسة والتزيين ومحاولة الإضلال، ولا يذكر مطلقًا احتلاله لجسم الإنسان. وللتخلص من تلك الوسوسة أرشدنا إلى الاستعاذة، يقول تعالى:

﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[فصلت:٣٦]

ونزغ الشيطان ليس سوى وسوسته، تلك الوسوسة التي تذهب مع ذكر الله، ولا يستطيع الشيطان أن يكون له سلطان على من يذكر الله سبحانه:

﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾[النحل: ٩٨-١٠٠]

ولو كان مس الشيطان احتلالاً للإنسان لما شاهدنا حالات من الاضطرابات النفسية (الفصام) التي ينسبونها للجن قد حصلت لمتدينين ومؤمنين، بل إن بعضهم في أعلى درجات التدين، فهل كان له سلطان على أولئك والآية تقول ليس له سلطان عليهم!!

وخلاصة الآية أنها تشبّه حال آكلي الربا الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى صاروا مهووسين بجمعه، وجعلوه مقصودًا لذاته، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي، فخرجت نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم فلا يرون الحسن حسنًا ولا القبيح قبيحًا، وصاروا يشبهون البيع “الحسن” بالربا “القبيح”، وهؤلاء حالهم يشبه حال من استحكم عليه الشيطان بوسوسته وتزيينه فأصبح خاضعا له متخبطًا وكأنه بلا إرادة.

*من مقالة د. عبدالله القيسي: أوهام الناس في السحر والاتصال بالجن ، ولقراءة المقالة كاملة يرجى الضغط على العنوان.

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر تفسير الطبري 13/335.

تعليق واحد

  • السلام عليكم. كان عندي استفسار بخصوص مقال د. عبد الله القيسي عن السحر والاتصال بالجن. المقال مفيد جداً، ولكن عندي تساؤل بداخلي: يقول الدكتور عبد الله إنه لا وجود للسحر بالمعنى المتداول بين الناس ولا يوجد اتصال بالجن، وأن السحر الذي ذُكِر في القرآن ما هو إلا خدع بصرية وخفة يد.

    بخصوص هذه الآية نفهم أن الشياطين كانوا يعلمون الناس السحر، وأيضًا كانوا يعلمون الناس ما نُزِّل به الملَكانِ هاروت وماروت في بابل. ما هو العلم أو الشيء الذي نزل به الملَكانُ؟!

    وهل خفة اليد أو مجرد الخدع البصرية تستدعي نزول ملَكين من السماء كي يعلمانها للناس؟

    أم أن الموضوع أكبر من مجرد خدع، وأنهما علَّما الناس كيفية الاتصال بعالم الجن؟

    هذه الآية تقول إن هناك شيئًا أكبر من مجرد خداع الأبصار، أظن ذلك.

    وماذا عن ممارسات بعض المشاهير من طقوس شيطانية، عبادة الشيطان، وتقديم قرابين من جثث الأطفال وغيرها من ممارسات شاذة؟ أليس هذا نوعًا من السحر الأسود أو الاتصال بالعالم السفلي كما يسميه البعض؟

    ويذكر د. عبد الله أنه لو كان من الممكن تسخير أو الاستعانة بالجن لكان الساحر نفع نفسه؟!

    وهنا يأتي تساؤل آخر: جميعنا نقرأ أخبارًا متداولة عن كبار الأغنياء والمشاهير أن لهم ممارسات شيطانية — أليس هذا نفعًا عاد عليهم؟! لكن مثل أي عقد هناك بنود لا يمكن تخطيها، وبما أن الإنسان مكشوف للجن فيستطيع الجن رؤيته ولكن العكس لا يحدث، فيبقى الساحر تحت رحمة من سخره له من الجن إن صح التعبير. كلها تساؤلات أظنها منطقية.

    وماذا أيضًا عن القرين؟ هل كل إنسان يقابله قرين من الجن؟

    أما فيما يخص الإصابة بالعين فلي تساؤل: جميعنا نعرف أننا نرى الأشياء لأن الأشعة الضوئية تسقط على الشيء ثم تنعكس هذه الأشعة على العين؛ فالعين وحدها لا ترى بدون الضوء وهذه قاعدة فيزيائية معروفة.

    ولو فكرنا، مثلاً، أن عين الشخص الحقود والحاسد عندما ترى شيئًا بنظرة كره وغل فإن انعكاس الأشعة الضوئية ربما يكون فيه ارتداد بطريقة موجية معينة بخللٍ يصيب المحسود بشيء من الخلل. لا أقول إنها أشعة ليزر تخرج من عين الحاسد كما في أفلام الخيال العلمي، ولكن طبقًا للقاعدة الفيزيائية في انعكاس الضوء فإن لذلك نتيجة.

    أنا فقط أفكر بصوتٍ عالٍ.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.