السؤال:
أرجو الرد بعد البحث والتدقيق لأنني بحثت في أمر السؤال قبل أن أستعين بآراء سيادتكم.
في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ هود (40).
لدينا قراءتنا وهي الأصح بالنسبة لي (كل) بالتنوين فالمعنى واضح جدا أنه ٢ من كل نوع؛ واحد ذكر وأنثى واحدة.
ملحوظة: أنا على يقين تام بأن النبي ص قرأ بقراءة واحدة وكل القراءات التي ظهرت كانت لأسباب عديدة كاختلاف لهجات… إلخ
ثم قراءة التسعة الآخرين بدون تنوين فجاءت التفاسير كلها موافقة لنفس المعني نوع ذكر ونوع أنثى، إلا ابن عطية فجاء بتفسيرين الأول مثل البقية، والثاني _أشكل علي بشدة_ وهو أنه يحتمل خذ من كل زوجين اثنين حاصل أربعة.
فما هو المعنى الصحيح للقراءات التسع الأخرى من حيث اللغة ومقصد الله تعالى والعقل وإن كانت قراءة حفص أدق.
الجواب:
قبل إجابة السؤال نوجه نظر السائلة الكريمة أن مثل هذه التساؤلات – مع عدم التقليل من أي تساؤل – تجعل المؤمن دائم التشكيك في أبسط الأمور وتصرفه عن أمور وقضايا أكبر تحتاج إلى فكره وبحثه وجهده، أمور يتوقف عليها حكم شرعي أو معتقد ديني أو حكمة ربانية.
وهذا ليس مجرد رأي أو توجه منا، وإنما هو مبدأ وأدب قرآني تعلمناه حين ضرب لنا تعالى المثل عليه بقوله:
﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُم كَلْبُهُمْ﴾ الكهف (22)
فكثير من الناس إذا سمع قصة أصحاب الكهف تركوا الآيات العظيمة والعبرة والعظة مما حدث مع أصحابها وصرفوا أنفسهم عن الغاية والهدف الحقيقي من إيمان الفتية واعتزال الشرك واللجوء لرب العالمين ونصرته وحمايته وآياته وقدرته في رقودهم مئات السنين كأنهم لبثوا يومًا أو بعض يوم، وانشغلوا بالجدل والمراء في عددهم، هل كانوا ثلاثة أم خمسة أم سبعة فجاء الرد منه تعالى لرسوله – الذي لم يخبره بعددهم – ونحن من بعده:
﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾
وقد كان تعالى قادرًا على أن يجيب عن هذا التساؤل بكلمة واحدة وينهي فيه الجدل والمراء، ولكنه سبحانه وتعالى لا يريد من المؤمن أن ينجرف وراء وساس الشيطان ليصرفه عن تدبر آياته والعمل بها.
والأمر نفسه ينطبق على السؤال، فسواء أكان الذي حُمل في السفينة اثنين أو أربع فما النفع أو الضرر الذي يعود على المؤمن إذا بذل الجهد وانشغل بها للدرجة التي تقلقه؟!
وعلى الرغم من ذلك فإن قوله تعالى:
﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ هود (40) لا يحمل معنى سوى أنهما اثنين فقط وليس أربعة، وذلك بالعودة إلى كتاب الله تعالى الذي يتبين منه الآتي:
- إن كلمة زوج في اللغة العربية وفي كتاب الله تعالى تدل على الفرد الذي معه زوج آخر من جنسه أو شكله أو عمله، وباجتماع هذا الفرد مع هذا الآخر تأتي الكلمة بصيغة المثنى (زوجين)، وهي ليست جمعًا وبالتالي لو أراد الله تعالى أن يُحمل في السفينة (أربعة) لقالها بصيغة الجمع (أزواج)
والدليل على ذلك قوله تعالى:
﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ الزمر (6)
فقد جاء ذكر الأزواج الثمانية في الآية مجمل بصيغة الجمع، ثم فصله تعالى في موضع آخر وهو قوله تعالى:
﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، قُلْ آلذَّكَرَيْن حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ، قُلْ آلذَّكَرَيْن حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ الأنعام (143: 144)
وكما يتضح أن تفصيل الأزواج الثمانية أنهم زوجين ذكر وأنثى من كل نوع وهي كالتالي،
من الضأن 2 ومن المعز 2 ومن الإبل 2 ومن البقر 2 ، ليصبح المجموع والعدد المذكور في الآيتين هو 8 ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾
وبالعودة إلى قصة النبي نوح وقوله تعالى (زوجين) يتبين أنهما فقط اثنين (ذكرًا واحدًا وأنثى واحدة) إذ لو كان المقصود بالزوجين أنهم 4 لقال تعالى لنبيه (احمل فيها من كلٍّ أربعة أزواج) لأنه في هذه الحالة أصبح المحمول أربعة ولزم أن يأتي بصيغة الجمع وليس المثنى.
- كما أن كلمة (زوجين) أكدت بوصفهما (اثنين)، وليس من الصحيح أن يكون عدد الأزواج أربعة ثم يؤكد بلفظ اثنين.
- أما بالنسبة لتنوين كلمة (كلٍّ) أو عدم تنوينها فلن يختلف العدد في كلا الحالتين، والدليل على ذلك قوله سُبْحَانَهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ الرعد (3) فكلمة (كلّ) جاءت هنا بدون تنوين وجاءت مضافة إلى (الثمرات) والآية واضحة جلية في أن المقصود أنه تعالى في بداية الخلق قد خلق من كل الثمرات ذكرًا وأنثى (زوجين اثنين) ثم تكاثر هذان الزوجان ونتج عنهما أزواج كثيرة كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّىٰ﴾ طه (53) وقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ يس (36)
وبالتالي فإن عدد ما حمل في السفينة اثنين (ذكر وأنثى) بهدف التكاثر بعد ذلك لأزواج شتى؛ إذ لا فائدة من حمل أعداد كثيرة في السفينة ليكون عبئًا زائدًا في الطعام والمكان والنظافة والتنفس وخاصة أن الحيوانات والطيور والحشرات تتنافس ذكورها على الإناث إذا اجتمعت في مكان واحد.
الباحثة: شيماء أبو زيد