السؤال:
هل عمل المرأة كأستاذة في معهد تخصص هندسة معمارية مع التزامها بالحجاب وابتعادها عن الاختلاط حيث أغلب الأساتذة من النساء والتعامل مع الرجال محدود جدا لكن على مستوى الطلبة يوجد اختلاط. هل عملها فيه شبهة؟
هي تعمل لساعات محدودة (نصف يوم) وتحاول جعل أولويتها للبيت والزوج والأولاد، والحمد لله وُفقت في ذلك لحد كبير لكن دائما تحس بالتقصير من ناحية أبنائها.
كذلك دائما ما تتعرض لمشكلات بسبب قضايا الغش والتزوير من جانب الطلبة والزملاء حيث كثر ذلك، فهي تنكر تارة بلسانها وتارة بقلبها وتارة ترفض المشاركة في توقيع أمور فيها تزوير كتضخيم نقاط الطلبة مثلا حتى يتم انتقالهم.
فهل الأفضل لها التوقف عن العمل تمامًا أو البقاء في العمل مع النهي عن المنكر ما استطاعت، وتتفرغ للعلوم الشرعية؟ علمًا أنها تحاول بقدر المستطاع تعلم العلوم الشرعية كفقه النساء وفقه الصلاة. ولكن كعلم دنيوي فهي تميل للهندسة والديكورات… إلخ
والزوج لا يستطيع تلبية كل احتياجات البيت، وكانت قد توقفت سابقا عن العمل ومرضت في تلك الفترة، فكان الزوج لا يستطيع تلبية كل ما تحتاج من علاج، وكانت تقترض المال من والدتها حتى تتعالج، وحدثت لها مشاكل كثيرة لهذا السبب.
الجواب:
إن السؤال يحتوي على عدة مسائل نبيِّنها في نقاط:
- أولها، مسألة الاختلاط الذي تحدثنا فيه سابقًا، وبينَّا أن الاختلاط هو الأصل الذي بدأ به تعالى الخلق، والذي تقوم عليه الأحكام الشرعية والتعاليم الربانية، فبنيت عليه كثير من الأحكام ورُسمت له الحدود في شكل العلاقة التي أُسست على التقوى مصداقًا لقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات (13)
ومن هنا فلا شبهة في العمل لوجود الاختلاط إلا إذا كان هناك تعد على حدود التقوى.
- أما بالنسبة للتجاوزات والمعاصي التي يقوم بها بعض القائمين على العملية التعليمية من الغش والتزوير، فالإثم فيها يقع على أصحابها خاصة أن السائلة الكريمة ذكرت أنها لا تشارك فيها ولا توافق عليها، وبالتالي فلا حرج عليها في العمل مصداقًا لقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ المائدة (105)
بل إن وجود مثل هذه النماذج التي تتقن عملها وتخلص فيه سيكون له الأثر الطيب المثمر على الزملاء والطلاب سواء بتقديم القدوة الحسنة للمسلم الحق الذي يخشى ربه وينتظر منه الجزاء والأجر:
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ التوبة (105)
أو بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر بالكلم الطيب الذي ينتج عنه خيرية المؤمن مصداقًا لقوله تعالى:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ آل عمران (110)
فلا يوجد مكان يتصف بكمال الأخلاق أو منزه تمامًا عن الشرور: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ ، والشركات والمصالح العامة وأماكن العمل – خاصة التعليمية منها – تحتاج إلى نماذج حسنة يُقتدى بها يقومون على الإصلاح أسوة بالأنبياء، كما قيل على لسان النبي الكريم شعيب:
﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ هود (85).
- أما عمل المرأة فالأصل أنه ليس مفروضًا عليها، لكن عدم فرضيته لا يعني تحريمه ولا يقتضي منعه، بمعنى أنها غير مكلفة بالإنفاق ولو على نفسها؛ إذ جعل تعالى النفقة على الرجل لقوله:
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ النساء (34)
ولكنه في الوقت نفسه لا ينبغي منع المرأة من العمل لا سيما إن كانت مضطرة له، أو كان عملها يحقق نفعًا لها أو لصالح بيتها ومجتمعها.
- بالنسبة لمسألة التقصير مع الأبناء من أجل العمل، فالأولى أن يبحث الزوج عن عمل إضافي حتى يغطي جميع احتياجات أسرته كتوفير العلاج لزوجته وأولاده ومن يعول، وإن عجز عن ذلك لأي سبب فلا حرج أن تعينه الزوجة من خلال عملها بإرادتها الحرة غير مكرهة على ذلك.
ولكن في هذه الحالة يتوجب على الزوج أن يعينها في تحمل بعض أعباء البيت تقديرًا لجهدها وحتى تحصل على قسط من الراحة فلا تهلك بين عملها داخل البيت وخارجه.
كما ينبغي مشاركته بشكل أكبر في رعاية الأبناء ومذاكرة دروسهم؛ وخاصة أن مسؤولية تربية الأبناء ورعايتهم ليست مقتصرة على الأم وحدها – حتى لو كانت ربة بيت ولا تعمل – ومسؤولية الأب تجاه أسرته ماديًا لا ينبغي أن تنسيه دوره الأصيل معنويًا وروحيًا وتربويًا امتثالًا لأمره تعالى:
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ طه (132)
وهو الدور الذي حافظ عليه الأنبياء والمرسلون تجاه أولادهم من الميلاد حتى الممات، ولنا فيهم الأسوة الحسنة بإرشاداتهم ووصاياهم باللين والرحمة، وبالصفح تارة وبالحزم تارة أخرى:
﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ البقرة (132).
- أما بالنسبة لتفرغها في طلب العلم الشرعي، فالعلم الديني لا يقتصر على مجال الفقه (خاصة أن أكثر ما في هذه الكتب موجه إلى طلبة العلم الشرعي وليس لعامة الناس، لذا قد يشغل المؤمن عن ما هو أعظم وأكبر وهو نفع النفس والمجتمع) فيكفيها كتاب الله تعالى الذي جاء فيه الهداية عن طريق تلاوته وتدبر آياته مع زوجها وأولادها _ما تيسر لهم_ امتثالًا لأمره تعالى:
﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ…﴾ المزّمّل (20)
والتزامهم ما جاء فيه من أحكام وتعاليم وأخلاق – ونحسبها كذلك كما يبدو من سؤالها – كما أن العمل عبادة وتعلم العلوم والمهارات هي مما ينفع الناس:
﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ الرعد (17)
فتستطيع تنظيم حياتها بين العمل والبيت وخاصة أنها تعمل نصف الوقت ولا يستغرق عملها كامل اليوم، فهناك الكثير من النساء العاملات بدوام كامل ويستطعن الموازنة بين الأمرين، كما أن هناك نساء لا يعملن وهن غير قادرات على إدارة الوقت وتنظيمه وتراهنَّ مقصرات في حق أولادهنّ في كثير من الأمور رغم تفرغها الكامل لبيتها.
وفي الختام:
نتوجه بالنصح إلى السائلة الكريمة بأن تنظر وزوجها في الأمر، فيقوما بترتيب الأولويات، فهي على نفسها بصيرة، ويمكنها أن تدَّون في ورقة كل الإيجابيات والسلبيات حاليًا ومستقبلًا عليها وعلى أولادها، وتقارن بين مدى النفع والضرر الناتج عن خروجها للعمل أو قعودها عنه، فتنظر في النفع الذي يعود عليها هي أولًا صحيًا ونفسيًا ثم على أسرتها؛ إذ أن صحتها البدنية والنفسية واستقرارها الروحي سيعود بالنفع على أسرتها ورعاية أبنائها، فإن كان النفع أكبر من الضرر فلتبقى في عملها والعكس صحيح فـــ ﴿إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ وندعو الله تعالى أن يوفقها وزوجها لما يحب ويرضى وأن يقر أعينهما بذريتهما وأن يجعلهم ممن ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الأنعام (162).
الباحثة: شيماء أبو زيد


أضف تعليقا