حبل الله
علاقة الجن بالإنس

علاقة الجن بالإنس

يعتقد بعض الناس عند إصابة أحد أهاليهم بأي مرض نفسي أن سببه يرجع إلى العالم الغيبي أي “تأثير الجن”.. وهكذا استمر الناس من قديم الزمان بإرجاع سبب أي مرض إلى الجن وكلما تقدم العلم كشف بعض هذه الأسباب وأصبحت معروفة لدى أهل العلم المختصين في ذلك، ولكن للأسف يصر بعضُ عوام المسلمين إلى التفسيرات الخرافية القديمة ظنًا منهم أن هذا هو رأي الدين الإسلامي، وهذا غلط ووهم كبير، ونظرًا لاتساع المشكلة بين عوام الناس فقد كتب العلماء المعاصرون كثيرًا حول هذه القضايا.

واختصارا لهذا الموضوع الشائك سأعطي القارئ رؤية القرآن في “علاقة الجن بالأنس” أين تبدأ وأين تنتهي، وما هي حدود تأثيرهم على بني الإنسان، هل لهم تأثير حقيقي أم لا، وما هي أهم الأوهام والتلبيسات التي يعتقدها الناس بالنسبة للجن.. كان قد تحدث عن هذه القضية بعض الفقهاء المعاصرين كالشيخ شلتوت والشيخ الغزالي وغيرهم، وقد نفوا تلك الخرافات والأوهام التي يتناقلها الناس، وسأكتفي في نقل خلاصة تلك الرؤية بما قاله الشيخ محمود شلتوت في كتابه الفتاوى:

يقول رحمه الله: “جاءت الكتب السماوية، بعبارات واضحة لا تحتمل التأويل، بأن في العالم خلقًا آخر غير الإنسان لا ترى أشباحه، ولا تعرف حقيقته، وصرحت بالعناوين الخاصة بهذا النوع. فذكرت الملائكة وجعلت الإيمان بها عنصرًا من عناصر الإيمان، ثم ذكرت أعمالهم وفصلتها، ثم وصفهم بالطاعة الدائمة التي خلقوا بها وأنهم ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].

وذكرت الجن وجعلتهم نوعًا مقابلاً للإنسان، يندرجون معه تحت عنوان “الثقلين” وخاطبتهم وتحدثت عنهم في المسؤولية والمؤاخذة والمصير، كما خاطبت الإنسان وتحدثت عنه في كل ذلك ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾[الأنعام:١٣٠]، ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾[الرحمن:٣٣]، ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾[الرحمن:٣٤]، ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾[الأنعام: ١٢٨].

وكما جاء القرآن بأصل وجودهم جاء بما يرشد إلى صلتهم بالناس، وأنها لا تعدوا “الوسوسة والتزيين” على نحو ما يحدث للناس من الناس، وأقرأ في ذلك من سورة الناس ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾. [الناس:4-6]. وأقرأ في ذلك أيضا ما جاء على لسان الشيطان نفسه -وهو من الجن بنص القرآن- ﴿وَقَالَ الشَّيطَانُ لَمَّاَ قُضِيَ الأمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُم وَعْدَ الَحقِّ وَوَعَدتُكُم فأَخْلَفْتُكُم وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوتُكُم فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُم﴾ [إبراهيم: ٢٢].

وإذن فليس للجن مع الإنسان شيء وراء الدعوة والوعد والوسوسة والإغراء والتزيين ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف:٢٠]، ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٣٩]. وكما جاء في هذا القرآن، جاء فيه أيضًا ما يقطع بأن الذين يتأثرون بوسوسة الجن وإغوائهم إنما هم فقط ضعاف العقول والإيمان، أما أقوياؤهما فهم بعقولهم وإيمانهم بعيدون عن التأثر بها، وقد استثنى الله من المتأثرين بها عباده المخلصين وقال: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢].

أما ما وراء الوسوسة والإغواء -من ظهورهم للإنسان العادي بصورتهم الأصلية أو بصورة أخرى يتشكلون بها ومن دخولهم في جسمه واستيلائهم على حواسه ومن استخدامه إياهم في جلب الخير ودفع الشر واستحضارهم كلما أراد ومن استطلاع الغيب عن طريقهم ومن التزوج بهم ومعاشرتهم وغير ذلك مما شاع على ألسنة الناس- فهذا كله مصدره خارج عن نطاق المصادر الشرعية ذات القطع واليقين، وقد صدَّقَ كثيرٌ من الناس في كل العصور كثيرًا مما يسمع من أحاديث الجن أو يتخيل من تصرفات منسوبة إليهم، صدَّقُوا ظهورَهم للإنسان العادي وتشكلهم بغير صورتهم وصدَّقوا محادثتهم للإنسان ودخولهم في جسمه وصدقوا استخدامه إياهم في جلب الخير ودفع الشر وفي العلم بالمغيبات .

صدَّق كثيرٌ من الناس ما شاع من ذلك عن الجن وتناقلوا فيه الحكايات التي ربما رفعوها إلى السلف واستمروا على ذلك حتى جاراهم الفقهاء وفرضوا صحته، واتخذوا من هذا الفرض مادة جعلوا منها حقلاً للتدريب على تطبيق كثير من الأحكام الشرعية عليهم وكان منهم من تحدثوا عن صحة التزويج بهم وعن وجوب الغسل على الإنسية إذا خالطها جني وعن انعقاد الجماعة بهم في الصلاة وعن مرورهم بين يدي المصلي وعن روايتهم عن الإنس ورواية الإنس عنهم وعن حكم استنجاء الإنس بزادهم وهو العظم وعن حكم الأكل من ذبائحهم، إلى غير ذلك مما نراه منشورًا في كتب الفقه أو نجده في كتب خاصة ذات عناوين خاصة بالجن.

وإني أعتقد أن ذلك من فقهائنا لم يكن إلا مجرد تمرين فقهي جريًا على سنتهم في افتراض الحالات والوقائع التي لا يرتقب وقوعها أو التي لا يمكن أن تقع. وإذن ففروض الفقهاء التي لم يقصدوا بها إلا مجرد التدريب الفقهي لا تصلح أن تكون دليلاً أو شبه دليل على الوقوع والتحقق فلنتركهم على سنتهم يفترضون ومردنا في ذلك إلى القرآن الكريم.

وفي القرآن الكريم يمتن الله فيه على الناس بنعمة الأزواج وبأن جعلهن من جنسهم وجعلهن سكنا ومودة ورحمة:

﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل:٧٢]،

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم:٢١]،

وهذا يقطع حبل الشك في فساد القول بإمكان التزوج منهم فضلاً عن صحته أو فساده. وكذلك يحكي الله في القرآن ما تحدث به الجن إلى قومهم في شأن الإنس، الذين كانوا قبل الرسالة يعتقدون أن للجن سلطانًا عليهم، فيعوذون برجال منهم يخلصونهم من سلطان الجن بما يزعمون لأنفسهم من سلطة استخدام الجن وسلطة منعهم من أذاهم، ولنصغ إلى الجن وهم يتحدثون إلى قومهم في عقيدة أنهم يعلمون الغيب وأن أناسًا يستخدمونهم في ذلك فيعلمون منهم ما تسوقه المقادير الإلهية ثم يعلنون أنها عقيدة فاسدة وأن الغيب لله وحده:

﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾[الجن:١٠]

وإذا كان هذا حديثهم عن أنفسهم بالنسبة لمعرفة الغيب الذي جاء فيه قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾[الجن:٢٦] وقوله تعالى في جن سليمان: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾[سبأ:١٤]. إذا كان هذا حديثهم بالنسبة لمعرفة الغيب وكان حديثهم عن أنفسهم بالنسبة لسلطانهم على الإنس وأن هذا وذاك موضع إنكار منهم أنفسهم كما حدّث القرآن صرنا إلى يقين لا يمسه ريب بأن الجن لا يعلمون الغيب ولا يقدرون على الإيذاء الاتصالي أو التلبسي.

ومع هذا كله قد تغلَّب الوهمُ على الناس ودرج المشعوذون في كل العصور على التلبيس وعلى غرس هذه الأوهام في نفوسٍ استغلوا بها ضعاف العقول والإيمان ووضعوا في نفوسهم أن الجن يلبس جسمَ الإنسان وأن لهم قدرة على استخراجه، وقد ساعد على ذلك طائفة من المتسمين بالعلم والدين وأيدوهم بحكايات وقصص موضوعة أفسدوا بها حياة الناس وصرفوهم عن السنن الطبيعة في العلم والعمل عن الجد النافع المفيد”[1] .

*من مقالة د. عبدالله القيسي: أوهام الناس في السحر والاتصال بالجن ، ولقراءة المقالة كاملة يرجى الضغط على العنوان.


([1]) الفتاوى للشيخ شلتوت ص 21 بتصرف.

التعليقات

  • اذن ما معنى تلك الايه تحديدا؟
    ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾[الأنعام: ١٢٨].

    • {اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ} بإغوائكم لهم، أو استكثرتم من إغواء الإنس. {‌اسْتَمْتَعَ ‌بَعْضُنَا ‌بِبَعْضٍ} في التعاون والتعاضد، أو فيما زينوه من اتباع الهوى وارتكاب المعاصي، أو التعوّذ بهم {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ} [الجن: 6]
      ويبين هذا قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ‌يُوحِي ‌بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112] فاستمتاع بعضهم ببعض هو التقاهم على هدف واحد وهو الضلال والغواية وتشجيع بعضهم بعضا عليها.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.