حبل الله
الأصل القرآني للسنن الراتبة وغيرها من الصلوات النافلة

الأصل القرآني للسنن الراتبة وغيرها من الصلوات النافلة

دراسة قرآنية-لغوية حول الصلوات المفروضة والنافلة (السُّنَن)

المقدمة

يؤدّي المسلمون الصلوات الخمس اليومية المفروضة، وهي عبادة موقوتة ثابتة نصًّا في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا ‌مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]  وإلى جانب هذه الصلوات، يحتلّ أداء صلوات النافلة — المعروفة أيضًا بالسنن الراتبة أو الصلوات التطوعية — مكانة هامة في الممارسة التعبدية للمسلمين، على اعتبار أنها تزيد في تقرب العبد إلى الخالق العظيم، ولأنها تجبر النقص الحاصل في الفرائض، كما تدل على اتباع وتأسٍ بالنبي الكريم في تطبيقه للوحي.

وتُثار هنا مسألة مهمّة: هل تستند صلوات النافلة إلى أصل قرآني، أم أنّها محض ممارسات تعبدية مستندها فعل النبي فقط أو أنها مما زاده المسلمون في العصور اللاحقة؟

إن القراءة المتأنية للقرآن الكريم المدعومة بشواهد من المعاجم العربية الرئيسية، والمعزَّزة بالممارسة النبوية تكشف أن القرآن يميّز لغويًا ووظيفيًا بين الصلاة المفروضة والصلاة التطوعية. ويظهر هذا التمييز من خلال استعماله لِلفظين مختلفين هما:

  • ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ وهذا أمر قطعي دال على الفريضة.
  • ﴿سَبِّحْ﴾ وهو خطاب ذو طابع تشويقي يدل على أعمال النافلة (السُّنّة).

1.الصلوات المفروضة في القرآن

تُثبَت الصلوات المفروضة بصيغة الأمر القطعي “أَقِمِ الصَّلَاةَ”، وهي صيغة تدلّ على الإلزام الحتمي:

﴿‌أَقِمِ ‌الصَّلَاةَ ‌لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]

أَقِمْ من الجذر (ق-و-م) ويدل على الإقامـة والإلزام والاستقرار.

وتدل هذه الآية على فرضية صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء من زوال الشمس إلى اشتداد الظلمة (غسق الليل)، كما تُشير إلى صلاة الفجر بظهور الفجر الصادق المشهود المعترض في الأفق الشرقي.

﴿وَأَقِمِ ‌الصَّلَاةَ ‌طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]

تدل هذه الآية على أن صلاتي الظهر والعصر تقامان في طرفي النهار، حيث الطرف الأول(الظهر) بعد الزوال، بينما يؤدى الثاني (العصر)قبل غروب الشمس. أما المغرب والعشاء والفجر فتؤدى في أقسام الليل القريبة من النهار (الزلف)[1].

2.صلوات السُّنّة في القرآن

في مقابل التصريح بإقامة الفرائض، يشير القرآن إلى العبادات التطوعية بلفظ ﴿سَبِّحْ﴾، وهو أقلّ إلزامًا ويُفهَم منه الندب والترغيب:

﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ ‌رَبِّكَ ‌قَبْلَ ‌طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه: 130] 

﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ ‌رَبِّكَ ‌قَبْلَ ‌طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ [ق: 39-40]

الفعل (سَبَّحَ) يدل على التنزيه وتكرار الذكر، ولا يفهم منه الإلزام كما الحال في الفعل  (أقم). وهو كثيرًا ما يُجسَّد في هيئة الصلاة النافلة أو الدعاء.

ويُلاحَظ أن هذه الآيات لا تختتم بأمر إلزامي، بل بصيغة ترغيبية مثل:
﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾  أي رجاء تحصيل الرضا.

3.المؤشرات اللغوية لأوقات صلوات السُّنّة

تُفصح الألفاظ القرآنية عن أوقات متعددة لسُنن اليوم والليلة كما يلي:

  • قبل طلوع الشمس: تشير إلى سنة الفجر.
  • قبل غروبها: تدل على سنة العصر.
  • آناء الليل (جمع “آن”  وهو الوقت القصير) يدل على ثلاث فترات على الأقل، لأن أقل الجمع في العربية ثلاثة، وهي كما يلي:
    • سنة ما بعد المغرب
    • سنة ما بعد العشاء
    • سنة التهجّد
  • أطراف النهار (جمع طرف، أي قسم من النهار) وهي كما يلي:
    • صلاة الضحى
    • سنة الظهر القبلية
    • سنة الظهر البعدية
    • سنة العصر

ملاحظات لغوية 

  • آن: لحظة زمنية، وجمعها يدل على لحظات متعددة (ثلاثًا فأكثر).
  • طرف : جزء محدد من الوقت، وجمعه يدل على أقسام زمنية متعدّدة.

4.الفريضة في مقابل السُّنّة

تُبيّن خاصية المثاني[2] في القرآن هذا التمايز:

النوع العبارة الآيات الأوقات
فرض أَقِمِ الصَّلَاةَ الإسراء 78، هود 114 الصلوات الخمس
سُنّة سَبِّحْ طه 130، ق 39–40 سنة الفجر، سنن الظهر، سنة العصر،

سنن المغرب والعشاء، التهجد، الضحى،

5.الممارسة النبوية

يأتي التطبيق النبوي ليؤكّد الدلالة القرآنية على وجود صلوات تطوعية مرتبطة بأوقات اليوم والليلة. فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي ﷺ كان يواظب على اثنتي عشرة ركعة من السنن المؤكدة:

  • ركعتان قبل الفجر
  • أربع قبل الظهر وركعتان بعده
  • ركعتان بعد المغرب
  • ركعتان بعد العشاء

كما ثبت أن النبي ﷺ صلّى ركعتين أو أربعًا قبل العصر أحيانًا، ودعا بالبركة لمن حافظ عليها، لكنها صُنّفت ضمن غير المؤكدة لعدم مواظبته عليها دائمًا.

ولا يوجد حديث صحيح يُثبت وجود سنّة قبل العشاء.

وعليه، فإن الممارسة النبوية جاءت مطابقة تمامًا للألفاظ القرآنية ذات العلاقة

الخاتمة

  • فرضت الصلوات الخمس بعبارة “أقم الصلاة” ذات الدلالة القطعية الملزمة.
  • وأشير إلى صلوات السُّنّة بعبارة “سبّح” ذات الدلالة الترغيبية، المرتبطة لغويًا بأجزاء متعددة من الليل والنهار.
  • تدعم المعاجمُ العربية هذا التفسير من خلال تحديد معاني “آن” و”طرف” كأقسام زمنية.
  • كما جاءت السنة النبوية لتُثبت هذا التقسيم من خلال سننٍ مؤكدة وأخرى غير مؤكدة.

وبذلك يتّضح أن صلوات السُّنّة الراتبة هي جزءٌ أصيل من الهدي القرآني، جسّدها النبي ﷺ في تطبيقه العملي.

المراجع:

  • ابن منظور، لسان العرب، مادة: “طرف”، “آن”.
  • الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مادة: “قوم”، “سبح”.
  • البخاري، صحيح البخاري، كتاب التهجد: 25، 29، 34؛ كتاب الجمعة: 39.
  • مسلم، صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: 291 (رقم 729)؛ كتاب الجمعة: 71 (رقم 882).
  • مالك، الموطأ، 69؛ أبو داود، السنن، كتاب الصلاة: 290، 299؛ النسائي، السنن، كتاب الإقامة: 64؛ كتاب قيام الليل: 66.
  • أبو داود، السنن، كتاب الصلاة: 297 (الأحاديث 1271–1272)
  • الترمذي، السنن، كتاب الصلاة: 318.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  انظر المقالة التالية:   أوقات الصلوات في القرآن الكريم

[2]  انظر المقالة التالية: الأصول في تفسير القرآن بالقرآن – مفهوم المحكم والمتشابه والمثاني والتأويل

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.