حبل الله
الابتداء بمحاربة الكفار بدون مبرر

الابتداء بمحاربة الكفار بدون مبرر

السؤال: هل يحق للمسلمين الابتداء بالحرب ضد الكفار؟ أنا فهمت من القرآن أن المسلمين لهم الحق بإعلان الحرب إن أعلن الكفار عليهم الحرب أولا.

الجواب: الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم وليس الحرب، وتبقى حالة السلم هي الحاكمة في العلاقات الدولية إلا أن يتجاوز الكفار حالة السلم إلى حالة الحرب فحينئذ يكون المسلمون مكلفين بصد الأذى عن أنفسهم. والآية التالية تشرح الموضوع بالتفصيل:

قال الله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (الممتحنة، 8-9). ففي الآيتَيْن وضع الله تعالى دستور العلاقات ما بين المسلمين وغيرهم بشكلٍ دقيقٍ، وحتى تبقى العلاقة مع غير المسلمين قائمة على التعاون والسلم فقد اشترطت الآيتان السابقتان على غير المسلمين عدم إخلالهم بواحد أو أكثر من  “الخطوط الحمراء” الثلاثة التالية : 1. أن لا يقاتلوا المسلمين في دينهم 2. أن لا يسعوا لإخراجهم من ديارهم 3. أن لا يظاهروا من يحاول إخراجهم من ديارهم. فإن تجاوزا خطا من تلك “الخطوط الحمراء” تنتهى العلاقة معهم. ويصحُّ عندئذ إعلان الحرب إن تعذر دفعها بالطرق السلمية.

نفهم من مجموع الآيات والأحاديث الصحيحة في هذا الموضوع أنَّ الحرب حالة اضطرارية لا ينبغي أن يسعى إليها المسلمون بل يعملون جاهدين لدفعها ما أمكنهم ذلك. وهذا بيِّنٌ من قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة، 190) فقتال الآخرين لا يصحُّ أن يبدأ به المسلمون إلا أن يُقاتلوا، وقد اعتبرت الآية أن البدء بالقتال دون مبرر مشروع (تجاوز الخطوط الحمراء) يُعدُّ اعتداء لا ينبغي للمسلم فعله.

وخير مثال على هذا؛ موقف نبينا في الحديبية لمّا اعترضه بعض أصحابه على توقيع الصلح مع قريش حيث قال صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيدِه لا يَسألوني (أي أهل مكة) اليومَ خُطَّةً يُعظِّمون بها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطيتُهم إياها”[1]. وهذا الموقف منه _عليه الصلاة والسلام_ تطبيق لمقتضى الرحمة المبعوث بها، التي من أبرز سماتها عدم الابتداء بالحرب بدون مبرر.

ويحتج البعض بالآية التالية على جواز بدء الحرب من دون سبب:

{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة، 5)

والاحتجاج بهذه الآية على جواز قتال المشركين مطلقا هو تحريف لمعنى الآية، حيث إنها تتحدث عن المهلة التي مُنحت لمشركي مكة : {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (التوبة، 2) وقد أعطوا تلك المهلة كي يقرروا التوبة وقبول الاسلام، أو خروجهم من مكة.

إن المعاملة بالمثل أساس في الجزاء لقوله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (النحل، 126)

وقد اقتضت سنة الله إخراج من يسعى في إخراج الأنبياء من ديارهم، فكان إخراجهم من مكة هو العقوبة المستحقة عليهم، ولأن الجزاء من جنس العمل. قال الله تعالى {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا. سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (الإسراء، 76_77)

أما إسلامهم فيسقط العقوبة عنهم رحمة من الله لهم: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أما بقاؤهم على الكفر حتى انتهاء المدة ودون خروجهم فهذا يعني أنهم ما زالوا على حربهم الأولى لذا جاء قوله تعالى في الآية السابقة {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

فالآية مخصوصة بحالة معينة لا تتعداها، حيث لا يجوز اقتطاع بعض الكلمات منها ثم تعميمها للإيحاء بأن الحرب هي الأساس في العلاقات بين المسلمين وغيرهم. ومن العجب وجود من يزعم أنّ هذا الفهم الخاطئ للآية قد نسخ كل الآيات المتعلقة بالموضوع. والهدف جعل هذا الفهم الخاطئ أساسا في التعامل مع غير المسلمين. وهذا على خلاف ما بينته الآيات وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا.

 


[1]  سنن أبي داود، باب في صلح العدو (2765)

التعليقات

  • اهلا أستاذ جمال قرأت مقال ان غزوة بنى المصطلق غير حقيقية وان ابن إسحاق أول من إختلق ( غزوة بنى المصطلق ) وزعم فيها نسبة حديث الإفك لعائشة ، والتى نقلها الرواة عنه ومنهم البخارى وغزوة بني المصطلق تقول ان النبي هاجمهم وهم غارون? وقرأت شرح الحديث وهذا هو ((وهمْ غارُّونَ، أي: غافِلون لم يَشعُروا به، ومع أنَّ الأصلَ تَنبيهُهم، لكنْ لأنَّ الدَّعوةَ انتشَرَتْ وبلغَتْ، فقدْ كَفَتْ عن التَّنبيهِ والإنذارِ الخاصِّ، وقد كانتْ أنْعامُهم -لشِدَّةِ غَفْلتِهم- تَرْعَى وتُسْقى على الماءِ، فلَمْ يَأخُذوا حِذرَهم، فَقاتَلَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقَتَل منهم الرِّجالَ البالِغين، وأخَذَ ذَراريَّهم، وهم الذُّريَّةُ مِن الأولادِ والنِّساءِ، فأصبَحوا عَبيدًا ومَماليكَ)) وسؤالى لحضرتك هنا أستاذ جمال أليس القتال في الإسلام لصد العدو الذي يقاتلنا كما تقول الاية الكريمة ﴿قاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ﴾ أليس ما حدث في غزوة بنى المصطلق هو اعتداء
    ثانيا يقول الشرح ايضا يجوز سبى النِّساءُ والذُّرِّيَّةُ وسؤالى هنا ما ذنب سبى النساء والاطفال أليس هذا يتعارض مع الاية الكريمة ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾
    ما رأى حضرتك أستاذ جمال لاني أشعر ان أحداث غزوة بنى المصطلق تتعارض مع القرآن الكريم واخلاق الرسول العظيم

    • من المعقول أن تكون هناك غزوة بهذا الاسم، لكن ليس من المعقول الأخذ بروايات يخالف فيها نبينا الكريم القرآن الذي أنزل عليه، كمحاربة قوم لم يبدؤوا بقتال، أو بسبي النساء واسترقاقهن، فهذه الأفعال القبيحة لا يمكن لنبي الرحمة أن يفعلها، ونحن لسنا مجبرين على قبول كل الروايات لا سيما التي لا يصدقها القرآن ولا يقبلها المعروف.

  • اهلا وسهلا بحضرتك دكتور جمال وعندى سؤال بخصوص قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:٣٥].

    قرأت تفسير يقول هذة الاية فى حال قوة المسلمين يجب ان نحارب ولا ندعوا الى السلم لكن لو كنا فى حالة ضعف نقبل بالسلم والهدنة

    ما رأي حضرتك دكتور جمال

    وهذا الكلام لا اصدقه دكتور جمال أليس الإسلام دين سلام كيف عندما نكون نحن اقوياء نحارب ونرفض السلام ولكن نقبله فقط فى حاله الحرب

    • أهلا بك وتقبل الله منا ومنكم

      الجواب:

      هناك قاعدة تقول بأن الضعف يغري الخصم، من هذا المنطلق يوصي الله تعالى المؤمنين الذين يتعرضون للحرب أن يظهروا الحزم الكامل تجاه العدو حتى لا يطمع بهم أعداء أخرون، فإن انتهاء الحرب لصالح المسلمين سيمنع غيرهم من التفكير بحربهم.

      فالهدف من الحرب هو رد العدوان وتحقيق السلم، ولو كان الأمر هو القضاء على الكفار لما شرع الإسلام الأسر الذي يهدف إلى تحييد خطر المحارب المستسلم دون قتله [محمد: 4] ، ولما شرع جواز قبول مقترح السلم إن صدر من الأعداء [الأنفال: 61] .

      الممنوع هو أن يدعو المسلمون إلى السلم أثناء الحرب لأن هذا مؤشر ضعف [محمد:٣٥ ]، بخلاف الظروف العادية فإن المسلمين دعاة سلام لا دعاة حرب.
      أما قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:٣٥ ]

      فهذه الآية تبين أن المسلمين هم الأعلون دائما، لأن الله تعالى معهم ولن يتركهم، فلا داعي لإظهار الضعف أمام العدو وطلب السلم أثناء الحرب.

      إذا دخل المسلمون في الحرب فلا يصح لهم التراجع عنها إلا لضرورة حربية، كإعادة ترتيب الصفوف أو الانضمام إلى فرقة أخرى، وفي ذلك يقول تعالى:

      ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا ‌لِقِتَالٍ ‌أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الأنفال: 15-16]

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.