حبل الله
مفهوم التأويل في القرآن الكريم

مفهوم التأويل في القرآن الكريم

أ.د عبد العزيز بايندر

التأويل،  من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه: الموئل للموضع الذي يُرجع إليه، فالتأويل رد الشيء إلى الغاية المرادة منه[1]. ونعني بردها إلى الغاية المرادة منه الجمع؛ أي جمع المحكم مع متشابهه. كما يقال: أُلتُ الشي بمعنى جمعته وأصلحته.

وأبو منصور صاحب تهذيب اللغة يعرف التأويل على النحو التالي: التأويل؛ جَمْع معانٍ مُشكلة بلفظ واضح لا إشكال فيه.[2]

ونريد دراسة الآيات التي وردت فيها كلمة التأويل في أربع نقاط…

1_ تأويل الأحداث التي واجهها موسى مع الخضر عليهما السلام

اصطحب موسى الخضر في سفر وقد اشترط الخضر عليه أن لا يسأله عن شيء ينكره حتى يكون هو الذي يبتدئه بشرحه وبيانه من تلقاء نفسه، فركبا في السفينة. فلما بلغت بهم عرض البحر ولجت أي: دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحًا من ألواحها ثم رقعها. فلم يملك موسى عليه السلام نفسه إلا أن قال منكرًا عليه: «أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا». كما أنكر عليه قتل الغلام وبناء الجدار دون أجر.. إلى أن قال له الخضر: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا». فبدأ يبين سبب ما حدث قائلا:  «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا. وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا» (الكهف، 18/ 79-82).

وقد أوضح الخضر لموسى سبب ما فعله بتأويله؛ أي بربط الأحداث بما تؤول إليه من الأسباب؛ وبهذا استطاع موسى عليه السلام أن يفهم ما فعله الخضر بعد أن أول له الأحداث. وحديث موسى مع الخضر مهم للغاية لذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “يرحم الله موسى لو كان صبر لقص علينا من أمرهما”[3]

وكان التأويل هنا بالمتشابه أي بربط الأحداث المتشابهة بعضها مع بعض.

2_ تأويل الرؤيا

وحين كان يوسف عليه السلام في السجن، حكى الملك رؤياه كما قال تعالى على لسانه: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ، قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ» (سورة يوسف، 12 / 43-44).

تأويل الرؤيا هو الوصول إلى النتيجة بربط الرموز التي رآها الشخص في المنام مع ما يشابهها مما يحدث في الحياة الواقعية نظرا لحالة الشخص الذي يراها.

استطاع يوسف عليه السلام أن يعبر الرؤيا بربطه الرموز التي رآها الملك بما تعنيه في واقع الحياة، حيث قال كما أخبر الله تعالى عنه: «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» (سورة يوسف، 12 / 47-49).

فسر يوسف عليه السلام سبع بقرات سمان بالخصب الذي يستمر سبع سنوات. وسبع بقرات عجاف بالقحط الذي يستمر سبع سنوات لا خصوبة فيها، حيث يأكل الناس ما ادخروا خلال السنوات السبع الخصبة. وكذلك سبع سنبلات خضر وأخر يابسات جاءت تأييدا لذلك. وعلى هذا الأساس وصل يوسف عليه السلام إلى تأويل رؤيا الملك. أما المعبرون من رجال الملك فلم يستطيعوا تعبير رؤياه؛ لأنهم لم يستطيعوا ربط ما رآه الملك من الرموز مع ما يشبهها مما يحدث في واقع الحياة.

وخلاصة القول أن تأويل الرؤيا هو ربط الرموز التي يرآها الشخص في المنام مع ما يشبهها مما يحدث في الحياة الواقعية.

3_ تأويل الحياة الدنيا

الدنيا مكان الامتحان، وكل ما يحدث فيها له علاقة بما سيحدث في الآخرة. قال الله تعالى مبينا ذلك التشابه: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (سورة الأنعام، 6 / 160).

وكلمة مثل تعني التساوي والتشابه بين شيئين. وقولنا هو مثله أي أنه يقوم مقامه.[4] وإذا جمع أصحاب النار ما رآوه فيها بما عملوا في الدنيا لوصلوا إلى التأويل الصحيح، أي أنهم يعرفون أن ما يعانونه من العذاب هو مقابل سوء أعمالهم في الدنيا. قال الله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ» (سورة الأعراف 7 / 53).

4_ تأويل الآيات

وقبل أن نبدأ في موضوع تأويل الآيات نلخص النتائج التي وصلنا إليها من النقاط الثلاثة السابقة كما يلي:

التأويل هو الربط بين الأشياء بعلاقة مباشرة تجعل بعضها مشابها لبعضها الآخر، وعلى هذا يكون التأويل بين المتشابهات.

ولا بد في التأويل أن يكون أحد العناصر معروفا على الأقل. وكان موسى عليه السلام يعرف ما حدث وكذلك الملك كان يعرف ما رآه في المنام ولكن أياً منهما لم يستطع أن يأتي بما يربط تلك الأحداث بحقائق الأمور ربطا صحيحا. وقد اضطر موسى عليه السلام أن يفترق عن الخضر لأنه أخطأ في تأويل الأحداث. أما الملك فبحث عمن يؤول رؤياه؛ لأن المعبرين عنده لم يعرفوا تأويلها. وعرف موسى حقيقة الأمر بعد تأويل الخضر لما فعله، وكذلك الملك عرف تأويل رؤياه بعد أن أولها يوسف عليه السلام.

وتأويل الحياة الدنيا يختلف عن التأويلين السابقين. لأن كلا الشيئين المتشابهين معلوم؛ فالمكلف الذي بلغته الرسالة يعرف عبر الرسول تأويل أمره في الآخرة؛ أي ما يجازى به يوم القيامة مقابل أعماله في الدنيا. والذي آمن وعمل صالحا يكون من السعداء، أما من كفر واتبع هواه فيؤوِّل الأمور حسب ما يمليه الشيطان من الأماني. وقد أورد القرآن قول صاحب الجنتين المنكر لحق الله عليه «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا» (سورة الكهف، 18 / 36). وهذا وأمثاله يعترفون بإنكاهم للحقائق حين يقفون أمام الله تعالى للحساب ولكن حين لا يجدي الاعتراف ولا ينفع الندم.

الآية 7 من سورة آل عمران التي تتعلق بالتأويل:

قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ[5]. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا[6] وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (سورة آل عمران، 3 / 7-8).

نحاول الآن أن نفهم الآية بالتفصيل:

قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ؛ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»

كلمة “المتشابه” تطلق على أشياء متماثلة.[7] وللحديث عن التشابه لا بد من مشبه ومشبه به. والمشبه هنا الآيات المحكمات. وعلى هذا فالمشابهة تكون بين المحكمات وغيرها من الآيات. وعليه فإن جميع أيات الكتاب متشابهات لوجود التشابه بينها، كما نفهم ذلك من قوله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ» (سورة الزمر، 39 / 23) أي يشبه بعضه بعضا.

قوله تعالى: « فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ».  وقوله تعالى: “تشابه منه” يدل على أن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون من آيات القرآن ما يوافق أهوائهم دون ردها للآيات المحكمة في الموضوع، والمقصود أن تشيع الفتنة.

الله تعالى هو الذي يؤول الآيات لا غيره، لكي لا يعبد الناس غيره سبحانه. وما على المفسر إلا معرفة ذلك والوصول إليه والإيمان به والعمل بمقتضاه. قال الله تعالى: « الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» (سورة هود، 11 / 1-2).

وخطأ موسى عليه السلام في التأويل كان سببا في فراقه عن الخضر. وكذلك التأويل الخطأ للآيات يكون سببا في فراق الإنسان عن سبيل الله تعالى. ولو أن موسى أصر على تأويله الخاطئ بعد أن تبين له الصحيح بمعرفة ارتباط الأحداث بما يتصل بها من المعاني لحُكِم أن في قلبه زيغا.

والآيات المحكمات وما يُفصِّلُها من المتشابهات كلها موجودة في الكتاب. ومن يتبع تأويلا يتفق مع هواه متجاهلا تأويل الله تعالى فلا شك أنه من أصحاب الزيغ. وبهذا نستطيع أن نقول في مفعول فعل “تشابه” ما يهدفه الذي في قلبه زيغ. وما جاء في سبب نزول الآية يؤيد كل ذلك.

قال إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: عَمدوا – يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران – فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا! فأنزل الله عز وجل:”فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة”، ثم إن الله جل ثناؤه: أنزل «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة آل عمران، 3 / 59).

وكان نصارى نجران قد أخذوا ما وافق هواهم من الآيات (أي ما تشابه مع بغيتهم) وهو قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْه» (سورة النساء، 4 / 171)

وقد أخطأوا في تأويل الآية بقطع علاقتها بالآيات الأخرى. والتأويل الصحيح لها أن نفهمها مع الآية السابقة أي الآية التاسعة والخمسين من سورة آل عمران. وهذا هو العوج الذي حذر الله تعالى منه في سياق بيانه سمات من يؤول الآيات بهدف تطويعها إلى هواه ابتغاء الفتنة؛ «الذين يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ» (سورة إبراهيم، 14 / 3).

قوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ»

وما يعلم تأويله إلا الله يعني أن تأويل القرآن الكريم يكمن فيه فقط . وبعبارة أخرى لا يجوز القيام بالتأويل إلا من خلال الأساليب التي بينها الله تعالى في القرآن الكريم. وهذا يشبه اقتصار معرفة الخضر لتأويل الأحداث في رحلته مع موسى، وكذلك يوسف في تأويله لرؤيا الملك.

وقوله تعالى في آخر الآية «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» يدل على إمكانية معرفة هذا التأويل.

وقد ذكر الله تعالى خصائص “أولوا الألباب” في قوله: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ» (سورة الزمر، 39 / 18).  وهم الذين أعطاهم الله الحكمة. قال تعالى: «يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ» (سورة البقرة، 2 / 169).

والضمير في “تأويله” يعود إلى الكتاب أو الآيات المراد تأويلها. والذي أول الكتاب حيث ربط آياته بعضها ببعضها الآخر هو الله تعالى. وقد وضع سبحانه بين الآيات التي تبين موضوعا معينا روابط وعلاقات حيث يستطيع العثور عليها فريقُ عمل (قَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يتكون ممن يعرف العربية والقرآن والموضوع المراد دراسته، فيقوم هذا الفريق ببيان وتوضيح الموضوع. قال الله تعالى: «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (سورة فصلت، 41 / 3)

ويمكن أن نفهم قوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ» من سورة آل عمران؛ أن الراسخين في العلم هم كذلك يعلمون تأويله. ولكن هذا المعنى لا يتماشى مع السلامة الداخلية للآية.

قوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»

ويراد بالعلم هنا تأويل الآيات بحيث تُجمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد على شكل (قرآن). وهذا لا يعلمه إلا الله. ولا يَعلَمُه غيره حتى يعلِّمه الله. لذا قال الله تعالى: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا» (سورة طه، 20 / 113-114).

والمراد بقول الراسخين في العلم: “آمنا به كل من عند ربنا” عدم جواز تأويل الآيات إلا أن يكون ذلك التأويل وفق ما أمر الله. وهم يدعون ربهم قائلين: «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (سورة آل عمران، 3 / 8). وقد تم نزول القرآن الكريم، وتأويله فيه. والذي يعرف الأسلوب يحصل عليه. لذا كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: اللَّهُمَّ أَعْطِ ابْنَ عَبَّاسٍ الْحِكْمَةَ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ.[8] ومن الواضح أنه لا يقال عمن لا يعرف التأويل أنه راسخ في العلم.

وبعد كل هذا نستطيع أن نعرِّف التأويل تعريفا خاصا بالقرآن الكريم:

التأويل: هو ربط الآيات المتشابهات التي تشرح موضوعا معينا بالآية المحكمة بهدف الوصول إلى الحكمة، أي الحكم الصحيح المستخرج من الآيات.

 


[1]   المفردات، مادة: أول.

[2]  أبو منصور محمد بن أحمد، تهذيب اللغة، تحقيق: محمد بن عواد معرب، بيروت 2001 عدد الأجزاء 15، جـ. 15، صـ. 329.

[3]  البخاري  في الصحيح (122) و (3278) و (3401) و (4725) و (4727) و (6672) ، ومسلم (2380) (170) ، وأبو داود (4707) ، والترمذي (3149) ، والنسائي في “الكبرى” (11308) وعبد الرزاق في “تفسيره” 1/408-410، والحميدي (371)

[4]  أنظر لسان العرب لابن منظور مادة: مثل.

[5]  لبب (الصّحّاح في اللغة) ابن السكيت: ألَبَّ بالمكان، أي أقام به ولزِمه. قال الله تعالى: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ»  (الزمر، 39 /  18)

[6]  الهداية: هي التوجيه بلطف. والهداية من الله على أربعة أنواع.

  1. بيان الله تعالى لكل المكلفين أنه موجود وواحد على التوالي. لذا جعل كل إنسان مكلفا باجتناب الشرك فقال تعالى: « إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا» (سورة النساء، 4 / 48).
  2. إعطاء الله تعالى الإنسان ملكة بها يستطيع أن يميز الخير من الشر. قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام:  «قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» (سورة طه، 20 / 51). ليست الآية ما في القرآن الكريم فحسب؛ بل هي كثيرة في الآفاق وفي الأنفس. ومنها نحصل على المعلومات الضرورية. قال الله تعالى في كتابه الكريم:  «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» (سورة الذاريات، 51 / 20-21).
  3. إرساله الرسل لهداية الناس. قال الله تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» (سورة الأنبياء، 21 / 73).
  4. إكرام الله تعالى لعبده بالهداية. وهي إما لمن يريد الهداية. كما في قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (سورة إبراهيم، 14 / 4). أو لمن اهتدى بالفعل. كما في قوله تعالى: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (سورة التغابن، 64 / 11).

[7]  لسان العرب، ابن منظور، مادة: شبه.

[8]  مسند أحمد بن حنبل، جـ. 1، صـ. 269. (مسند عبد الله بن عباس).

التعليقات

  • بسم الله الرحمن الرحيم
    لقد اشتبه على الناس معنى التأويل. فمعنى التأويل في جميع آيات القرآن هو التنبؤ بما يحدث في الغيب. وفي الآية 7 آل عمران التي تتحدث عن متشابهات الأحكام تتحدث عن الآيات التي أنزلت في الشهوات التي نهى الله عنها تدريجياً والتي جعلها الله فتنة لبني آدم ليعلم الراسخ في إيمانه فينتهي عن حبها ويصمد في وجد الشيطان مكتفياً بما قسمه الله له منها من الذين يتبعون الشيطان الذي يزين لهم أنها حلال
    بعد نهيها ويجعلهم يتبعون الآيات المنسوخة لوجود الإباحة فيها. فهو يزين لهم حبها بتأويل باطل وكاذب أي يتنأ لهم بسعادة شديدة إذا نالوا تلك الفتنة أي الشهوة وفي حقيقة الأمر لا يعلم تأويل حالهم بعد أن ينالوها إلا الله تماماً كما حدث لأبوينا آدم وحواء عندما تنبأ لهما ل[نهما سيصيران ملكين أو يخلدا إن أكلا من الشجرة الممنوعة فكان تأويل حالهما لا يعلمه إلا الله وهو ظهور عورتهما وخروجهما من الجنة. أما إبليس فكان يعلم أنهما إن عصيا ربهما فسوف تكون عاقبة أمرهما خسراً وليس سعادة
    لهذا كان معنى التأويل هو عاقبة الأمر التي يتأولها الإنسان والتي هي أمر غيبي لا يعلمه إلا الله والله أعلم

    • التأويل هو علم لسرد وتفسير أحداث صادقة حقيقية تحدث في المستقبل بأذن من الله فقط . و الشيطان لم يعرف علم التأويل (لان الله اختص نفسه و الرسل و الراسخين في العلم به) و لكن الشيطان يعرف الغواية و الضلال و هو ما حدث مع ادم و حواء . و الله اعلم .

  • السلام عليكم ذكرتم في الفهرس 4إكرام الله تعالى لعبده بالهداية وهي اما لمن يريد الهداية او لمن اعتدى بالفعل ما المقصود باعتدى بالفعل ولكم شكري الجزيل

    • وعليكم السلام ورحمة الله
      هناك خطأ في العبارة، والصحيح هو (أو لمن اهتدى بالفعل) وقد قمت بتصحيحها في المقالة.
      وشكرا جزيلا لك أختنا الكريمة على لفت الانتباه

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.