حبل الله
الاستبداد؛ منابعه وأسباب قابليتنا له

الاستبداد؛ منابعه وأسباب قابليتنا له

ما هي الأسباب والمنابع والمناخات المُؤَسِّسَة والمُجَذِّرَة للاستبداد ولقابليتنا له بيننا ؟

مقاربة معرفية تأسيسية أولية

الباحث: د. يحيى رضا جاد[1]

مقدمة

لَمَّا كان “الاجتهادُ الإسلامي المعاصر” غيرَ قاصرٍ – قطعاً- على “الاجتهاد الفقهي”، كانت هذه الدراسة التي تقدم “اجتهاداً إسلامياً معرفياً تأسيسياً أولياً” [2] لمقاربةِ قضيةٍ من كبريات قضايا العرب والمسلمين، في عصرنا هذا بالذات، قضية تحديد وبيان وجلاء “أهم الأسباب والمنابع والمناخات المُؤَسِّسَة والمُجّذِّرَة لروح الاستبداد/ الدكاتورية/ التسلط ولقابليتنا المجتمعية الفائقة له”؛ لأن اهتداءنا – بطريقةٍ معرفيةٍ- إلى هاتيك الأسباب والمنابع والمناخات يعني نجاحَنا في التوصل إلى “إِتْيُولُوجِيَّةِ الاستبدادِ وقابليتِنَا له” [3] ، مما ييسر السبيل – بإذن الله تعالى- إلى علاجٍ فعالٍ ناجعٍ يستأصل شأفةَ هذا الأخطبوط السرطاني.

فلنبدأ باسم الله وعلى بركة الله :

***

1- من أهم “مشكلات الساحتين الفكرية والسياسية” في بلاد العرب والمسلمين : “الخوفُ من إبداء الرأي” .. ومن ثم – وفيما بعد، ومع مرور الوقت- “الخوف مِن ممارسة التفكير والإبداع والنقد” .. وذلك لكثرةِ وحِدَّةِ تحرشات وتعديات “الاستبداد/ الدكتاتورية/ التسلط” التي يمكن أن تَلْحَقَ بـ ، وأنْ تَنْزل على رأس، مَن يتجرأ ويفعل .. سواء كانت تسلطاتٍ بديباجات دينية أو اجتماعية أو سياسية أو أمنية أو غير ذلك أو خليطاً من ذلك كلِّه أو من بعضِه .. وسواءٌ كان أرباب تلك التسلطات مقتنعين – حقاً وصدقاً- بتلك الديباجات، أو – فقط- مُوَظِّفين لها في سبيل إلباس وإكساب تسلطاتهم تلك بُرُد الحقانية والشرعية والقبول.

ونقصد بـ “الاستبداد/ الدكتاتورية/ التسلطية” : كل مناخ وحالة وبيئة “قَهْرَانِية إذلالية” تُحيطُ بأعناقِ الناسِ الرمزيةِ أو الماديةِ (أي تحيط بحركتهم في الحياة؛ رمزيةً كانت أو ماديةً) إحاطةَ السِّوارِ بالمِعْصَم.

وهذه المناخات والحالات والبيئات “الاستبدادية/ الدكتاتورية/ التسلطية” :

* غالباً ما تتميز (على مستوى التفكير والاستراتيجية والعقلية) بـ  [4] :

أ- المنطق “الشمولي”؛ بمعنى “الهيمنة والسيطرة المطلقة” .. مما يؤدي – ضمن ما يؤدي- إلى خَنْق ووأد أية مساحات حركة حُرة (ومن ثم : إلى بذر بذرة العنف المسلح الشيطانية؛ لمضادة هذا الجو الشيطاني؛ جو الخنق والوأد والهيمنة المطلقة)، وإلى شيوع منطق الاتكالية والتواكل والسلبية، وإلى شيوع منطق الوصولية والتملق والنفاق .. إلخ.

ب- ومنطق “الفرصة والغنيمة والانقضاض”؛ منطق “الآن والآن فقط” .. مما يؤدي – ضمن ما يؤدي- إلى شيوع منطق الميكافيللية الانتهازية، وإلى شيوع منطق الضربات القاضية .. إلخ.

ج- والعقلية الصِّفرية؛ عقلية “إما – أو”؛ عقلية الرابح أو الخاسر، المنتصر أو المهزوم، الحليف أو العدو؛ إذ “التسلطية” نمطُ قتلٍ (معنوي و/ أو مادي) لا غير .. مما يؤدي – ضمن ما يؤدي- إلى انعدام رؤية المساحات الطيفية والرمادية، وإلى شيوع منطق الصراع والصرع والإفناء، وإلى انسداد المخارج .. إلخ.

د- وحَصْر القيم العليا (مثل : الكرامة، العدالة، الإيمان، العزة، الوطنية .. إلخ)، بلسان المقال و/ أو بلسان الحال، في كيانات محددة وأشخاص بأعينهم (هي الكيانات والشخصيات التي يقوم على أكتافها “الاستبداد/ الدكتاتورية/ التسلط”) .. مما يَنتُج عنه : النظرات “الاستعلائية” للذات، والنظرات “الاستحقارية” للآخَر .. مما يؤدي – ضمن ما يؤدي- إلى “انتفاخ” أرباب هذه التسلطية و”تضخمهم” على حساب المجتمع/ الأمة/ الشعب/ الجماهير، وبالتالي إلى “الاستعلاء في الأرض”.

* وغالباً ما تتميز (على مستوى النظرة إلى المجتمع/ الأمة/ الشعب/ الجماهير) بـ [5] :

أ- النظر إليه نظرةً قائمةً على “الحذر” و”التوجس” و”الريبة”، وبالتالي تصبح “ثقة” هذه “الاستبدادات/ الدكتاتوريات/ التسلطات” في مجتمعاتها ضعيفةً للغاية (مما يُغَذِّي ويُزِيد – ضمن ما يُغَذِّي ويُزِيد- الرغبة في “الهيمنة والسيطرة المطلقة”).

ب- و/ أو التعامل معه من أفق “الأبوية السلبية”؛ باعتبارها “الراعية والحامية” له؛ وذلك باعتباره “قاصراً” لم يَبلُغ بعدُ سنَّ الرشد.

ج- وبأن المُعارَضة – في ظل كل ما سبق بيانه- : مخالِفةٌ للأوامر، وكاسرةٌ لها .. وبالتالي : خائنةٌ وعميلةٌ .. وبالتالي : لا يوجد معارَضَة ولا يُسمَح بوجودها، وإن سُمح ففي إطار كونها مُكملات/ إكسسوار/ طيور زينة مُلائِمَة أو مُزَيِّنة للقفص الحديدي.

د- وباعتبار مكونات/ وحدات المجتمع – ثمرةً لكل ما سبق، ومآلاً له- أَشْبَه ما تكون بمكونات الجبهات العسكرية القتالية .. وبالتالي : لا يُسعَى في سبيل تحقيق “تكامل” هذه المكونات/ الوحدات المجتمعية/ الاجتماعية (تكاملها باعتبارها “لَبِنات في جدارنا الوطني” و”وِحداتٍ في جَبْهَتِنا”)، وإنما يُسعَى – سعياً ناعماً و/ أو خَشِناً- في سبيل “تشتيتها وعزل بعضها عن بعض وتفكيكها وتفتيتها” (تشتيتها باعتبارها “لًبِناتٍ في جِدار العدو” أو “وِحداتٍ في جبهته”).

***

2- ويترتب على مشكلة “إبداء الرأي” سابقة الذكر (ضمن ما يترتب) :

أ- أن المتصدرين لإبداء الرأي في مثل هاتيك الأجواء “الاستبدادية/ الدكتاتورية/ التسلطية” المذكورة، وأن مَن يُسمَح لهم بالتصدر فيها، هم – غالباً- :

مجموعات من المرتزقة أو المتسولين أو المهرجين أو الأذِلاء أو النفعيين الوصوليين.

أو من كبار المستفيدين من استمرار الأوضاع القائمة.

أو من كبار المُغَفَّلين والسُّذَّج.

ب- وأنهم لا يُبدون آراءهم إلا في كل ما هو “جزئي أو خاص أو ضئيل أو تافه أو مُدَغْدِغٍ للشهوات والأهواء والنفوس أو مُلَمِّعٍ للسلطة القائمة وتسلطاتها”، أما “الكليات والأساسيات والرئيسيات والمفاصل والحريات والعدالة والحقوق والواجبات” فتتوارى وراء هاتيك السخافات وتُحجَبُ بها.

ويترتب على هذا كله (ضمن ما يترتب) أمران هامان :

(أولهما) المزيد من الطغيان “الاستبدادي/ الدكتاتوري/ التسلطي” ذي الديباجات الدينية و/ أو السياسية و/ أو الاجتماعية و/ أو الأمنية أو غير ذلك أو خليطاً من ذلك كلِّه أو من بعضِه.

و(ثانيهما) أن يحيا هؤلاء المتصدرون لإبداء الرأي (مع آلهتهم، وفي أنساقهم، “الاستبدادية/ الدكتاتورية/ التسلطية” تلك) : في “وادي الذهب”، وأن يحيا الناسُ : في “وادي سَقَر”.

***

3- وإذا كان ذلك كذلك :

– وُضع العقلُ – ملكة التعقل- في قفصٍ “مجازي” من حديدٍ (نظيراً لحالةِ وضعِ أقدامِ البنات في قوالب “حقيقية” من حديد أيام قدماء الصينيين)، وذَبُلَت منه إمكانيات ومَلكات الإبداع والاجتهاد والتجديد.

– فتبدأ “متتالياتٌ خَمْس” (تبدأ في التكون والبزوغ والظهور، أو تبدأ في معاودة النشاط بعد كمونٍ وخفوتٍ) :

* أربابُ أُولاهَا : ينسحبون من الحاضر، ذاهبين إلى الماضي (يرتمون في أحضان الماضي) .. مُلْبِسين إياه ثوبَ “المثالية الطوباوية” (وهي مثالية كاذبة) .. ومن ثم : داعين إلى اجتراره وإعادة استحضاره جملةً و/ أو تفصيلاً.

* وأربابُ ثَانِيَتِها : ينسحبون مِن “ههنا”، ذاهبين إلى “ما هناك” (يرتمون في أحضان الآخَر) .. مُلْبِسين إياه ثوبَ “الإنقاذ الطوباوي” (وهو إنقاذٌ كاذب) .. ومن ثم : داعين إلى تقمصه والتلبس به جملةً و/ أو تفصيلاً.

* وأرباب ثالثتها : يَسْحَبون بساطَ الحياةِ من تحت الماضي والحاضر والمستقبل جميعاً، ذاهبين إلى التفجير والترويع (يرتمون في أحضان/ أتون الرصاص والدبابات) .. مُلبسين واقعهم ثوبَ “الشيطانية الكاملة التامة” (وهو ادعاء كاذب) .. ومن ثم : داعين إلى نسفه ومحوه وإزالته وإبادته.

* وأرباب رابعتها : يسحبون أنفُسَهم هم مِن على بساطِ الحياةِ والناسِ، ذاهبين إلى فردوسهم الموهوم (يرتمون في أحضان السلبية والانسحاب) .. مُلبسين أنفُسَهم ثوبَ “الروحانية الطوباوية” (وهو وهمٌ كَذوب) .. ومن ثم داعين إلى “الاستكانة” و/ أو “التبرير”.

* وأرباب خامستها : ينغمسون بأنفسهم في الحياة الدنيا، ذاهبين إلى التحايل/ الميكافيللية الانتهازية اللاأخلاقية .. مُلبسين واقعهم ثوبَ “اللاأخلاقية المطلقة” (وهو تصور كاذب) .. ومن ثم داعين إلى “الزئبقية المطلقة” في التعامل معه.

***

4- وبهذا، نجد أنفُسَنا أمامَ خمسة تيارات رئيسية (في داخل كل منها طيفٌ واسعٌ من الألوان/ التنويعات/ التنوعات/ التمايزات) :

أ- تيار الزواج الكاثوليكي بالماضي (تيار سلفي ماضوي؛ يَسْتلِبُنا للماضي) .. وبه يَنشَأ “الفقهوت” (نسبةً إلى “علوم الفقه والكلام”؛ ونظيراً لـ “الكهنوت”) [6] .

ب- وتيار الزواج الكاثوليكي بالآخَر (تيار سلفي آخَرَوِي؛ يستلبُنا للآخَر) .. وبه يَنْشَأ “الأَخَرُوت/ الثَّقَفُوت” (نسبةً إلى “الآخَر” و”الثقافة”؛ ونظيراً لـ “الكهنوت”).

ج- وتيار الزواج الكاثوليكي بالتفجير والترويع (تيار قتالي شَرِس؛ يستلبنا للعنف) .. وبه يَنشَأ “العُنْفُوت/ السِّلاحُوت” (نسبةً إلى “العنف” و”السلاح”؛ ونظيراً لـ “الكهنوت”).

د- وتيار الزواج الكاثوليكي بالسلبية والانسحاب (تيار إِماتِي استكاني تبريري؛ يستلبنا للقعود والإقعاد والتخذيل) .. وبه يَنْشَأ “البَرَرُوت” (نسبةً إلى “التبرير”؛ ونظيراً لـ “الكهنوت”).

و- وتيار الزواج الكاثوليكي بوأد الأخلاقية والقيمية (تيار ميكافيللي زئبقي؛ يستلبنا للشهوات والأهواء والنزوات والمصالح الخاصة والضيقة والفئوية) .. وبه يَنشأ “النَّخَبوت” (نسبةً إلى “النٌّخْبَة”؛ ونظيراً لـ “الكهنوت”، سواءٌ كانت نخبةً سياسيةً أو إعلاميةً أو اقتصاديةً أو عسكرية أو قَبَلية أو خليطاً مِن ذلك كلِّه أو مِن بعضِه .. إلخ).

وعندها تبدأ “متتالية التمزق/ الانهيار” بحيث :

أ- تنشّدّ قُوَى الأمة في هاتيك الخمسةِ اتجاهاتٍ المتنافرةِ المتخاصمةِ غيرِ المتضايِفَةِ، فتتبددُ قُوَى الأمةِ شَعاعاً.

ب- ويبدأ كلُّ تيارٍ في “التعالي/ الاستعلاء” على الآخَر، سواءٌ كان هذا التعالي/ الاستعلاء معرفياً أو عملياً، كامناً متخفياً مستتراً أو ظاهراً مُعلناً ناشطاً.

ج- ويبدأ “نفي الآخرين وإعدامهم” معنوياً و/ أو مادياً، وتبدأ “الحرب الأهلية” المعنوية و/ أو المادية.

د- وتَنشَطُ – قبل ذلك ومعه، وتمهيداً له وبسببه- “لعبة التسلطات” (ذات الديباجات الدينية و/ أو السياسية و/ أو الاجتماعية و/ أو الأمنية أو غير ذلك أو خليطاً من ذلك كلِّه أو من بعضِه) مع هذه التيارات : في التوظيف والاستغلال والاستخدام والتقريب، وفي التضييق والتحجيم والإبعاد والإقصاء والاستئصال والتفزيع والترويع (التفزيع والترويع بها، والتفزيع والترويع لها).

وبهذا، ولهذا، تتحول هذه التياراتُ – بوعيٍ منها أو بغير وعيٍ- إلى “تياراتٍ وظيفيةٍ” [7] :

أ- تُحَوْسِلها التسلطاتُ (أي تُحَوِّلُها إلى وسيلةٍ)؛ لِتَحفظَ وتَخدمَ وتقضيَ بهذه التيارات مصالحها وأغراضها الخاصة.

ب- و/ أو تُحَوْسِلُ هي – أي هذه التيارات- أيَّ شيءٍ (أي : تُحَوِّله إلى وسيلةٍ)؛ من أجل حفظ وخدمة وقضاء مصالحها وأغراضها الخاصة.

وفي كلتا الحالتين عامةً، وفي الأولى منهما خاصةً، تصبح هاتيك التيارات – المنغمسة في “لعبة التسلطات”- “طُفَيْليةً”؛ يَعتمد انتعاشُها على “عائلٍ” هو أرباب “الاستبداد/ الدكتاتورية/ التسلطية”.

***

5- وبهذا كله، نجد أنفُسَنا قد انحدرنا – في أجواء الانهيار والتمزق والوظيفية الطفيلية والحَوْسَلَة هذه و/ أو بسببها- إلى مستوى أن يصيرَ “تصورُ” كلِّ تيارٍ منها لنفسه – في وعيه أو لاوعيه- بمثابة “الدين/ الكينونة/ الهُوية/ الحافظة/ الصَّدَفة الحامية” بالنسبة لأربابه.

وما دام أربابُ كلِّ تيارٍ منها قد انغمسوا في “لعبة التسلطات” سابقة الذكر – سواء كان الانغماسُ بوعي أو بغير وعي- : أضحى تصورهم للدين/ للكينونة/ للهوية/ للحافظة/ للصَّدَفة الحامية “سلطوياً تسلطياً قهرانياً” :

فبدلاً من أن يكون أساسُ التصورِ “تعبدياً” قائماً على “متتالية ثلاثية الأركان” : [الله – الأمة – الأمر/ السلطة] [8] .. (فالله تنبثق عنه الأمة، والأمة ينبثق عنها الأمر/ السلطة).

فبدلاً من هذا، يصيرُ أساسُ التصورِ – في النموذج المعرفي “الكامن”، وفي المآل والثمرة- “تسطلياً قهرانياً” قائماً على واحدةٍ من إحدى “المتتاليات” المغايِرَةِ الآتية :

أ- إما : [الله – التيار – السلطة] .. فالله ينبثق عنه التيار (وكأن التيارَ هو شعبُ الله المختار)، والتيار تنبثق عنه السلطة (وكأنه هو صاحبها ومالكها والمُخَوَّلُ بها والقوام عليها والحارس لها) .. وأربابه هم : (التيار السلفي الماضوي) و(التيار القتالي الشرس) و(قطاعات متفرقة من مختلف التيارات الأخرى).

ب- وإما : [التيار – السلطة] .. ففي البدء كان التيار لا الله (وعياً أو لاوعياً)، وعن التيار تنبثق السلطة انبثاقَ الوليد من رحم أمه .. وأربابه هم : (التيار السلفي الآخَرَوي) و(التيار الميكافيللي الزئبقي) و(قطاعات متفرقة من مختلف التيارات الأخرى).

ج- وإما : [السلطة – السلطة] .. ففي البدء كانت السلطة، وفي المنتهى هي السلطة؛ فهي الأول والآخر، وهي الظاهر والباطن .. وأربابه هم : (التيار الإماتي الاستكاني التبريري) الرافع لشعار “الرِّضا بما حَكَم القضا” و(التيار الميكافيللي الزئبقي النَّخَبُوتي) و(قطاعات متفرقة من مختلف التيارات الأخرى).

وبهذه التصورات :

– تختل “معادلة الإسلام الإنسانية التعبدية” : [الإسلام = “دين” + “أمة”؛ أي الإسلام = “هداية” + “مؤمنين بالهداية ومجتهدين في تحريها واستلهامها وتفعيلها في مختلف أبعاد حركتهم في الحياة”]؛ والتي منها ينشأ – ضمن ما يَنْشأ- “أولو الأمر” منبثقين عن الأمةِ وخادمين لها ووكلاء عنها وأُجَراء لديها في إدارة “الأمر”.

– لتصيرَ “معادلةً سلطويةً تسلطية” : [الإسلام = “دين” + “دولة”؛ أي الإسلام = “هداية” + “سلطة”] [9] .. والتي بها (سواء عن طريق الوسائل الناعمة أو الخشنة أو بمزيج منهما) : تنسحق الأمةُ، وتنشأ/ تتشرعن/ تتفَقْهَن “السلطة”، وبالتالي الدولةُ الاستبدادية الدكتاتورية التسلطية (فقهوتيةً كانت – في نموذجها المعرفي الكامن أو المُعلَن- أو أخَروتيةً أو عُنْفُوتيةً أو بَرَرُوتية أو نَخَبوتيةً أو خليطاً من ذلك كله أو خليطاً من بعضه).

***

6- والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه هنا : مِن أين أتت هذه “التسلطية/ الدكتاتورية/ الاستبداد” ؟ أي : ما هي أسبابُ شيوعِ “روح الاستبداد” في بنية مجتمعاتنا وممارساتنا ؟ ما هي أسبابُ تجذرِها لدينا وبيننا بهذا الرسوخ وبهذه القوة والحدة ؟ ما هي أسباب تهافت مجتمعاتنا على التمرغ في ترابها ولعق أحذيتها وحرق البخور في محرابها المُدَنَّس ؟!

وبعبارة أخرى : إذا كان “الكواكبي” يقول : “الاستبدادُ أصلُ الداءِ، داءِ الانحطاط” [10] (وهو مُحِقٌّ في ذلك)، فعلينا أن نسأل ونُجيبَ عن سؤال مفصلي محوري كبير : ما هي منابع “روح هذا الاستبدادِ” و”قابليتنا له” ؟ وما هي بِنية “روح الاستبداد” التي تأسست بيننا عليها وتَجَذَّرَت بيننا بسببها ؟ وما هي الأسباب والمناخات المُؤَسِّسَةُ والمُغَذية لتلك “القابلية العجيبة له” ؟ تلك المنابع والبنية والأسباب والمناخات التي يجب أن نضع أيدينا عليها؛ لنجففها ونتخلص منها؛ فنتخلص من الاستبدادِ وروحِهِ وقابليتِنَا له.

وبعبارة ثالثة : ما هو “المناخ” وما هي “الأصول” و”الأفكار” و”البنية” و”الأوضاع” و”الممارسات” التي أدت إلى تأصيل وتأصل وتجذير وتجذر “روح الاستبداد” عندنا وبيننا وفينا و”قابليتنا له” ؟

والجواب على هذا السؤال الكبير هو مِن أَوْلَى وأحرى الموضوعات والمسائل والميادين بالانتباه والتناول والمقاربة والبحث والفحص والدراسة والاجتهاد؛ فكثيرون قد انغمسوا في بحر بيان “الآثار السيئة للاستبداد على مختلف مناحي الحياة”، أو في بحر بيان “مقاصد المستبدين من استبدادهم”، أو في بحر بيان “كيف يمارس المستبدون استبدادَهم ؟” (.. إلخ)، بينما قليلون – في حدود علمي واطلاعي- هم مَن خاضوا في بحر بيان “أسباب ومنابع الاستبداد وقابليتنا المجتمعية الفائقة والعجيبة له”.

وبعبارة أخرى، كثيرون قد انغمسوا في بحر بيان “بَاثُولُوجِيَّةِ الاستبداد وقابليتنا له”، وقليلٌ – في حدود علمنا واطلاعنا- مَن شَرَعَ في السباحة والغوص المعرفِيَّيْن في بحر بيان “إِتْيُولُوجِيَّةِ الاستبدادِ وقابليتنا له” [11]

وعليه نقول :

***

7- الحقُّ أنَّ هذه “المعضلة” عميقةٌ بعيدةُ الغورِ، وأظنها تُطل برأسها من عدة آفاق (تضافرت وتتضافر مع بعضها البعض لصُنْعِ هذه “المعضلة”)، من أهمها :

أولاً : الأفق السياسي/ أفق إدارة الشأن العام/ أفق إدارة شئون الأمر

ثانياً : أفق الحروب العسكرية

ثالثاً : الأفق الاجتماعي

رابعاً : أفق العلوم الإسلامية/ الدراسات الإسلامية/ الأفكار الإسلامية/ المجال التداولي الإسلامي

خامساً : الأفق النفسي

سادساً : الأفق التربوي والأسري والسلوكي والأخلاقي

سابعاً : أفق بِنية ونُظُم ومؤسسات وآليات وأدوات ووسائل الحُكم السياسية الحديثة والمعاصرة

ثامناً : الأفق الحركي/ أفق التنظيمات والجماعات الحديثة والمعاصرة

تاسعاً : أفق الإعلام

عاشراً : الأفق اللغوي

حادي عشر : الأفق التنموي المَعِيشي والتعليمي والمعرفي الثقافي

ثاني عشر : أفق الغزو والاحتلال الأجنبي لبلاد العرب والمسلمين

ثالث عشر : أفق التحديات والمتغيرات والتدخلات والمخططات والأطماع والمصالح الخارجية

وتفصيلاً لهذا الإجمال نقول :

* (أولاً) : “الأفق السياسي/ أفق إدارة الشأن العام/ أفق إدارة شئون الأمر” :

أ- منذ عهد الراشدين الأربعة؛ حيث لم يتم بلورة/ مأسسة كيفية إدارة الشأن العام عامةً (وما يَخْتَصُّ منه بما أصبح يُعرَف في عصرنا هذا بجهتي “التشريع” و”التنفيذ” خاصةً)، وإنما أتى الأمرُ في بدايته على سبيل “الفلتة التي وقى الله شرها” أو ما شابه وقارَبَ.

وبعبارة أخرى : نحن لدينا مشكلة تاريخية، وشِبْه أزلية، مع مسألة “كيفية إدارة الشأن العام” عامةً (وما يَخْتَصُّ منه بما أصبح يُعرَف في عصرنا هذا بجهتي “التشريع” و”التنفيذ” خاصةً)؛ حيث الفقر المُدْقِع في الإبداع والاجتهاد والتجديد بهذا الخصوص، نظرياً وعملياً.

ب- ومنذ تم “التماهي الفقهي” مع هذه “الفلتات” (وما قاربها) باعتبارها غايةَ المرادِ من رب العباد؛ أي باعتبارها “الأفق الأعلى” الذي “لا يمكن تجاوزه”، والذي “يجب أن ندور في فلكه”، بسَمْته وحرفياته، دون روحه ومقاصده .. وفي هذا اغتيالٌ للإبداع، وكلُّ اغتيالٍ للإبداع هو إحياءٌ واستدعاءٌ للاستبداد بوجهٍ من الوجوه.

ج- ومنذ بدأ، بالتدريج، شرعنة/ فَقْهَنة التغلب.

د- ومنذ بدأ، بالتدريج، شرعنة/ فَقْهَنة توريث السلطة/ الحُكم/ الكرسي.

هـ- ومنذ بدأت، بالتدريج، سيادة “الروح البطركية التسلطية” [12] في العلاقة بين “الأمة” و”مَن تختاره وترضاه منها وتوكله لإدارة بعض شئونها” :

بحيث تحولت – بالتدريج- إلى علاقة بين “حاكم” و”محكوم” .. بين “آمِرٍ” و”مأمورٍ” .. بين “سلطان” و”سَلْطَنَته” .. بين “مَلِكٍ” و”مُلْكِه” .. إلخ

وبحيث تحول – بالتدريج- نموذجُ “أولو الأمر/ الجماعية” إلى نموذج “ولي الأمر/ الاستفراد” .. ونموذجُ “أولو الأمر منا” إلى نموذج “مَن تَوَلَّى الأمرَ علينا” .. ونموذجُ “مُوَزِّع الماء بيننا” إلى نموذج “المتحكم في الماء دوننا” .. ونموذجُ “الحاجز بين رقابنا” إلى نموذج “المتحكم في رقابنا” .. ونموذجُ “الحاكم بين الناس” إلى نموذج “المتحكم في الناس والحاكم على الناس” .. إلخ.

و- ومنذ بدأت سيطرة “العسكر” (بعد استقواء أصناف من الحُكام/ الملوك/ السلاطين بهم على خصومهم) على مفاصل كبريات دول المسلمين في كثير من فترات التاريخ [13] و[14] ، بما يحملون :

مِن “لسان” حرصوا على أن يستمر “غريباً” عن “العروبة الحضارية” المنبثقة عن “لسان القرآن”.

ومِن “فكرٍ غريبٍ” عن القرآن ومقاصده.

ومن “عقلٍ أحادي بدائي أجدب” و”منطقٍ عسكروتي صدامي تسلطي شمولي” [15] (حَلَّت بسببه “العضلات” محل “العقول”).

ز- ومنذ بدأ شيوع وسيطرة “سرديات/ نظريات/ أفكار المؤامرات الكونية” في التحليل والمقاربة والتناول للأفق السياسي (واقعه ووقائعه وعلاقاته .. إلخ) [16] .

ح- ومند بدأ شيوعُ “منطقَيْ التخندق والشِّقاق السياسي” بين مختلف التيارات الحزبية والفكرية العاملة في الساحة السياسية في عصرنا هذا (وهو سببٌ ونتيجةٌ – معاً- لكل ما سبق وما سيأتي ذِكره على امتداد هذه الدراسة).

وهذا كله أسهم ويساهم – ضمن ما أسهم ويساهم- في خَلْق “روح الاستبداد” و”قابليتنا له”، وفي تجذيرهما، وفي استمرارهما والنَّفْخ في كِيرِهما.

* (وثانياً) : “أفق الحروب العسكرية” :

عندما أصبح “التوسعُ في الاستيلاء على أراضٍ جديدة وفي ضم ممالك وبلدان جديدة” لِمُلك السطان/ الملك/ الحاكم قائماً على جُثةِ العدل والأخلاق وقيم الإسلام في السلوك عامةً، وفي معاملة غير المسلمين خاصةً.

وبعبارة أخرى : عندما سيطرت “الروح العسكرية التوسعية الإمبراطورية” التي تميل بأصحابها إلى شن حروب لا تنقطع؛ حيث حينها تنفتح شهية القائمين بهذا التوسع الإمبراطوري لكل ما يزيد في سلطانهم وهيلمانهم وغنائمهم.

وهذا كله أسهم – ضمن ما أسهم- في خَلْق “روح الاستبداد” و”قابليتنا له”، وفي نشرهما وترسخهما، وفي استمرارهما والنَّفْخ في كِيرِهما.

* (وثالثاً) : “الأفق الاجتماعي” :

أ- منذ بداية الاتساع السريع لرقعة دولة المسلمين؛ اتساعاً صار عبئاً : على السلوك/ الأخلاق، وعلى التربية/ التنشئة/ التقويم، وعلى الفقه/ التدبر/ الوعي؛ حيث كل “توسع جغرافي سريع” من هذا القبيل يقابله خَصْمٌ من فرصة “تغلغل القيم والأخلاقيات الإسلامية” في النسيج البشري لهذه الجغرافيا.

ب- ومنذ تمت – بالتدريج- شرعنة/ فقهنة “التوسع الأسود” في ميدان “الرق والرقيق والإماء”، وشرعنة/ فقهنة سيادة “الروح البَطْركية التسلطية” بين “السادة” و”العبيد” .. إلخ.

ج- ومنذ بدأ يَضْعُفُ وعيُنا – النظري والعملي- بـ “سُنن الاجتماع البشري”، سواء في التقدم والتخلف, أو في النهوض والانحطاط, أو في الإبداع والجمود، أو في الانتصارات والهزائم, أو في التدافع بين الدعوات والأمم والحضارات، أو في الإصلاح والتغيير .. إلخ.

وهذا كله ساعد – ضمن ما ساعد- على التطبيع مع الاستبداد والقابلية له (أي جعلهما أمراً طبيعياً مُتَقَبلاً)، وعلى نشر روحهما وترسخهما، وعلى استمرار اتقاد جذوتهما.

* (ورابعاً) : “أفق العلوم الإسلامية/ الدراسات الإسلامية/ الأفكار الإسلامية/ المجال التداولي الإسلامي” :

وذلك منذ بدأ – بالتدريج- التأسيس والاستبطان (في كثير من جنبات “عقل المسلمين التراثي التقليدي”، وعلى امتداد كثير من فتراته، ولو مِن طرف خفي) لـ :

أ- طغيانِ “الهوامش” على “النص الإلهي المُؤَسِّس”؛ أي طغيان “ما دُوِّنَ من كتب المرويات والسيرة النبوية الشريفة” و”ما دُوِّنَ من كتب التفسير والكلام والفقه والتصوف” على مركزية ومصدرية وإشعاعية “الكتاب الإلهي/ القرآن الكريم”، إلى درجةٍ أصبح معها – بلغة البيولوجيا، وبلسان الحال أكثر من لسان المقال- هذا الكتابُ هو “المُتَنَحِّي”، وغيره هو “السائد” [17] .

ب- وفكرةِ “الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة” (فـ “بفهم سلف الأمة” هذا : قيدٌ أسطوري وجاهلي، معرفياً)، وكأن متأخري المسلمين هم مجموعات من الرعاع أو السِّفْلة أو السُّوقة أو المعاقين ذهنياً ! وكأنه سبحانه قد اختص الأولين بالعقل والرشد والحكمة والتقوى والمعرفة والعلم، وسلب ذلك من المتأخرين ! وكأنَّ الكتاب العزيز قد استنفدَ أغراضَه ومَكنونَه وتمت الإحاطة به عن يمين وشِمالٍ؛ إلى درجةِ أنه قد أضحى لا يمكن – و/ أو لا يَصْلُح- أن يُستخرج منه شيءٌ آخَر بعد ما استُخْرِج !

ج- وفكرةِ “تحريم تفسير/ مقاربة/ تدبر/ فقه القرآن بالرأي/ بالاجتهاد” ( = فكرة تحريم التفسير إلا بالمأثور)، والتي تعني – عملياً وفعلياً- تحريم “الاقتراب” من كتاب الله، إلا أن تقتربَ بقولِ بَشَرٍ سابقٍ، ما قاله هو إلا برأيه/ باجتهاده أصلاً !

د- وفكرةِ “الفرقة الناجية”، والتي مُؤَدَّاها : أنه سبحانه لم يَهْدِ أحداً سواهم، وأنهم – وحدهم ودون سواهم- مَن حاز “الطبعة الأصلية الشرعية النقيةَ المثالية” من الدين، وأنَّ نمط تدينهم – الذي هم عليه- هو الدين بحذافيره .. إنها “طبعة المسلمين التراثية” من فكرة “شعب الله المختار”؛ حيث الفكرة الأخيرة تعني “مجموعةً مختارةً فوق العالمين”، بينما الأولى تعني “مجموعةً هي صاحبة ومالكة وممثلة التدين الحق دوناً عن العالمين” [18] و[19] .

هـ- وفكرةِ “تحريم الاجتهاد في علم الكلام”؛ وهي – في مُؤَدَّاها ومَفَادها ومآلها الواقعي العملي الفعلي- تحريمٌ للخروج عن النمط الكلامي السائد في بيئة المرء، والذي نشأ عليه دون اختيارٍ منه ! .. مع حصرٍ فعلي للميدان الكلامي برمته في بضعة أنماط كلامية مذهبية لا يجوز، ولا يمكن، تجاوزها؛ وكأنَّ الإسلام/ الدين/ النص الإلهي قد أصيب بعاهة مستديمة ! [20]

و- وفكرةِ “تحريم الخروج عن المذاهب الأربعة”؛ أي تحريم الإتيان بأي اجتهادٍ جديدٍ خارجٍ عن هذا “القفص الحديدي”؛ وكأن الإسلام/ الدين/ النص الإلهي قد أصيب بالعُقم !

ز- وفكرةِ “الإجماع” التي تضخمت مع الوقت مثلما تتضخم كرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل الجليدي، مكتسحةً في طريقها ومُزِيلةً ومُدَمرةً لكلِّ مختلفٍ ومخالِف ! .. إنها “طبعة المسلمين التراثية” من فكرة “المجامع المَسْكُونية”؛ حيث الفكرة الأخيرة مؤتمرات – وذات سلطة- “حقيقية مادية” في الواقع، بينما الأولى مؤتمرات – وذات سلطة- “مجازية رمزية” عبر الورق/ الكتب، وبهما – جميعاً- يتم التحكم – مادياً أو رمزياً- في مجال الفكر الديني [21] و[22] .

ح- والتخندقِ والشقاق المذهبي (الكلامي والفقهي والصوفي .. إلخ) الناتج عن “التماهي” بين “الدين” و”المذهب/ التدين”.

ط- و”الاستلابِ” الطُّرُقي التغييبي الناعم وشديد السُّمِّيَّة (حيث المريد بين يدي شيخه الطُّرُقي كالميت بين يدي الغاسل) .. و”التراتبيةِ” المشيخية الصوفية الطرقية “شِبْه الكهنوتية” (المريد، السالك، المجذوب، الخليفة، شيخ الطريقة، الولي، العارف بالله، العالِم بالله، النقيب/ النقباء، النجيب/ النجباء، البَدَل/ الأبدال، الوتد/ الأوتاد، الإمام/ الأئمة، القطب، قطب الأقطاب، الغوث، القطب الغوث/ الفرد الجامع .. إلخ، على اختلاف بينهم : في معاني بعض هذه المراتب، وفي ترادف بعضها، وفي ترتيب بعضها فوق بعض).

ي- وتهميشِ قيم “الحوار” و”التواصل والتبادل والتلاقح المعرفي” و”النقد” (وهو نتاجٌ للنقاط التسعة سابقة الذكر).

ك- وعلاقةٍ بين الله والإنسان قائمةٍ على تصور نفسي كامن أساسه “الرهبة” (فهي بين “مرهوبٍ” و”راهبٍ”) و”الخوف” (فهي بين “مُخِيفٍ” و”خائف”) و”الرعب” (فهي بين “مُرعِبٍ” و”مرعوبٍ”)، بدلاً من أن يكون أساسه “المحبة” (فتكون بين “حبيبٍ” و”حبيب”؛ بين “محبوبٍ” و”مُحِب”، وأيضاً بين “مُحِبٍّ” و”محبوب”) و”الرغبة” (فتكون بين “مرغوبٍ” و”راغب”) و”الاستخلاف” (فتكون بين “مُستخلِفٍ” و”مستخلَف”) و”الإكرام والكرامة” (فتكون بين “مُكْرِمٍ” و”مُكْرَم”، بين “مُتَكَرِّمٍ” و”مُكَرَّم”).

ل- وعلاقةٍ مع العالَم قائمةٍ على تصور نفسي كامن تجاهه أساسه أنه “عالَمٌ مُدَنَّس مُستَرْذَلٌ مُستَقْبَحٌ قَذِرٌ” لا مكان فيه للطُّهر ولا للطهارة ولا للأطهار، بدلاً من أن يكون هو “ميدان الاستخلاف” و”مجاله الحيوي” و”محله”.

م- وعلاقةٍ مع الشريعة قائمةٍ على تصور نفسي كامن أساسه “العقوبة والعقاب والمعاقبة”، بدلاً من أن يكون “الهداية والتنوير والإرشاد والرأفة والرحمة والرفق والتيسير وتحفيز التفكر”.

ن- وعلاقةٍ مع “المعرفة” قائمةٍ على تصور نفسي كامن أساسه الحط من قيمة “العلوم الإنسانية والعلوم الكونية التجريبية” لصالح ما أصبح يُعرَف حصراً بـ “العلوم الدينية” (بحيث أصبحت العلوم الثانية “أشرف” من العلوم الأولى، وبحيث أصبح يُصَنَّفُ المشتَغِلُ بالثانية على أساس كونه “أكثر قرباً من الله تعالى بسبب هذا الاشتغال”)، وكأنَّ المقاربة المعرفية لـ “كَوْنِ رب العالمين وفِعله وخَلْقه ومخلوقاته” منفصلةٌ عن، و/ أو أدنى درجةً مِن، المقاربة المعرفية لـ “نَصِّ رب العالمين وإرشاداته وتوجيهاته وهديه”؛ بينما الحالُ :

أنَّ الأولَ هو “محل ومجال وبؤرة الاستخلاف”، وأن الثاني هو “رسالة المُسْتَخْلِف للمُستَخْلَف المتعلقة بمحل الاستخلاف”.

وأن صاحب الثاني قد أمر وأرشد ووجه وهَدَى – ضمن ما أمر وأرشد- إلى الأول.

وأن الأول (الكون وما فيه ومَن فيه) هو أحد “تجليات وإبداعات وآيات” الرب مثلما هو حالُ الثاني (النص الإلهي) سواءً بسواءٍ؛ وعليه فإنَّ الاشتغالَ بأيهما – ابتغاءَ وجهِ الله ومنفعةِ الناس؛ أيْ ابتغاءَ التقربِ بذلك إليه سبحانه- هو اشتغالٌ بأحد “منتجات وتجليات وإبداعات وآيات” الرب؛ أي هو اشتغالٌ بالله وبكل ما يُقَرِّبُ إليه ويساهم في ذلك.

وأن الأولَ اشتغالٌ ومقاربةٌ لآيات الله في الأنفس والآفاق/ في الكون والكتاب المنظور، وأن الثاني اشتغالٌ ومقاربةٌ لآيات الله في الوحي المُنَزّل/ في الكون والكتاب المسطور.

س- وإقامةِ معاركَ طاحنةٍ مُهلِكةٍ مُجْدِبَةٍ حول “التراث” (مع اختلاف “العناوين” و”الأشكال” التي تتمظهر فيها هذه المعارك قديماً وحديثاً)، في غفلةٍ عجيبةٍ وعميقةٍ ومُعيقةٍ عن مقاربة مشكلاتنا وهمومنا وأسئلتنا واحتياجاتنا نحن، هنا والآن، المعرفية والفلسفية والفكرية والروحية والنفسية والاجتماعية والسلوكية والسياسية (.. إلخ) [23] .. مع إهمالٍ فظيعٍ لـ ، وازْوِرَارٍ شنيعٍ عن، مقاربةِ الوحي الإلهي وتطبيقه النبوي، والجلوسِ الحي في رحابهما، والتفاعلِ المباشر والجدي والمسئول معهما.

وهذه كلها من “كاسحات الثلوج” في وَجهِ الاستبداد وقابليتنا له؛ بحيث تؤسس لهما تأسيساً، و/ أو تُرَسخ لهما ترسيخاً، و/ أو تمهد لهما تمهيداً، و/ أو تُهيِّئ لهما تهييئاً، و/ أو تسهل لهما تسهيلاً، و/ أو تزودهما بكثير من الوقود الحيوي تزويداً، على مختلف الصُّعُد المعرفية والعلمية والعقلية والدينية والحياتية الاجتماعية (.. إلخ).

وبعبارة أخرى :

– كانت هذه الأمورُ كلُّها في ذاتها : استبداداً محضاً مُؤَصَّلاً.

– وأَنْتَجَت هي أيضاً – بالتدريج- تطبيعاً كاملاً – في عقولنا ونفوسنا إدراكنا وممارساتنا- مع الاستبداد، ومع ممارسته، ومع ممارساته.

– وآلَتْ هي أيضاً – بالتدريج- إلى ذلك، سواء بأعيانها أو بتجلياتها وثمراتها.

وبعبارة ثالثة :

هذا كله أسهم ويساهم – ضمن ما أسهم ويساهم- في خَلْق وتأصيل وتجذير “روح الاستبداد” و”قابليتنا له”، وفي تديينهما، وفي تغلغلهما في النسيج الضام اللاحِم المُكَوِّن للَبِنَاتِ المعرفية والعقلية والنفسية للمجتمع، وفي توسيع نطاقهما، وفي ترسيخهما، وفي استمرارهما، أفقياً ورأسياً، في المكان والزمان.

* (وخامساً) : “الأفق النفسي” :

أ- منذ بدأ اصطِباغُ قطاعات منا بـ “الروح العنصرية”، والتي وصلت إلى حد إيجاد ضروب من “التفرقة الأسمنتية” بينهم وبين بني البشر (مسلمين كانوا أو غير مسلمين) في شتى المناحي (الدينية والمعرفية والحضارية والأُخْرَوية .. إلخ)؛ بحيث جَعَلَت هذه القطاعاتُ لنفسها “المكانةَ العليا” (وكأنما هي “ثابتٌ كوني” لها، و”جزءٌ لا يتجزأ” من تكوينها وكينونتها وصيرورتها)، ولغيرها “المكانة الدنيا” (وكأنما هي “ثابتٌ كوني” في غيرهم، و”جزءٌ لا يتجزأ” مِن تكوينهم وكينونتهم وصيرورتهم).

ب- ومنذ الانتشار المعاصر لـ “منطق ونفسية وذهنية التناحر والاجتثاث” بين مختلف الأطياف السياسية والفكرية في المجتمع الواحد (وهو سببٌ ونتيجةٌ – معاً- لكثيرٍ مما سبق وما سيأتي ذكره).

وهذا كله يساهم – ضمن ما يساهم- في خَلْق “روح الاستبداد” و”قابليتنا له”، وفي استمرارهما والنَّفْخ في كِيرِهما.

* (وسادساً) : “الأفق التربوي والأسري والسلوكي والأخلاقي” :

أ- عندما سادت “الروح البَطْركية التسلطية الوصائية” في العلاقة بين “الزوج وزوجته”، وفي علاقة “الوالدَيْن بأولادهم”، وفي علاقة “الأخ الأكبر بإخوته الأصغر”، وفي علاقة “الأخ الذكر بأخته الأنثى”، وفي علاقة “المعلم بطلبة العلم”، وفي علاقة “الداعية بالمدعُوِّين” .. إلخ.

ب- وعندما شاعت “النظرة الدونية والمُحْتَقِرة” للمرأة في العقل الجمعي للمسلمين .. وماذا يُنتظر مِن مجتمع يَنظُرُ إلى أحد نِصفَيْه هذه النظرة الرَّدِيَّة ؟! .. وماذا يُنتَظَرٌ – كذلك- مِن كائنٍ مُحتَقَرٍ إلا أنْ يُخْرِجَ لنا أطفالاً مُشَوَّهين ذهنياً ونفسياً وعقلياً ومعرفياً وإدراكياً وسلوكياً !

ج- وعندما شاعَ أمرُ “قَبْضِ” النَّفْس واليد عن البذل والعطاء، على اختلاف أَوْجُه وميادين البذل والعطاء، معنوياً ومادياً (وهو سببٌ ونتيجةٌ – معاً- لكثيرٍ مما سبق وما سيأتي ذكره من آفاقٍ عامةً، والنقطتان الآتيتان خاصةً).

د- وعندما بدأ فهمُنا للأخلاق التي دَعَا إليها دينُنا يتشوه [24] ؛ بحيث – مثلاً- أصبح الصلاحُ والفضيلةُ والرقيُّ قاصراً على “مجرد اجتناب المحرمات”، وكأنَّ ما وراءَ ذلك كله لا يساوي شيئاً؛ في حين أنَّ “اجتنابَ المحرمات” هو “أخلاقٌ وصلاحٌ من جانبِ السلب”، فأين الأخلاقُ والصلاح من جانبِ الإيجاب ؟!

لقد أصبح لقبُ ومفهومُ “المرء الصالح” قاصراً – في أذهاننا وتصوراتنا ولاوعينا معاً- على : مَن لا يزني ولا يسرق ولا يشرب الخمر ولا يقامر، أو على مَن نرى السُّبْحَةَ لا تفارق يديه، وورقات المصحف لا تفارق أصابعه (.. إلخ).

بينما مَن تقوم حَرَكته في الحياة على الجِد والنظام واليقظة والتعاون والسماحة (.. إلخ) [25] أصبح مُسْتَبْعَداً – في أذهاننا وتصوراتنا ولاوعينا معاً- من أن يندرج تحت لقب ومفهوم “الرجل الصالح”، بينما هو أَوْلَى وأجدر الناس به؛ لأنَّ إيمانه القلبي قد أثمر وأينع وظَلَّلَ حركته في الحياة [26] !

لقد تشوهت مفاهيمُنا عن دين الله وهديه وإرشاده ونوره، بحيث – مثلاً- أصبح المنهي عنه (وهو في حقيقته مجردُ مُتممٍ وخادمٍ لجانب المأمور به) هو غايةُ مرادِ الله من عباده، وأنه بمجرد “الامتناعِ” عنه، وشيوعِ ذلك، نكون قد “أقمنا” – بحقٍّ- دينَ الله وهديَه، وستأتينا النهضةُ جاثيةً على الرُّكَب !

وبهذا الفهم المُشَوِّه : تَرْجُحُ كفة جانب “السلب”، وتَطِيشُ كفة جانب “الإيجاب”؛ وبهذا نَدخُلُ جُحْرَ “أضعفِ الإيمان”؛ وأنْ تعيشَ على “أضعف الإيمان” يعني ويُثمِرُ ويَؤُول معاً إلى أن تعيشَ بوصفك “أضعف الأمم”؛ وهذا هو ما نحنُ فيه !

هـ- وعندما تغافلنا عن أنَّ كثيراً من أنماط حركتنا في الحياة إنما يتركب من رُكنين/ عنصرين أو أكثر، وأن على أساس “حُسن” أو “سوء” هذا التركيب تتحدد درجة رقينا وتَزَكِّينا الأخلاقي، ومن ثم فاعليتنا العمرانية والإعمارية، وبالمثال يتضح المقال [27] :

فتقوى + إيجابية = فاعلية عمرانية وتغيير للمنكر.

وتقوى + سلبية = قعود عمراني وصمت على المنكر.

وورع + تحرر فكري = اجتهاد محكم.

وورع + تقديس للسلف = تقليد وجمود.

وإخلاصٌ لله + سماحة = تعاون.

وإخلاصٌ لله + تعصب جاهلي = تنافر وتباغض.

ومحبة + يقظة = تعاون.

ومحبة + بلادة = مجرد عاطفة.

و- وعندما تغافلنا عن أن الأمم إنما تنهض وتقوم وتتقدم وتتزكى وتقوى، في حركتها في الحياة، بـ “غَلَبةِ تأثيرِ مجموعةٍ معينةٍ من القيم والأخلاق” (مثل : الثقة بالنفس، الطموح، الجد، الإتقان، النظام، اليقظة، البسالة .. إلخ)؛ بحيث إذا بَرَزَت هذه المجموعة المعينة من القيم وسادت : امتد دورُها حتى إلى التخفيف من ظهور آثار بعض الانحرافات القيمية والأخلاقية الأخرى الموجودة أو الحادثة (مثل : الزنا والخمر والقمار .. إلخ)؛ لأنه لا يُضيرُ حَرَكَةَ الأممِ في الحياة وجودُ “بعض أخلاق الباطل والشر” مع وجودِ وبروزِ وغَلَبةِ وسيادةِ “أخلاقِ الخير الإعمارية القوية” .. نعم، مُضِيُّ الزمن (بما يحمل في أحشائه من تقلبات وتغيرات وعوامل شتى، مثل : الحروب، أو انتشار الترف، أو انتشار الفقر المُدقِع، أو الفراغ الروحي .. إلخ) قد يُوقِعُ في “جُبِّ الإسراف في أخلاق الباطل والشر وطُغيانها”، وعندها تتحطم “أخلاقُ الخير الإعمارية القوية” أو يَضعُفُ ويَتَضَعْضَع تأثيرُها وأَلَقُها ونفاذيتها، وبالتالي يَؤُول أمرُ هذه الأمم إلى التقهقر والانحلال [28] .

وهذا كله يساهم – ضمن ما يساهم- في خَلْق وتأصيل وتجذير “روح الاستبداد” و”قابليتنا له”، وفي تغلغلهما في النسيج الضام اللاحِم المُكَوِّن للَبِنَاتِ المجتمع، وفي توسيع نطاقهما، وفي استمرارهما، أفقياً ورأسياً، في المكان والزمان.

* (وسابعاً) : “أفق بِنية ونُظُم ومؤسسات وآليات وأدوات ووسائل الحُكم السياسية الحديثة والمعاصرة” :

إذ منذ نشأة/ تدشين مشروع “التحديث/ التطوير/ البناء من خلال السلطة” (أي منذ مشروع محمد علي ودولته المتوغلة وتحديثه/ تطويره/ بنائه القَسْري) [29] و[30] :

أ- بدأت – بالتدريج- الشرعنة “الحضارية” و”الفقهية” (أي “الحَضْرَنَة” و”الفَقْهَنَة”) لتغول وتوغل الدولة على حساب أنفاس المجتمع/ الجماعة/ الأمة/ الشعب/ الجماهير.

ب- وتم – بالتدريج، ولكنْ بحسم- تنحية مختلف الهياكل المجتمعية والاجتماعية القائمة، و/ أو ضربها.

ج- وبدأ – بالتدريج- إنشاء هياكل أخرى بديلة عنها، ولكنها كانت :

“سلطويةً” في بِنيتها (تُفرَضُ – مِن أعلى- بالسوط والعصا، ويُساق إليها – قهراً- المجتمع/ الجماعة/ الأمة/ الشعب/ الجماهير).

و”مُهَيْمِنَةً” في مقاصدها و/ أو مساراتها و/ أو مآلاتها.

د- وبدأ – بالتدريج- “التحكم الكامل والشامل والمطلق للسلطة في العملية التعليمية” [31] (والذي كان من مقاصده وثمراته – معاً- النقطةُ “هـ” التالية مباشرةً)، فتوقف بذلك انبثاقُ العلمِ عن الأمة، وبدأ انبثاقُهُ عن السلطة، مما جعله لا يدور إلا في فلك تصوراتها وإرادتها وخِدْمَتِها؛ أليس قد دخل “جُحرَ” السلطة ووقع في “جُبِّها” ؟!

هـ- وبدأ – بالتدريج- إنشاء وتكوين “نخبة سُلطوية” (قوامها الأساسي من “العسكر الضباط” أولاً وثانياً، ومن “الموظفين التكنوقراطيين” ثالثاً) [32] و[33] ، تُصنع على عين “المتحكمين في السلطة والمُسَيْطرين عليها”، وبرعايتهم المباشرة، وتحت إشرافهم المباشر (عبر المدارس والجامعات والمناهج والآليات التعليمية والإعلامية “الرسمية”؛ حيث كلها – شكلاً ومضموناً- إنما تقرره وتفرضه السلطة الحاكمة القائمة، ويتغير بتغيرها)؛ ليتم استخدامها – دون غيرها أو قَبْل غيرها- :

في “تنفيذ مخططات ومشروعات ورؤى وأهداف” هؤلاء المتحكمين المسيطِرِين.

وفي التحكم في مختلف المفاصل الهامة للدولة (بتعيينهم في مختلف المناصب الرئيسية “الحساسة” و”الهامة” و”الحيوية” و”الخدمية”) [34] .

وبهذا كله، نصبح أمام أمرين :

أولهما : أمامَ تَكَوِّنِ طبقةٍ كاملة من “المُوَظفين/ مُوَظَّفي السلطة” [35] : “الإداري الموظف/ إداري السلطة”، و”العالِم الموظف/ عالِم السلطة”، و”المعلم الموظف/ معلم السلطة”، و”المثقف الموظف/ مثقف السلطة” و”التِّقَنِي الموظف/ تِقَنِي السلطة”، و”العسكري الموظف/ عسكري السلطة”، و”الطبيب الموظف/ طبيب السلطة” (.. إلخ).

والفئات العليا – في سُلِّم الوظيفة والثروة- من هذه الأنواع : هم من أهم مصاديق “الإقطاعيين الجدد” و”طبقة الحُكم الجديدة” اللذين ستأتي الإشارة إليهما في النقطة “ز” بعد قليل.

وثانيهما : أمامَ تَكَوُّنِ ما يمكن تسميته بـ “جيش السُّلطة” (وبالتدريج، ومع مرور الوقت، سننتقل من حالة “جيش السلطة” – منذ بداية عهد محمد علي باشا- إلى حالة “سُلطة الجيش” – منذ بداية عهد جمال عبد الناصر-).

و- وبدأ – بالتدريج- النزوع إلى ما يمكن تسميته بـ “محاولة ضبط الإسلام”؛ أي “التحكم فيه”؛ بإدخاله إلى “حظيرة الدولة/ السلطة/ النظام الحاكم” .. حيث بدأت نُظُمُ حُكمنا المعاصرة تسعى دوماً لكي تُقيمَ “جِسْماً رسمياً من علماء الدين” تُنِيطُ به “احتكارَ الشئون الدينية” .. وبهذا يتم “تأميم” الإسلام :

من خلال “تحويل علمائه إلى موظفين”.

ومن خلال “إنشاء” مؤسسات دينية مركزية تابعة لها و/ أو “دعمها” و/ أو “استتباعها” (المدارس والجامعات الدينية الرسمية).

ز- وبدأ – بالتدريج- تَكَوُّن ما يمكن تسميته بـ “الإقطاع الحديث” و”الإقطاعيين الجُدد”، إفرازاً مباشراً، وثمرةً مباشِرةً، من إفرازات وثمرات النقطة “هـ” سابقة سابقة الذكر [36] ؛ حيث وضع “مشروع محمد علي” يده – بعدة طرق ووسائل- على مساحات شاسعة من مختلف الأراضي المصرية، مما خَوَّلَ له حريةَ التصرف فيها؛ فأخّذّ يُقْطِعُ المُجِيدين من “النخبة السلطوية” سابقة الذكر (ومن غيرهم من “أفراد الأسرة المالكة” و”حاشيته” و”رجال حُكمه” و”الأعيان”) “أراضِيَ” و”عِزَباً” و”أَبْعَدِياتٍ” و”جَفَالِك” و”وَسَايا” و”مَمْسُوحات” – فضلاً عن الهِبات المالية- ؛ مكافأةً لهم على التميز في – و/ أو مِن أجل ضمان- الخدمة والولاء والطاعة والتبعية (.. إلخ).

وبنشأة وتوسع وتمدد شبكات وعلاقات ومصالح هذين – “النخبة السلطوية” و”الإقطاع الجديد”- : بدأ يتكون – بالتدريج- ما يمكن تسميته بـ “طبقة الحُكم الجديدة” المسيطرة على، وشِبْه المُحتَكِرة لـ ، مصادر السلطة والقوة والثروة والجاه في البلاد.

ح- وبدأ – بالتدريج- تَرَسُّخ منطق الاعتماد على الدولة/ السلطة/ القانون/ الفَرْض القانوني، في ضبط أو إصلاح أو الشروع في كل شيء وأي شيء يُرادُ ضبطه أو إصلاحه أو الشروع فيه .. حتى انغمسنا في حالةٍ من “القَنَنُوت” (نسبةً إلى “القانون”؛ ونظيراً لـ “الكهنوت”) سيطرت على مجريات تحركاتنا الطبيعية المعتادة في الحياة، إلى درجةٍ صار فيها “مبدأُ الفَرْضِ القانوني/ التقنينِ” المُنَظِّمِ – أو بالأحرى المُكَبِّل- لكل كبيرةٍ وصغيرةٍ ولكلِّ شاردةٍ وواردةٍ = كالماء والهواء !

فتَحَوَّلَ المجتمعُ/ الأمة/ الجماعة/ الشعب/ الجماهير (الذي انُتِزَعت منه وقُتلت فيه – جراء ذلك- فاعليته وحيويته وحريته) إلى موقف “الرضيع أو الرضيع المشلول أو الرضيع المُشَل” (الذي يصبح ويَضْحَى ويُمسِى منتظراً وملتمساً ومتلهفاً فقط على صدر أمه؛ ليَغْتَذِي بلَبَنِها الذي هو – في حالته تلك- الغذاء الوحيد الصالح النافع له، والذي يَصِلُه – دون غيره- بحَبْل البقاء والنمو)، ومنه إلى موقف “الرَّضِيخ أو الرضيخ المذلول أو الرضيخ المُذَل” (الذي يُساق بالعصا والسوط؛ كالماشية والأنعام، أو كالأسود في حَلَبة السيرك).

ط- وبدأ – بالتدريج- تَرَسُّخُ نمط “المركزية الطاغية” في إدارة شئون البلاد والعباد.

ك- وبدأ – بالتدريج- “تهميشُ الإنسان” (سواءٌ كان ذلك مقصداً قائماً بذاته، أو ثمرةً ومآلاً لكل ما سبق)، ما دام لا يدخل في سياق تحقيق طموحات “مشروع محمد علي” العسكرية والسياسية (فهو هنا “تهميشٌ بالتَّرْكِ والإهمالِ والإبعادِ والنبذ”)، بل إن “التهميش” كان يطال أيضاً كل مَن أُدْخِلَ في هذا السياق؛ وذلك عن طريق المعاملة “غير الإنسانية” التي كانت تحيط بالمرء عن يمينٍ وشِمالٍ (وهو هنا “تهميشٌ بالقَمْع والإذلال والإجبار”).

وهذا كله أسهم ويساهم – ضمن ما أسهم ويساهم- في خَلْق وتجذير “روح الاستبداد” و”قابليتنا له”، وفي توسيع نطاقهما، وفي تغلغلهما في الفضاء العام، وفي استمرارهما والنَّفْخ في كِيرِهما.

* (وثامناً) : “الأفق الحركي/ أفق التنظيمات والجماعات والحركات والأحزاب الحديثة والمعاصرة” [37] :

أ- حيث نَشْأَة ما يسمى بـ “الحركات/ التنظيمات/ الجماعات الإسلامية”؛ إذ قد تضخم في وعيها ومسالكها – بالتدريج ومع مرور الوقت- كل ما هو “سياسي سلطوي”، على حساب كل ما هو “تربوي/ تزكوي” و”توعوي/ معرفي” و”تنموي/ اجتماعي”، سواء كان ذلك بحُسن نية أو بغير.

ب- وقد كمن في وعي هاتيك الحركات، وسيطر عليها، واستبطَنَت، بالتدريج، حالة “القَنَنُوت” سباقة الذكر؛ حيث أصبحت الرؤى التغييرية والإصلاحية والتطويرية والتزكوية (.. إلخ) لهاتيك الحركات قائمةً – في لاوعيها/ لاشعورها- على حد الفرض القانوني/ القانون وسيفه؛ فهيمنت عليها، وعلى تصورات تعاطيها مع مختلف المشكلات والموضوعات، نزعةٌ ذِئبيةٌ شَرِسةٌ لفرض، كل شيء – يريدون فرضَه- بالقانون، ومنع كل شيء – يريدون منعه- بالقانون، وتعديل كل شيء – يريدون تعديله- بالقانون، وتطوير كل شيء – يريدون تطويره- بالقانون، وإشاعة كل شيء – يريدون إشاعته- بالقانون، وتحجيم كل شيء – يريدون تحجيمه- بالقانون .. فأصبح – في وعيهم وشعورهم أو لاوعيهم ولاشعورهم- القانونُ والسلطة والسلطان ومَسَالك الفرض السلطوية الضبطية العقابية ( = “آلية المقاربة القانونية”) : هي الأول والآخر، وهي الظاهر والباطن !

وبهذا، ولهذا، تم ويتم – شعورياً أو لاشعورياً- تنحية ووأد “آلية المقاربة الاجتماعية”؛ عبر “الحوار” والنقاش والجدل والإقناع” و”التفاعل والتواصل البيني” و”المجتمع الأهلي/ المدني” و”المبادرات الشعبية” و”وسائل الإعلام” و”التربية” و”التزكية” و”الدعوة” (.. إلخ).

وهذا، كما لا يخفى، يستبطن ويَؤُولُ معاً – في النظرة للمجتمع/ للأمة/ للشعب/ للجماهير- إلى موقفَيْ “الرضيع أو الرضيع المشلول أو الرضيع المُشَل” و”الرَّضِيخ أو الرضيخ المذلول أو الرضيخ المُذَل” سابقي الذكر كذلك.

ج- فضلاً عن جَو “الجيتو الإسلامي” (المعنوي و/ أو المادي، الفكري و/ أو السياسي، إلخ) الذي تَخْلِقه وتُخَلِّقُه هذه الحركات لنفسها – بالتدريج- [38] ، ثم تتقوقع فيه (كلياً أو جزئياً)؛ والذي من ثم :

تدور – فيه وبسببه- حولَ نفسِها؛ فتتضخم – تضخماً سَرَطانياً- “ذاتيتها”، ويتضخم – تضخماً سَرَطانياً- شعورُها بـ “الطُّهْرانية”.

وتخوض – بسببه- في معارك أيديولوجية/ صراعية/ طائفية جاهلية مُهلِكةٍ مُجدِبةٍ غير مُثمِرة ولا نافعةٍ.

وتنعزل – بسببه- (كلياً أو جزئياً) عن الواقع الفعلي والهموم الحقيقية والاحتياجات الملحة لمحيطها وبيئتها (أي تَفقد بسببه القدرةَ على “تَحَسُّسِ” محيطها وعلى “التواصل الإبداعي الفاعل الفعال العميق المتشابك” معه).

حتى تَخِرَّ – وكثيراً ما حدث ويحدث وسيحدث- مُنهَكَةً صريعةً (بِيَدِهَا و/ أو بِيَدِ عمرو).

وبَيِّنٌ أن هذا “الجيتو” مِن أكبر المحفزات على، والمُسَهلات لـ ، انتشار وترعرع الاستبداد، سواء في داخل هاتيك الحركات (نتيجةً للانغلاق وعدم تجدد الهواء)، أو في البيئات والمجتمعات المحيطة بها (نتيجةً لتكون عدد من “الجِيتُوهات” الجماعاتية الأخرى – إسلامية وغير إسلامية- [39] ، حيث يؤدي انتشار فكرة “الجيتوهات” المعنوية و/ أو المادية هذه إلى التفكيك – الناعم والتدريجي والمستمر- لأواصر وروابط المجتمع وشبكة علاقاته؛ ومن ثم سهولة “السيطرة” عليه مِن قِبَل مَن أراد واسْتَهْدَف).

د- فضلاً عن أنه قد بدأ، بالتدريج، وفي اللاوعي في كثير من الأحيان (بسبب التماهي/ الترادف النفسي بين “الدعوة” و”التنظيم”) :

غَلَبة مقصد “الحفاظ على هذه التنظيمات؛ كياناً ومصالح”،

على مقصد “تزكية الناس – داخلها وخارجها- ليكونوا دُعاةً حيويين” (مصطلح “التزكية” يشمل عندنا، دوماً، البُعدَيْن “الفردي – الشخصي” و”الجماعي – الاجتماعي”).

فتم الانزياح التدريجي :

عن مقصد “الدعوة لله، والتزكية للنفس الإنسانية، والتوعية والتنمية والخدمة العامة للمجتمع”،

إلى مقصد “الدعوة للتنظيمات، والتزكية للذات التنظيمية، والتنمية لقدرات التنظيم أو لِما يحقق مصالحه”؛

فأصبحت الأولوية – في كثير من الأحيان والممارسات والرؤى- هي للمقصد الثاني على المقصد الأول، ولو بحسن نية، ولو في اللاوعي.

وهذا كله، من أوله إلى آخره، يساهم – ضمن ما يساهم- في خَلْق وتجذير “روح الاستبداد” و”قابليتنا له”، وفي تديينهما، وفي استمرارهما والنَّفْخ في كِيرِهما.

* (وتاسعاً) : “أفق الإعلام” :

حيث “الانتشار التَوَحُّشي والتَفَحُّشي والتغلغلي” للأدوات/ الوسائل/ المنابر/ الوسائط الإعلامية الحديثة والمعاصرة، والمصاحَب بـ “سذاجة وسوء مقاربتنا” لهذا الانتشار، وبـ “رداءة تعاملنا” معه، بما به/ معه أصبح من السهل “إعادة صياغة العقول والتلاعب بها وتضليلها وغسلها مراتٍ ومرات”.

وهذا “المناخ المُسَمَّم” يساهم – ضمن ما يساهم- في خَلْق وتجذير “روح الاستبداد” و”قابليتنا له”، وفي توسيع نطاقهما، وفي تغلغلهما في الفضاء العام، وفي استمرارهما والنَّفْخ في كِيرِهما.

* (وعاشراً) : “الأفق اللغوي” :

أ- منذ بدأت قطاعاتٌ عريضةٌ من شعوبِنا ومجتمعاتِنا في “تبخيس” لِسانِها و”إهانته” و”احتقاره”، مادياً و/ أو رمزياً، بشكل مباشرٍ و/ أو غير مباشر، بوعي وقصد و/ أو بغير وعي أو قصد، فأصبحنا نرى عَجَباً عُجاباً :

مِن عدم الاهتمام بـ ، ولا الاحترام لـ ، المنظومة اللغوية وقواعدها، بحيث يتم تكسير عظامها على يد قطاعات لا تُحصَى ولا تُحصَر من المتحدثين بها.

ومن انتشار ما يمكن تسميته بـ “الكتابة المُخَنَّثَة”  في الفضاء الإلكتروني (مثل ما يسمى بـ “الفرانكو آراب”)

ومن انتشار ما يمكن تسميته بـ “التعبيرات العشوائية المُبتكرة” في فضاء فنوننا السماعية/ الأغنيات (مثل : “السَّحْ الدَّحْ إمبو”، “كاتش كَدْر فِل قالولوا”، “كَمَنَّنَّا” .. إلخ)؛ فهي – بذاتها- كلماتٌ بلا معنى؛ ودوالٌ بغير مدلولٍ؛ مما يعطينا مؤشراً على حالة “الفراغ المُطْبِق/ اللامعنى” و”العبثية المُخِيفة” التي نسبح في بحارها.

ومن انتشار ظاهرة “الربط العشوائي” بين ألفاظٍ ومصطلحاتٍ وتركيباتٍ لا صلةَ لمضامينها ومعانيها بالأغراض والمناسبات التي أصبحت تُستخدم وتُوَظَّف فيها (مثل : “نَفَّضْ له”، “اِحْلَقْ له”، “شَهْيَصُه” .. إلخ)؛ فهي – بذاتها- ظاهرةٌ تؤشر على حالة “العبثية المُخِيفة” التي نسبح في بحارها، وعلى أن “المنطقية” قد أضحت مَوؤُودَةً بيننا !

إلى غير ذلك من مظاهر “التلوث والتجريف اللغوِيَّيْن”.

وتبخيسُنا هذا للسانِنا : فيه “تبخيسٌ” مباشرٌ، صادرٌ منا نحن، لذاتِنا ولكيانِنا ولمنطقيتنا ولأذواقِنا، وفيه “طعنٌ” عميقٌ منا نحن في ذواتنا وفي كياننا وفي منطقيتنا وفي أذواقنا.

وكلُّ “تبخيسٍ” منا لأنفُسِنا – أو لِمَا يتعلق بها- ، وكلُّ “طعنٍ” منا لها – أو لِما يتعلق بها- ، وكلُّ ما يدفع نحو “اللامعنى والعبثية واللامنطقية” : هو خدمةٌ عظيمةٌ لروح الاستبداد ولقابليتنا له؛ بذراً وتأسيساً، ونشراً وتجذيراً.

ب- ومنذ بدأ إهمالُنا لأمرِ “الترجمة” من اللغات الحية (ونفيسِ نتاجِها) إلى لساننا العربي؛ فضَمُرَت “قُدراتنا وعضلاتنا وملكاتنا اللغوية والعقلية والفكرية” في مختلف المجالات عامةً (وفيما يتعلق بالعلوم الكونية التجريبية والعلوم الإنسانية والفلسفية خاصةً)؛ مما سبب ضعفاً شديداً في أمرِ تجديد “ماء لغتنا وعقولنا وأفكارنا” بـ “دَفَقات الآخَر ومائه”.

وكلُّ إهمالٍ لأمرِ الترجمةِ : يُصيبُنا بضمورٍ عظيمٍ في قدراتنا وعضلاتنا اللغوية والعقلية والفكرية، ويُضْعِف “الاحتكاك والتلاقح المعرفي” بيننا وبين سائر بني البشر، ويُضَيِّق آفاقَنا وعقولَنا ومَدَيات رؤانا، وبالتالي فهو خدمةٌ عظيمة لروح الاستبداد ولقابليتنا له، على مختلف الأصعدة والميادين التي تتجلى فيها هذه الروح.

ج- ومنذ بدأ شيوعُ وتَرَسُّخُ وَهْمِ عدمِ صلاحية/ عدمِ قدرة “العربية” لتكونَ – في عصرنا هذا- لغةً نَدْرُس بها ونُدَرِّس، في مجتمعاتنا، العلوم الكونية التجريبية التِّقَنية الحديثة.

وكلُّ إهمالٍ لهذا الأمرِ : هو – بوجهٍ من الوجوه- خدمةٌ عظيمةٌ لروح الاستبداد ولقابليتنا له؛ إذ لا توجد أمةٌ “ازدهرت” بلغة غيرِها قط (فهذه من “الحقائق التاريخة الصلبة”، ومن “القوانين/ السنن الكونية للنهوض”)، وكلُّ مناخٍ يُكَرِّسُ لـ “عدم الازدهار” هو خدمةٌ مباشِرةٌ أو غيرُ مباشرةٍ للاستبداد.

د- ومنذ بدأ شيوعُ أمرِ “التشويش المفاهيمي” و”التلاعبِ العظيم بمضامين المصطلحات”، في مختلف الميادين الدينية والفلسفية والمعرفية والفكرية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية (.. إلخ)؛ حيث هذه الأمور من أهم أدوات “التلبيس” و”التعمية” و”التضليل”.

وكلُّ “تلبيسٍ” و”تعميةٍ” و”تضليلٍ” : هو خدمةٌ عظيمةٌ لروح الاستبداد ولقابليتنا له.

* (وحادي عشر) : “الأفق التنموي المَعِيشي والتعليمي والمعرفي الثقافي” :

حيث الانتشار :

أ- للفقر المُدقع الذي يَطحَنُ ذَوِيهِ في دوامة اللهاث وراء أي مصدرٍ للرزق [40] .

ب- وللأمية التعليمية الأبجدية.

ج- وللأمية المعرفية الثقافية.

د- وللأجواء شِبه الطبقية وشِبْه العنصرية، وللتهميش والحرمان والمظالم، في مختلف ميادين الزرق والتعليم والثقافة (وهو الوَجْهُ الآخَر لعملة الانتشارات الثلاثة السابقة).

فهذا كله من أهم مُحَفِّزات وصانعات وناشرات ومُرَسِّخات ومُدِيمات الاستبداد وقابليتنا له.

* (وثاني عشر) : أفق “الغزو والاحتلال الأجنبي لبلاد العرب والمسلمين” :

أ- حيث نَخَر هذا الاحتلالُ في مختلف أوضاعنا وآفاقنا وبِنَانا/ بِنْياتِنا (جمع بِنية) اللغوية والتعليمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأقام و/ أو دَعَّم – في كثير منها- ما يَحفظ ويخدم الكثير من مصالحه، سواء أثناء وجوده أو بعد رحيله. و”الاستبدادُ” (بِنيةً ونُظُماً وأوضاعاً وأجواءً) هو بالتأكيد، و/ أو كل ما يؤدي ويَقود إليه، على رأس ما يستأهلُ هذه الإقامةَ و/ أو هذا الدعمَ. كما ازدادت – بذلك كله، وثمرةً له- “قابليتنا للاستبداد”.

ب- ومن أهم ثمرات هذا النَّخْرِ (والتي لهذا تستحق أن تُفْرَدَ بالذِّكْر) : قَبولُ شعوبِنا واستبطانُها – بالتدريج- لـ “التعريفات والصور والهويات والحدود والآفاق المُغلقة” التي ابتدعها واختلقها واصطنعها ورسمها ووضعها لهم الاحتلالُ (أو ساهم في “تَجْذِيرِها المُنحرِف”).

وعلى رأس ذلك كله – على سبيل المثال- : صناعة “مخيال حديدي رمزي ومادي”، تفتيتي تفكيكي تجزيئي تعضوي؛ يَضْرِب في مَقْتَلٍ، ويَمحُو، روحياً ومادياً، “الاتصالَ العضوي الرمزي والمادي” الذي كان قائماً – مدةَ 1200 عامٍ تقريباً- بين مختلف، وعلى امتداد، شعوب/ جماهير/ مجتمعات/ ديار العرب والمسلمين.

أي، صناعة فكرة ما يمكن تسميته بـ “الأقفاص الحديدية المُغلقة/ الكُتَل المُصطَنَعة/ الأقطار والدول والكيانات الهوياتية المُغلقة” (اعتماداً على “إقحام وتشغيل” روح مفهوم “المركزية العِرقية أو القومية” الغربي في “مجالنا التداولي الرمزي والمادي”) [41] ، فأصبحنا ننظُرُ إلى بعضِنا البعضِ كـ “أجانب”، وأصبحَ كلٌّ منا – على حِدَةٍ- ينظر إلى “كتلته المصطنعة” تلك (سواء في وعيه أو لاوعيه) :

باعتبارها قائمةً “بذاتها”.

وباعتبارها “ثابتاً كونياً”، وبأن لها “جوهراً أزلياً خاصاً” لا يشاركه فيها غيره بأي أوْجُه المشاركة.

وبأنه لا “علاقة” بينها وبين غيرها من تلك “الكيانات المُصطَنَعة” إلا باعتبارها “علاقات خارجية” بينها وبين “الأجانب”.

بما يستتبعه ذلك كله :

مِن شَرْعَنةٍ وتكريسٍ لـ “نظامِ الجنسيات المغلق” ولـ “الحدودِ السياسية القُطرية المغلقة” (.. إلخ) [42] ؛ مما يؤدي إلى “التضييق على إنسانِنا وإنسانيتنا”.

ومِن تغذيةٍ خبيثةٍ، وتوظيفٍ خبيثٍ، للهيب “القوميات” و”الطوائف” و”الأعراق” و”المذهبيات” (.. إلخ)؛ سواء تغذية أو توظيف ذلك في الصراع بين هاتيك “الأقفاص المغلقة/ الكتل المصطنعة” بعضها وبعض، أو في الصراع داخل كل “قفص/ كتلة” منها على حدة؛ لتظل شعوب/ مجتمعات تلك “الكتل المصطنعة” متشبثةً بهاتيك “الأقفاص الحديدية المغلقة”، أو واقعةً في شَرَك المزيد من تفتيتها وتفكيكها إلى “كانْتُونَات/ أقفاص/ كتل” أصغر.

ومِن ارتباط هاتيك “الكُتَل المصطنعة” بـ “مَن صَنَعها”؛ أي ارتباطها بـ “دولة الاحتلال” (حتى بعد جلاء “الاحتلال المادي”) وتوجهاتها ومصالحها وحاجاتها وعجلاتها السياسية والاقتصادية والفكرية واللغوية الرئيسية (.. إلخ).

و”الاستبدادُ” – بالتأكيد- ، داخلياً وخارجياً، هو أولُ المستفيدين من انحصار شعوبنا ومجتمعاتنا وآفاقنا وتصوراتنا في تلك “الجيتوهات الرمزية والمادية” التي رُسمت لنا رسماً وخُلقت لنا خلقاً وأُشرِبناها إشراباً وتَقَوْقَعنا فيها تَقَوقُعاً وانغمسنا فيها انغماساً.

كما ازدادت – بذلك كله، وثمرةً له- “قابليتنا للاستبداد”.

* (وثالث عشر) : أفق “التحديات والمتغيرات والتدخلات والمخططات والأطماع والمصالح الخارجية” :

حيث منها :

أ- ما هو امتدادٌ مباشرٌ للأفق الثاني عشر المذكور سابقاً.

ب- وما يساعد على، أو يَؤُولُ أمرُهُ إلى، ترسيخ أجواء الاستبداد الداخلي في بلادنا (حيث يستفيد الخارج من ذلك استفادات جمة).

ج- و/ أو يساهم في إحداث تلك الأجواء (لذات الأمور سابقة الذكر و/ أو لإجهاض أية محاولات تحررية من قبضة “الاستبداد/ الدكتاتورية/ التسلطية” الداخلية أو الخارجية).

د- و/ أو يخلقها خلقاً ويُنشئها إنشاءً (لذات الأمور السابقة كلها) [43] .

وذلك كله :

– يختلف باختلاف مَنَعَتِنا وأحوالنا الداخلية، ويتنوع بتنوعها.

– ويختلف باختلاف أغراض الآخرين ومقاصدهم وأطماعهم ومصالحهم.

– وينتشر ويتوغل بمقدار غَفِلَتِنا أو صحوتنا.

– ويترسخ ويتجذر بمقدار قابليتنا له من عدمها.

وبعبارة أخرى :

إن للتحديات والمتغيرات والتدخلات والمخططات والأطماع والمصالح الخارجية دوراً غيرَ منكورٍ في “حراسة” و/ أو “تنمية” و/ أو “استغلال واستثمار وتوظيف” أمراضنا الذاتية وعيوبنا الداخلية وتخلفنا الموروث.

وبعبارة ثالثة، قطاعات من الخارج :

– كثيراً ما تَصْنَع بعضاً من المشكلات والصراعات الداخلية بيننا (مستغلةً “قابِلِيَّتَنا للتشاكُس والتصارع البَيْني”) [44] ؛ لتخترقَنا من خلالها و/ أو تهيمن علينا.

– أو أنها – وهذا هو الأعم الأغلب- تحافظ عليها – إنْ وُجدت- وترعاها وتُنَمِّيها وتَنفُخُ فيها وتُضَخِّمها وتُصَعِّدها؛ لتظلَّ مفتوحةً للاختراق؛ أي لِتَظَلَّ ثُغراتٍ وفراغاتٍ لتَدَخُّلها ولتمددها ولنفوذها ولامتيازاتها؛ تَضمَن بها ومن خلالها حِفظَ مصالحها وتحقيقَ أغراضها.

ولهذا تجد هذه القطاعَات من الخارج – على سبيل المثال- (وهو سببٌ ونتيجةٌ – معاً- لكل ما سبق ذكره وبيانه على امتداد هذه الدراسة) :

إما صانعةً ومُقِيمةً لبعض الديكتاتوريات الاستبدادية المعاصرة في بعض بلادنا ومجتمعاتنا (مستغلةً قابلية هاتيك البلاد والمجتمعات لذلك).

وإما حارسةً وحاميةً ومؤيدةً وسَنَداً لها.

وهي – في الحالين، وحفظاً لمصالحها- تَسعَى دوماً – قَدْرَ طاقتها، وقَدْرَ ما تُمَكِّنُها الظروفُ- لاستبدالها عندما يصيبها الإفلاس.

وهي – كذلك- من أهم أسباب المظالم الاجتماعية التنموية الاقتصادية (أي المظالم المتعلقة بالرزق) التي تُرَكِّرُ الثروةَ بيد القلةِ وتَنشُرُ الفقرَ في محيط الكثرة؛ فأصحاب المصالح والمُخَطَّطَات الإمبريالية هم “المُستَنْزِفون الأُوَل” لثرواتنا (بشكل مباشر أو غير مباشر)، و”الناهبون الأكابر” لها، وما سُراقُنا ونَهَّابونا الداخليون – في أكثرهم- إلا شحاذون على أبوابهم (أو أبواب وكلائهم المباشرين)، يقتاتون على فُتاتِهم (أو فُتات وكلائهم المباشرين).

***

8- فإذا كان ذلك كله كذلك، اتضح منبع ومصدر “الاستبداد/ الدكتاتورية/ التسلطية” ونموذجها المعرفي المُؤَسِّس والكامن في “أحشاء” تاريخنا وعقولنا وأفكارنا ونفوسنا وذهنياتنا ومجتمعاتنا وممارساتنا وسلوكياتنا.

وإذا اتضح هذا كله، تَمَهَّدَ وتَعَبَّدَ الطريقُ :

– أمامَ ظهور اجتهادات ومقاربات عدة تختص ببيان العلاج النظري لهذه المعضلة (وليست دراستُنا هذه محلاً لبيان شيءٍ من هذه الاجتهادات والمقاربات، وإن لم تَخْلُ الدراسة من بعض إشارات تتعلق بها).

– ثم أمامَ الشروعِ في طرحها لـ “الحوار والتداول والصَّقْل المعرفي”.

– ثم أمامَ الشروعِ – بعد مرحلة المداولة والصقل هذه- في لفت انتباه الناس/ الجماهير إليها؛ لتزدادَ تعمقاً ورُشداً وواقعيةً وفاعليةً بتفاعلهم معها وملاحظاتهم بخصوصها، فتحوزَ أو يَحُوزَ بعضُها أو يَحُوزَ مُرَكَّبٌ منها ثِقَتهم واقتناعهم.

– مع العمل التخطيطي الراشد المتدرج الدؤوب – في ذات الوقت- لتحويلها (بالناس ومع الناس وإلى الناس) إلى “نُظُم” و”برامج” و”مشاريع” على الأرض؛ تتخلل وتغلغل برفقٍ في حياة الناس وواقعهم، على مختلف الصُّعُد؛ حتى يلمسَ الناسُ بعضَ طَيِّب آثارها بأيديهم، ما ييسر المزيدَ من تفاعلهم معها وتقبلهم لها وترشيدهم لإياها؛ مستهدفين بذلك كله، ومن خلاله، لا “التسلطَ الخفيَّ المُتَدَسِّسَ” على الناس، وإنما “تزكيةَ حياتِنَا جميعاً”، معنوياً ومادياً، جوانياً وبرانياً، باطناً وظاهراً، قَدْرَ طاقاتنا وإمكانياتنا.

وعلى الله قصدُ السبيل

وهو سبحانه أعلى وأعلم


[1] يحيى رضا جاد طبيب بشري وباحث وكاتب مصري مستقل فكرياً وسياسياً

[2] ما أحوجنا جميعاً، في عصرنا هذا، للمضي قُدُماً في سبيل “الاجتهاد والإبداع المعرفي الفلسفي” (والفقهي) المنطلق والمستهدي :

– بكتاب الله – وتطبيقه النبوي- ،

– وبمَلَكة التعقل والعقل والعقلانية التي حباها اللهُ بني الإنسان،

– وبميزان القيمية الأخلاقية التي تُمَيِّزُ بني آدم عن غيرهم من الكائنات؛

فالوحي – في ديننا، كما نفهَمُهُ- عقلٌ من الخارج، مثلما أنَّ العقلَ وحيٌ من الداخل؛

والتفلسفُ – في ديننا، كما نفهمه- فريضةٌ، مثلما أن التدين فلسفةٌ؛

والقيمية الأخلاقية متغلغلةٌ في بنية ذلك كله (وحياً وتعقلاً، وتديناً وتفلسفاً).

[3] سيأتي تعريفٌ لمصطلح “الإتيولوجي” ضمن الهامش الوارد في آخر الفقرة رقم “6”.

[4] “بعضٌ” مما ورد في هذه الفقرة قد استفدتُّه واقتبستُهُ من مشافهةٍ مع الزميل المصري العزيز أ. ياسر كمال الغرباوي.

[5] نفس الهامش السابق.

[6] على وَزْن “فَعَلوت”. وهو تفعيلٌ منا – في نطاق دراستنا هذه- لمبدأ “نَّحْت المصطلحات” (وهو نوعٌ من أنواع “الاشتقاق”، ويسمونه أحياناً بـ “الاشتقاق الكُبَّار”) المقرر في موضعه في علوم اللسان العربي. ولمزيد تأصيل وتفصيل بهذا الخصوص، انظر : دراسات في فقه العربية، د. صبحي الصالح، (ص 243- 274)، ط 13، 1997م، دار العلم للملايين – بيروت. ومِن أسرار اللغة، د. إبراهيم أنيس، (ص 75- 76)، ط 8، 2003م، مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة.

ونحن نقصد أساساً، على امتداد صفحات هذه الدراسة، بأن تكون هذه المصطلحات المنحوتة نظيرةً لـ “الكهنوت”، ونقصد بذلك “التناظُرَ المعنوي الرمزي المجازي” بين “مضامين هذه المصطلحات المنحوتة” و”مناخ وعقلية ونفسية مضمون مصطلح الكهنوت”، لا بين “مضامين هذه المصطلحات المنحوتة” و”المعنى المُعجَمي لمصطلح الكهنوت”.

[7] نُقطة “التيارات الوظيفية” هذه : مستفادةٌ – بتصرف؛ لتتلاءم مع مضمون بحثنا هذا- :

– مِن مقال : “عن أي دولة نتحدث ؟”، عثمان أمكور، 26/ 7/ 2015م، موقع هافنجتون. وأصل المصطلح والمفهوم- كما هو معلومٌ- هو نموذج “الجماعات الوظيفية” الذي أبدعه الفيلسوف المصري العلامة د. عبد الوهاب المسيري.

– ومِن مشافهةٍ مع الصديق المصري العزيز أ. حسام فرحات.

[8] مصطلح ومفهوم “السلطة” (المُتعلق بالحُكم والدولة) غريبٌ عن “لسان القرآن”، حيث استعمل القرآن المجيد مصطلحات ومفاهيم “الأمر/ الائتمار/ أولو الأمر”.

[9] لا علاقة لِمعادلتنا هذه بشعار “الإسلام دين ودولة” الشهير، والذي رُفع ضمن سياق “السجال الصراعي” الذي دار بين مَن يُسَمَّوْن بـ “الإسلاميين” و”العلمانيين” .. فمُعادلتُنا هذه واردةٌ ضمن “سياق معرفي معين” لا يمت بصلة لـ “السجال الصراعي” سابق الذكر.

[10] طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي، تقديم د. أسعد السحمراني، (ص 30)، ط 2، 2003م، دار النفائس – بيروت.

[11] “الباثولوجي/ pathology : الدراسات العلمية الطبية المهتمة ببيان طبيعة وأعراض الأمراض وآثارها على التركيبة البنيوية والوظيفية للأنسجة والأعضاء والجسم المصاب؛ أي المهتمة بالجواب عن سؤال : “ماذا يفعل المرض بالجسم ؟”.

و“الإتيولوجي/ etiology : الدراسات العلمية الطبية المهتمة ببيان أسباب ومسببات الأمراض والعوامل التي تؤدي إلى الإصابة بها؛ أي المهتمة بالجواب عن سؤال : “لماذا وكيف يصاب الجسم بالمرض ؟”.

[12] “الروح البَطْرَكية” تقوم على : مبدأ رعاية الخراف الضالة، وبالتالي مبدأ الاستتباع والإخضاع، وبالتالي مبدأ الهيمنة والسيطرة، وبالتالي مبدأ التسلط .. وكل ذلك يُنتِج بالتالي : مبدأ طلب الطاعة العمياء من قِبَل هاتيك الخراف الضالة، ومبدأ الهِبَة والإنعام مِن قِبَل ولي النِّعَم تجاههم.

باختصار، تقوم “الروح البطركية” على مبدأ ومنهج وآليات “السلطة الفوقية”؛ بحيث تكون العلاقة هي بين أعلى/ أدنى، أعلم/ أجهل .. إلخ.

وفي هذه الأجواء، وبسببها، تشيع – ضمن ما تشيع- مناخات اللافاعلية والاتكالية والعجز، واللامسئولية والتهرب والتخاذل، والتملق والنفاق والوصولية .. إلخ.

[13] سواء عسكر الجُند المماليك (أيامَ “المتوكل” و”المستعين بالله”)، أو دول العسكر؛ من الديلم والغُز والتُّرك والمماليك (البَحَرية والبُرْجية) والعثمانيين .. إلخ.

[14] وعليه، يمكن – بكل أريحية- اعتبار هؤلاء العسكر : “جماعات وظيفية عسكرية” وفق نموذج المسيري عن “الجماعة الوظيفية”.

[15] “العسكروت” : نسبةً إلى “العسكر”، ونظيراً لـ “الكهنوت”؛ على وَزْن “فَعَلوت”.

[16] فارقٌ ضخم بين :

– اعتمادِ “نظرية المؤامرة” : كـ “منظور أيدولوجي مُغلَق” في فقهِ الواقع وفقهِ حركة العالَم (وهذا هو ما تنتقده إشارتُنا في المتن) .. وهو منظورٌ “تضليلي” :

يُحِيلُ أصحاب هذه المؤامرات (الوهمية) إلى “آلهةٍ” تمشي على قدمين،

ويُحيلُ العالَم كله إلى “جبهةٍ واحدةٍ مُوَحَّدَةٍ ضدنا”،

ويُحيلُنا نحن إلى “عَجَزة” أمامهم،

ويَجعلُها أموراً “حتميةً” لا مفر منها ولا مهرب .. إلخ.

– والاعترافِ بوجود “مخططات/ استراتيجيات سياسية إمبريالية” : يَضعها “أصحابُ المصالح” ويَسْعَوْن في تنفيذها بكل ما في وسعهم، مستغلين في ذلك كلَّ فرصةٍ وثُغرةٍ (وهذا لا تنفيه إشارتنا في المتن) .. وهو منظورٌ “إنساني” :

يتعامل مع أصحاب هذه المخططات كـ “بشر” لا كـ “آلهة”،

ويُحيلهم إلى كيانات “قد تتلاقى مصالحها كما قد تتضارب” (سواء في علاقة بعضهم ببعض، أو في علاقة بعضهم البعض تجاهنا، أو في العلاقة بينهم إجمالاً وبيننا)،

ويُحيلنا نحن إلى أهمية الانتباه إلى “مشاكل الذات” و”ضعف و/ أو هشاشة و/ أو خواء الداخل” التي يَنفُذُ منها وبسببها مَن أراد إلحاقَ الضرر بنا .. إلخ.

[17] رغم أن “وظيفةَ ومهمةَ” الحبيب المصطفى ليست إلا “التطبيق والتفعيل والتنزيل” للنص الإلهي وقيمه ومعانيه وإرشاداته وتوجيهاته وهديه، فمهمةُ الحبيب المصطفى هي – أبداً- “الدوران في فلك القرآن الكريم والانبثاق منه وعنه والامتداد في اتجاهه”.

ورغم أن “تراث المسلمين المكتوب في العلوم الدينية” ليس إلا ثمرةً لـ “مجهود بشري مُقَدَّرٍ” في مقاربة الوحي/ النص الإلهي المؤسس/ القرآن الكريم، وفي مقاربة التطبيق والتفعيل والتنزيل النبوي له.

[18] لا نقصد بهذا أبداً اتهامَ المسلمين بالاقتباس المباشر أو غير المباشر لهذه الفكرة من المجال الديني اليهودي، بل نقصد – فقط وحصراً- كشفَ وبيانَ “البنيةِ الاستبدادية/ التحكمية/ التسلطية الكامنة” في/ وراء الفكرتين و”تناظُرِهما على نحوٍ من الأنحاء”.

[19] لمزيد توسع بهذا الخصوص، انظر : “هل ثبت حديث الافتراق؟ وهل هناك فرقة ناجية؟ – اجتهاد إسلامي جديد”، د. يحيى رضا جاد، كتابٌ جاهزٌ للنشر.

[20] لمزيد توسع بهذا الخصوص، انظر : “في العلاقة بين السنة والشيعة الإمامية الجعفرية – رؤية إسلامية جديدة لأجل مستقبل أفضل”، د. يحيى رضا جاد، كتابٌ جاهزٌ للنشر.

[21] لا نقصد بهذا أبداً اتهامَ المسلمين بالاقتباس المباشر أو غير المباشر لهذه الفكرة من المجال الديني المسيحي، بل نقصد – فقط وحصراً- كشفَ وبيانَ “البنيةِ الاستبدادية/ التحكمية/ التسلطية الكامنة” في/ وراء الفكرتين و”تناظُرِهما على نحوٍ من الأنحاء”.

[22] لمزيد توسع بهذا الخصوص، انظر : “في فقه الاجتهاد والتجديد – دراسة تأصيلية تطبيقية”، د. يحيى جاد، (ص 145- 152)، ط 1، 2010م، دار السلام – القاهرة.

[23] كلهم انشغل بالتراث، بينما لم يُفكر أحدٌ منهم في إعمال عقله من أجل تفلسفٍ وتفكر وتفقه وتَفَسُّرٍ وتدبرٍ وتَسَيُّسٍ يليق بنا نحن، وبعصرنا نحن، وبهمومنا نحن، وبعقولنا نحن، وبحصيلتنا وسقفنا المعرفي.

كلهم (المقدسون للتراث، والناقمون على التراث)، تمركزوا حول التراث، ونَحّوا “النحن” جانباً.

كلهم أشعلوها حرباً أهليةً فكريةً حول “التراث”، ونَسوا أنفُسَهم.

نحن نتحدث هنا : عن “النمط العام السائد” (لا عن “الاستثناءات” التي تؤكد “القاعدةَ” ولا تنفيها) .. عن “الوعي الزائف” بالعلم والمعرفة .. عن “التقليد” الذي ما بَرِحْنَا نسبح في بحاره .. عن “الالتصاق المَرَضي” باجتهادات مَن سبق .. عن “سَحْق أنفسنا وذاتِيَّتِنا” و”دَفْنِ تفكيرنا وعقلنا الخاص” .. عن “تضخيم وتورم” الماضي والتاريخ في “عقلنا الباطن والمستَقِيل” و”تفكيرنا المُغَيَّب”.

أين “ذواتنا” نحن ؟! .. أين “عقولنا” نحن ؟! .. أين “تفاعلنا” نحن ؟! .. أين “اجتهادنا” نحن ؟!

إحنا – بالعامية المصرية- “دَفَنَّا نَفْسِنَا بالحَيَا”؛ نفكر – فقط- في عقول الأموات .. ونفكر – فقط- بعقول الأموات .. ونُفَسر بعقول الأموات .. ونتفقه بعقول الأموات .. ونناقش ونتناقش بعقول الأموات .. نعيش عيشةً مُستعارةً .. ونفكر بتفكير مُستعار .. ونحيا بعقلٍ مُستعارٍ .. حتى أصبحنا : “عاراً” على أنفسنا، و”عبئاً” على التاريخ، و”كارثةً” على الواقع، و”مصيبةً” على الناس.

نحن، باختصار، أحياءٌ يَحكمهم الموتَى من قبورهم !

وقومٌ هكذا، باطنُ الأرضِ أولى بهم من ظاهرها !

[24] انظر وقارن بـ : “حول أزمة الخُلق المسلم المعاصر”، عبد الحليم أبو شقة، مجلة المسلم المعاصر، العدد (1- 2)، يونيو 1975م.

[25] وكلها من أهم مضامين الهَدْيِ الذي يحمله المصحف بين جنبيه، والذي أرشد إليه وحثَّ عليه.

[26] الإيمانُ – في الإسلام كما نفهمه- مستويان :

– مستوى “الإيمان الجَذْبي” : الذي به “يَنجذب الفردُ إلى النور”.

– ومستوى “الإيمان الإشعاعي” : الذي به يُصبح المرءُ “مُفَعِّلاً للنور في حركته في الحياة”.

وبَيِّنٌ أنَّ الاقتصارَ على المستوى الأول والانحصارَ فيه : يؤول بك إلى جانب “ما آلت إليها الرهبانية النصرانية” التي لم يأتِ بها ولا لأجلها الإسلامُ.

[27] انظر وقارن بـ : “حول أزمة الخُلق المسلم المعاصر”، مرجع سبق ذكره.

[28] نفس الهامش السابق.

[29] ليس من مقاصد هذه الدراسة التعريف بـ “مشروع وتجربة ودولة محمد علي باشا”، ولهذا، ولتكوين فكرة عامة، أقرب ما تكون إلى التكامل والتوازن، عن هذا الموضوع، يمكن – على سبيل المثال- الرجوع إلى : محمد علي ونظام حُكمه، المستشار/ طارق البشري، (ص 11- 14، 17- 52، 55- 62)، ط 1، 2013م، دار الشروق – القاهرة. ومحمد علي وأولاده – بُناة مصر الحديثة، جمال بدوي، (ص 19- 107)، ط 1999م، مكتبة الأسرة – القاهرة. وكل رجال الباشا – محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة، د. خالد فهمي، (ص 12، 13، 22- 26، 89- 91، 98- 105، 107، 128- 129)، ط 3، 2012م، دار الشروق – القاهرة. ومحمد علي الكبير، محمد شفيق غربال، (ص 28، 29، 39- 41، 63- 66، 73- 142)، ط1، 2010م، دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة. والأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، جمع وتحقيق وتقديم د. محمد عمارة، (1/ 97- 98، 833- 840)، ط 2009، مكتبة الأسرة – القاهرة.

[30] نحن لا ولن نتحدث هنا عن شخص محمد علي، ولا عن نواياه، ولا عن مقاصده، بل عن ما أثمره وآل إليه مشروعُهُ، سواء في حياته أو بعد مماته، وسواءٌ قَصَد إلى ذلك أو لم يقصد، وعاه واستهدفه أو لم يَعِه ويستهدفه.

كما إننا ههنا، وبسبب طبيعة ومقتضيات دراستنا هذه، سنركز على “السلبيات الرئيسية/ الجوهرية/ المفصلية” التي أثمرها وآل إليها هذا المشروع دون “إيجابياته”، رئيسيةً كانت أو هامشيةً. وهذا “التركيز” لا يعني عدم وجود إيجابيات من وجهة نظرنا، وإنما هو “انعكاسٌ ومقتضىً طبيعي لِمَا يتطلبه موضوع هذه الدراسة”.

كما أن ما سنذكره – في المتن أعلاه- عن “مشروع ودولة وتجربة محمد علي” غيرُ قاصرٍ عليها فقط، لأن تجربته تلك قد عُمِّمَت واستُحْضِرَت واستُلْهِمَت واستُبْطِنَت – بعد ذلك- :

في عدد من البلدان الأخرى في أنحاء وطن العروبة ودار الإسلام، قبيل وإبان حقبة الغزو والاحتلال العسكري الأجنبي الحديثة.

وهنا، بخصوص تجارب هذه البلدان، تُستَحْضَر مختلف السلبيات التي سيأتي ذكرها في المتن أعلاه.

وفي “الدول القُطرية” التي خَلَفت الغزوَ والاحتلالَ الأجنبي بعد رحيله المادي.

وهنا، بخصوص تجارب هذه الدول القُطْرية، نُضِيف إلى السلبيات التي سيأتي ذكرها في المتن أعلاه، سلبيات أخرى كثيرة، من أهمها :

– سلبية “التغريب الحضاري” المعنوي و/ أو المادي الذي تبنه ودَعَت إليه وساهمت في نشره “الكثيرُ” من هذه “الدول القُطرية ومؤسساتها ونُخَبها”؛ أثراً من آثار، وامتداداً من امتدادات، حقبة الغزو والاحتلال الأجنبي.

– وسلبية “السيطرة العسكرية المباشرة والصريحة” – والممتدة والعميقة والراسخة حتى هذه اللحظات- على الحُكم/ السلطة/ الدولة في كثيرٍ من تلك الدول القطرية (ولا يَخْفَى أنَّ جرثومة/ أصل/ بذرة هذه السلبية قد نَشَأَتْ وبَزَغت مع “تجربة محمد علي” كما سيأتي بيانه في المتن أعلاه).

[31] هذه النقطة إفرازٌ مباشرٌ من إفرازات النقطة “ج” السابقة عليها، ولكنها، لشديد أهميتها ومحوريتها، تم ذكرُها منفصلةً وقائمةً بذاتها.

[32] نعني بـ “العسكر الضباط” : مختلف مكونات وعناصر وأجهزة “المنظومة الأمنية” التي تطورت وتوسعت وانتشرت وتوغلت وتغولت بمرور الوقت؛ مكونات وعناصر وأجهزة كيانات : الجيش، والشرطة، والمخابرات.

[33] للتوسع بخصوص بيان وتَبَيُّن عدة جوانب “معاصرة” متعلقة بـ “العسكر الضباط”، انظر هذه الدراسات الرصينة :

– “فوق الدولة – جمهورية الضباط في مصر”، يزيد صايغ، أغسطس 2012م، ط مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، مكتب كارنيجي للشرق الأوسط – بيروت

– و”مصر – جمهورية الجنرالات المتقاعدين”، د. زينب أبو المجد، دراسة منشورة في موقع جريدة الوفد المصرية على الإنترنت (بوابة الوفد الإلكترونية)، في 13/ 5/ 2012م. وقد تَرْجَم هذه الدراسة إلى العربية أ. محمود حسام، حيث نُشرت – في الأصل- في مجلة “فورين بوليسي”، في 8/ 5/ 2012م.

– و”الداخلية أساس الحُكم والحداثة في مصر”، علي الرَجَّال، مقالٌ منشورٌ في موقع جريدة السفير اللبنانية (ملحق “السفير العربي”) على الإنترنت، في 29/ 7/ 2015م.

[34] ولهذا أُنْشِئَ في عهد محمد علي : مدرسة المشاة، ومدرسة الفرسان، ومدرسة المدفعية، ومدرسة الحربية، ومدرسة الهندسة (المهندسخانة)، ومدرسة الطب، ومدرسة الصيدلة، ومدرسة الولادة، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الفنون والصنائع، ومدرسة الترجمة/ الألسن، ومدرسة الزراعة، ومدرسة المحاسبة، والمدارس التعليمية – الموازِية لِمَا يُسمَّى الآن بمدارس الابتدائي والإعدادي- (.. إلخ) .. وخاصةً على أثر عودة مَن ابتعثهم من مصر إلى أوربا (وخاصة فرنسا) لدراسة علوم وفنون وصناعات : الطب والصيدلة والهندسة والميكانيكا والعسكرية والملاحة والبحرية والمعادن والإدارة والطباعة والنسيج والشمع والصباغة والمفروشات والسفن والزراعة والري (.. إلخ).

[35] وبالتدريج، ومع الوقت، أصبحنا أمام “شعب كامل من الموظفين”.

[36] نقطة إنشاء وتكوين “نخبة سلطوية”.

[37] سيتم التركيز، في هذه الفقرة، على الحديث عن “أهم السلبيات” المتعلقة بالمذكورين أعلاه، من وجهة نظرنا، وهذا لا يعني عدم وجود “إيجابيات” متعلقة بهم، وإنما هو ما يقتضيه مقام وميدان ومقاصد هذه الدراسة.

[38] حيث لكل حركة من هذه الحركات “مؤسساتها وحياتها الخاصة القاصرة عليها دون غيرها” (كلما سمحت الظروف والأوضاع)، والتي تدور فيها حولَ نفسِها؛ من المؤسسات الإدارية والتعليمية والصحية والخدمية والمدارس والمَحَال، إلى المطبوعات والمجلات والصحف والمواقع والقنوات والكتب والأفكار، إلى الدعاة والمشايخ والمُنَظرين والمفكرين والكُتاب، إلى الملابس وطريقة التحدث، إلى المناسبات والأغاني والأناشيد .. إلخ.

[39] معظم ما قيل في الهامش السابق بخصوص قطاعاتٍ عريضةٍ مِن حركاتِ وتياراتِ وجماعاتِ وأحزاب مَن يُسَمَّوْن بـ “الإسلاميين” (ومن ضمنهم الطرق الصوفية)، يقال كذلك، وسواءً بسواء، في قطاعاتٍ عريضةٍ من حركات وتيارات وجماعات وتجمعات مَن يُسَمَّوْنَ بـ “غير الإسلاميين”، من العلمانيين والقوميين واليساريين والليبراليين والحزبيين السياسيين (.. إلخ).

[40] “الفاقة” و”الحاجة” و”العوز” و”سياسات التفقير”، تُعَدُّ، متى أمكن تفعيلُها، مِن أهم أساليب ووأدوات ومداخل “الاستبداد” للتحكم في الأشخاص والمجموعات والجماهير؛ تفعيلاً لمبدأ : “جَوِّعْ كَلْبَكَ : يَتْبَعْكَ”.

[41] ولم يَكُن يَجرِي ذلك فينا، مِن قِبَل التوجهات الإمبريالية الغربية، انتصاراً منها لهذه “الدعاوى العرقية أو القومية”، بل سعياً منها، عن طريق زرع أو إحياء أو إزكاء أو تشجيع هذه الدعاوى، لتزكية عوامل تفتيت وتفكيك “أواصرنا الأجمع والأشمل”، ثم، وفيما بعد، تزكية عوامل تفتيت وتفكيك هذه “الدعاوى العرقية أو القومية” نفسها بواسطة زرع أو إحياء أو إزكاء أو تشجيع “الدعاوى الطائفية والمذهبية” (.. إلخ)؛ أي : “تفتيت وتجزئة الوعاء الكبير”، ثم “تفتيت المُفَتَّت” و”تَجْزِئة المُجَزَّأ”.

فـ “الثابت” عندهم، دوماً، هو “محاولات، والسعي في تزكية عوامل، تفكيكنا وإضعافنا، واستغلال أي فرصة لتحقيق هذا”، بينما “المتغير” هو “وسائل تحقيق ذلك كله”.

وليس هذا “هجوماً” على “فكرة القومية” بمجردها، وإنما هو :

– “اعتراضٌ” على توظيفها لأغراض بعينها.

– و”اعتراضٌ” على محاولة “إقحامها” في سياقنا، دون حاجتنا إليها، و/ أو دون شروطنا؛ أي : دون انبثاق ظروفنا عن حالة احتياج حقيقية لها، و/ أو دون “تبيئتها” و”تهذيبها” لتكون “مشمولةً” بشروط ومبادئ ومقاصد وأفق نسقنا الفكري و”مندرجةً” تحت سقفه.

[42] بينما تجاوزت وتتجاوز أوربا، في واقعها العملي، عن طريق “الاتحاد الأوربي”، سلبيات “نظامِ الجنسية المغلق” وسلبيات “الحدودِ السياسية المغلقة” .. أصبحت سلبياتُ هذين الأمرين، في واقعنا العملي، ضمن ما أصبحا، من أهم أسباب وأدوات ووسائل وآليات “التضييق” و”التحريش” و”التخندق” و”التراشق” و”العدوان” في علاقتنا بعضِنا ببعضٍ.

[43] مع غفلةٍ تامةٍ، أو تغافل تام، عن أن في “آفاق الخارج” (على مختلف الصُّعُد) ما يضاد كل تلك الأوضاع سابقة الذكر، و/ أو ما يساهم في التحرر منها وتجاوزها، ولكننا – للأسف- قومٌ عَمون، ومُتَقَوْقِعون، ولا نُحسِنُ التنسيقَ، ولا استثمارَ الفُرَص، فضلاً عن انعدام – أو عدم إرادة- الوعي بوجودها أو بقيمتها !

[44] هناك علاقةٌ جدلية بين “الداخلي” و”الخارجي”، فكلٌّ منهما قد يستدعي الآخَر ويُغريه ويُهَيِّئ له الأجواء، وقد يحرسه ويساعده ويؤيده ويسانده ويُطيل عُمرَه.

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.