حبل الله
ما هي البدعة؟ .. اجتهاد اسلامي جديد

ما هي البدعة؟ .. اجتهاد اسلامي جديد

ما هي البدعة؟

اجتهاد إسلامي جديد

الرسالة من الباحث د. يحيى رضا جاد[1]

مقدمة

معلومٌ مشتهرٌ التهابُ الأوضاع الفكرية – كلامياً وأصولياً وفقهياً- بين مختلف المدارس الفكرية الإسلامية من قديم .. ويُوَظَّفُ في استبقاء, بل وتسعير هذا الالتهاب وزيادة أواره, التراشقُ بتهمة “الابتداع”, حتى أصبحت من أكثر وأسهل وأشيع ما تتقاذفه الألسن من اتهامات وتجريحات واستنقاصات.

وإذا لاكت الألسُنُ أمراً :

– غمُضَت – في كثير من الأحيان, وعلى قطاعات عريضة من الناس, سواءٌ مِن طالبي العلم أو مِن الجماهير- ملامحه.

– وتاهت خريطته في خِضَم “الحروب الفكرية” القائمة على ضفافه, وفي سيل “قذائف النابالم الحارقة” التي تتقاذفها الجبهات المتصارعة, فلا تكاد تتبين لهذا الأمر رأساً مِن عَقِبٍ, ولا تكاد تجد له بنياناً واضحاً – في هذا الجو المُلَبَّد بالقذائف والحوارق والصواعق- بعد أن تجاذبت مختلف الأطرافَ قماشته إلى حد التمزيق والتبديد, وتناولت أدلته إلى حد التشتيت والتفتيت ..

وكأنَّ المرءَ مُقبِلٌ لا على دراسة علمية مستقيمة ذات منابع وأدلة وملامح, وإنما مُقبلٌ على خط النار حيث الرُّكامُ والحُطام والجُثث والأشلاء [2] !

ومِن أجل تَلَبد الأجواء الدينية بين المسلمين بسُحُب التبديع والتفسيق, وتسمم الكثير من مياهها وآبارها بسببها, تأتي هذه الدراسة الجديدة والجريئة والأصيلة والمُرَكزة؛ لتُجَلِّي – جلاءً بَيِّناً- قضيةً من أخطر قضايا الفكر الإسلامي قديماً وحديثاً, ومن أكثرها حساسيةً وإثارةً للجدل والإشكاليات, قضيةَ “البدعة ومفهومها”, طارحةً فيها اجتهاداً إسلامياً أصيلاً جديداً غيرَ مسبوق في ميدانه (في حدود علمنا واطلاعنا)؛ يحاول أن :

– يُوضحَ الغامضات,

– ويزيل الالتباسات,

– ويحل الإشكالات,

– ويخفف من الصدامات والحساسيات والتحريشات,

– ويُعيد الُّلحمةَ بين المسلمين بعضِهم ببعضٍ,

وذلك من خلال الاعتماد :

– على منهج “إنتاج المعرفة” (بالتأسيس على البراهين العقلية, وبالتعامل المباشر والكلي والشمولي مع نصوص القرآن والسنة, مع الاستفادة مما يمكن الاستفادة منه من التراث والنتاج الفكري القديم والمعاصر, على تنوعه واختلاف اتجاهاته)،

لا على منهج “استهلاك واجترار القائم من المعرفة” .. فنحن لا نُجيزُ لأنفسنا أن ندورَ في فَلَك ما هو قائمٌ أو سائدٌ قديماً أو حديثاً؛ تقديساً له, أو إيماناً – مُبَطّناً أو خفياً أو كامناً- بكونه المرجعيةَ والسقف الذي لا يجوز تجاوزه ولا تخطيه.

وسيسير بحثُنا هذا وفق الخطوات الآتية :

1- آية سورة الحديد

2- آية سورة الأحقاف

3- آية سورتي البقرة والأنعام

4- آيات سور يونس والنحل والانعام

5- خلاصة التدبر السابق

6- حديث “مَن أحدث في أمرنا هذا”

7- حديث “قومٌ يستنون بغير سنتي”

8- حديث “كل بدعة ضلالة”

9- حديث “مَن دعا غلى ضلالة”

10- حديث “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي”

11- حديث “مَن أحدث في المدينة حدثاً”

12- حديث “إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك”

13- زبدة القول

14- زبدة القول من زاوية نظر أخرى

15- زبدة القول من زاوية نظر ثالثة

16- اعتراض وجوابه

17 و18- التعامل مع المبتدع

19- اعتراض آخَر وجوابه

20- خاتمة

فلنبدأ باسم الله وعلى بركة الله تعالى :

***

1- يقول تعالى : “ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء وجه الله فما رعوها حق رعايتها” [الحديد 27] :

والآيةَ الكريمة – فيما نرى- لم تذم مجرد ابتداعهم لأمرٍ ما ابتغاءَ وَجهِ الله وتقرباً إليه سبحانه [3] , وإنما أخذت على هؤلاء تقصيرَهم في رعاية هذا الأمرِ حقَّ رعايته (مثلاً : لعدمِ محافظتهم في هذا الأمرِ على تنفيذ ورعاية ما أمر اللهُ به, أو لعدمِ محافظتهم فيه على تجنب ما نَهى اللهُ عنه, أو لكونهم قد قاموا بهذا الأمر لا على الوجهِ الذي يجب أن يكون, بل على وجهٍ فيه – من المنظور الديني- تقصيرٌ أو تبديل أو تحريف أو تغيير أو إسقاطٌ أو إضافةٌ لِمَا لا يجوز – من المنظور الديني- التقصيرُ فيه أو التبديلُ أو التحريف أو التغيير أو الإسقاط أو الإضافة .. إلخ) [4] .

فكأنه سبحانه وتعالى يقول : ورهبانيةً أحدثوها وتكلفوا الإتيانَ بها مِن عند أنفسهم – لم نفرضها عليهم أو نطلبها منهم- ابتغاءً منهم لرضوان الله، ولكنهم – رغم ذلك- ما رعوها حقَّ رعايتها.

فالآية الكريمة – وَفْقَ هذا الوجه من الفهم- لم تَعِبْ ابتداعَ الرهبانية التي قصدوا بها وَجْهَ الله تعالى, وإنما عابَت عليهم عدمَ رعاية هذه الرهبانية حقَّ الرعاية.

ولهذا تَجِد لفظ “الرهبنة” في كتاب الله المجيد يأتي في سياقات مدح مرة, وفي سياقات ذم أخرى؛ لأنَّ أصلَ الرهبانية، في خصوص النصرانية، لم يكن ذموماً [5] ، وإنما هو، على أقصى تقديرٍ، مِن المسكوتِ عنه, وإنما موضعُ الذمِّ منه : عدمُ رعايته حقَّ الرعاية .. فـ :

– في سياقات المدح يقول سبحانه : “ولَتَجِدَّنَّ أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى؛ ذلك بأنهم منهم قسيسين ورُهباناً وأنهم لا يستكبرون, وإذا سمعوا ما أُنزِلَ إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق, يقولون : ربنا آمنا, فاكتبنا مع الشاهدين” [المائدة 82- 83] ..

– وفي سياقات الذم (التي هي بعضُ أَوْجُهِ عدم مراعاة الرهبنة حقَّ الرعاية) يقول سبحانه : “إنَّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموالَ الناس بالباطل ويَصُدُّون عن سبيل الله” [التوبة 34], “وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله [..] اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله [..] يريدون أن يُطفئوا نورَ الله بأفواههم” [التوبة 30, 31, 32].

وهناك وَجهٌ تفسيري آخَر للآية ظهر لنا, وهو أنَّ الله تعالى قد كتب عليهم رهبانيةً مُعَيَّنةً ابتغاءَ وجهِهِ, فما رَعَوها حق رعايتها .. أيْ : ما أطاعوا اللهَ فيها, وما قاموا بها على الوجهِ الذي يجب أن يكون, بل قَصَّروا فيها أو بَدَّلوا أو حَرَّفوا أو غَيَّروا أو أَسْقَطوا أو أضافوا مِن عند أنفُسِهِم, دونَ سندٍ أو إرشادٍ مِن الوحي, و/ أو بما لا يتوافق معه .. أيْ – وبعبارة أخرى- : فما رَعَوْا هذه الرهبانية التي كتبناها عليهم حق رعايتها, بل ابتدعوا فيها؛ فكان الابتداعُ ههنا مذموماً لأنه جاء في سياق النعي عليهم في عدم القيام بحق الرعاية؛ إذ ابتغاءُ وجهِ اللهِ حقَّ الابتغاء, ورعايَتُهُ ورعايةُ الرهبانيةِ الأصلية/ أصلِ الرهبانية حقَّ الرعاية, لا يمكن أن يكون بالكيفية التي صارت إليها رهبانيتهم المبتدعة تلك, لمخالَفَتها للابتغاءِ الحقِّ وللرعايةِ الحقةِ [6] .

ومعنى هذين الوَجْهَيْن قريبٌ :

– لأنَّ الوجهَ الأول يفيد أنَّ الناسَ قد اخترعوا شيئاً تقرباً إليه سبحانه, ولكنهم لم يُراعُوا اللهَ – وأوامِرَه ومقرراتِهِ وتوجيهاته- حقَّ الرعايةِ أثناءَ قيامِهم به وفي تنفيذهم له (وههنا موضعُ الذم لا مجردُ الابتداع/ الإحداث).

– ولأنَّ الوجهَ الثاني يفيد أنَّ الله قد أمر بشيء معين, ولكنَّ الناسَ حولوه إلى شيءٍ آخَر, وهذا يعني أنهم لم يُراعُوا ما أمرَ اللهُ به حقَّ رعايته (وههنا أيضاً موضع الذم لا مجردُ الابتداع/ الإحداث).

وهناك وجهٌ تفسيريٌّ ثالثٌ للآية الكريمة، يحمل في أحشائه معنَيَيْن، وكلاهما قريبٌ مِن الوجهين السابقين، وذلك على النحو الآتي :

– ورهبانيةً أحدثوها/ أتَوْا بها مِن عند أنفُسِهم، ما كتبناها عليهم (أي ما قررناها/ فرضناها عليهم أو أمرناهم/ طالبناهم بها)، ولكنْ فعلوها ابتغاءً منهم لرضوان الله، ورغم ذلك : ما رَعَوْها حقَّ رعايتها، حيث تَعَدَّوْا فيها الحدودَ !

– ورهبانيةً أحدثوها/ أتَوْا بها مِن عند أنفُسِهم، ما كتبناها عليهم (أي ما قررناها/ فرضناها عليهم أو أمرناهم/ طالبناهم بها)، لكنْ كتبنا عليهم ابتغاءَ رضوان اللهِ – إجمالاً دون تفصيل، وعموماً دون تعيين- ، ولكنهم – رغم ذلك- لم يُرَاعُوا هذه الرهبانيةَ – التي تكلفوا الإتيانَ بها مِن عند أنفسِهم- حقَّ رعايتها، حيث تَعَدَّوْا فيها الحدودَ !

وبَيِّنٌ تماماً أنَّ هذا الوجهَ التفسيري الثالث، بمعنييه هذين، ليس فيه كذلك أيُّ مؤاخذةٍ على فعلِ الابتداع بمجرده، وإنما باعتبارِ مُتَعَلَّقِهِ؛ فالمؤاخذة ههنا كانت بسبب عدم رعايتهم ما ابتدعوه حقَّ الرعاية، وليس لمجرد الابتداع في حد ذاته.

***

2- ويقول تعالى : “قل ما كنت بدعاً من الرسل” [الأحقاف 9] :

أي لستُ رسولاً أَوْجَدَ أو اختَرَعَ أو أَحدَثَ أو أَتَى أو دعا إلى شيء مُختلفٍ عَمَّن سبقه مِن الرسل, أو شيءٍ لا نظير له ولا شبيه في دعوات سابِقِ الرسل, أو شيءٍ لا سند له من رسالات الله السابقة ولا فيها, أو شيءٍ مناقِضٍ أو مصادِمٍ لوحي السماء ومُراد الله, فإنما أنا امتدادٌ ومتممٌ ومُكَمِّلٌ ونابعٌ ومُنبثقٌ ومُنشعبٌ عن وحي الله وسلسلة الرسل السابقين .. وأي – أيضاً- لستُ أخالِفُ الرسل السابقين في صورةٍ أو سيرةٍ، قولِ أو فعل؛ بل أنا مثلهم؛ بشرٌ يوحَى إليه مثلما أوحِيَ إليهم، وسبيلي في الحياةِ سبيلُهم، وأخلاقي أخلاقُهم (.. إلخ).

ولَمَّا كان الرسول (ص) كذلك, لم يكن بِدْعَاً؛ إذ :

– ليسَ أولَ مُرسَلٍ إلى الناس, لِيَستغرِبوه, بل سَبَقَه كثيرون.

– وليسَ يأتي مِن عِندِه وكِيسِهِ بما يدعو إليه, ليستنكروه, بل هو يدعو إلى الله, بأمرٍ مِن الله, وعلى هَديٍ مِن الله, وببرهانٍ منه سبحانه يُثبِتُ أنه رسولُ مِن قِبَلِ الله للناس, مثلما كان سابقوه من الرسل.

– وليس يأتي بمنهجٍ أو أدلةٍ أو أمورٍ أو إرشاداتٍ تَنْفِرُ منها العقول والقلوب, بل هو يأتي بكل ما تنفتح له هاتيك العقول والقلوب، وبكل ما يَدخل عليها بلا استئذان، مثلما هو الحالُ مع سابقيه من الرسل.

***

3- ويقول تعالى : “بديع السماوات والأرض” [البقرة 117, الأنعام 101] :

وصيغة “فعيل” ههنا (وهي مِن صيغ المبالغة) بمعنى “مُفعِل”؛ أي مُحدِث ومُختَرِع ومُوجِد السماوات والأرض؛ أي مُبدعها على غير مثالٍ سَبَق, ولا أصلٍ يُرجَع إليه, ولا سابق تجربة يُستفادُ منها, فهو سبحانه الأصلُ والسابقُ والأولُ بلا شريكٍ ولا نظيرٍ ولا كُفوٍ ولا شبيهٍ ولا مُساعِدٍ ولا مُعينٍ, وهذا “قمةُ القدرة والتمكن” الذي لا مَرامَ بَعدَه.

***

4- ويقول تعالى : “قل أرأيتم ما أنزل الله لكم مِن رزقٍ, فجعلتم منه حراماً وحلالاً, قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون ؟! وما ظنُّ الذين يفترون على الله الكذبَ يومَ القيامة” [يونس 59- 60] .. “فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً [..] إنما حَرَّمَ عليكم الميتةَ والدمَ [..] ولا تقولوا لِمَا تصف ألسِنَتُكُم الكذبَ : هذا حلال وهذا حرامٌ؛ لتفتروا على الله الكذبَ, إنَّ الذين يفترون على الله الكذبَ لا يُفلحون؛ متاعٌ قليلٌ, ولهم عذابٌ أليم” [النحل 114, 115, 116- 117] .. “وحَرَّموا ما رزقهم اللهُ افتراءً على الله, قد ضلوا وما كانوا مهتدين” [الأنعام 140] :

والافتراءُ على الله الذي هو عينُ البدعةِ المذمومةِ التي هي ضلالة : هو نسبةُ أمرٍ ما إلى دينه – إضافةً أو حذفاً- دون إذنٍ/ برهانٍ مِن هذا الدين (والإذن/ البرهان يَشملان – ضِمنَ ما يشملان- ما يُبديه المرءُ بالاجتهاد, وَفْقَ ما اطمأنَّ وغلب على ظنه أنه هو الدليل) .. أي : أنْ تُحدِثَ في الدين – إضافةً أو حذفاً- ما لم يُرشد إليه هذا الدينُ أو يأذن به (والإرشاد والإذن يشملان ما يُبديه المرءُ بالاجتهاد).

فكلُّ مفترٍ : مبتدعٌ, وكلُّ مبتدعٍ : مُفتري؛ لأنَّ كليهما يريدُ أنْ يقولَ عن شيء ليسَ مِن الدين : إنه مِن الدين, وبهذا يُزيدُ في الدين ما ليس منه؛ أو عن شيءٍ مِن الدين : إنه ليس من الدين, وبهذا يُنقِصُ/ يُسقِطَ مِن الدين ما هو منه.

***

5- وبتدبر الآيات السابقات كلِّها مِن كتاب الله المجيد تدبراً كلياً متكاملاً, يتبين :

أنَّ البدعةَ : كلُّ شيءٍ يُخترع أو يُستحدث أو يوجَد على غير مثالٍ سبق, ولا أصلٍ يُرجَع إليه فيه بعينه, ولا سابقِ تجربة يُستفادُ منها أو يُستَعانُ بها فيه.

وأنَّ هذا الاستحداث والابتداع والإيجاد والاختراع لا يَتعلق به – بذاته- مدحٌ ولا ذم, وإنما باعتبار مُتَعَلَّقه :

* فإن كان إحداثاً :

أ- لشيء في دين الله.

ب- ولا سندَ له منه انبثق عنه, ولا دليلَ له فيه اعتمد عليه :

كان الإحداثُ ههنا مذموماً مُحرماً.

* وإن كان إحداثاً :

أ- لشيء في دين الله.

ب- وله وَجهٌ مما سبق؛ أي له سندٌ من دين الله انبثق عنه, أو له دليلٌ في دين الله اعتمد عليه وتفرع عنه وانشعب منه :

كان الإحداثُ ههنا اجتهاداً مأذوناً فيه, يؤجَرُ عليه صاحِبُهُ أجراً واحداً إن أخطأ فيه, أو أجرين إن أصاب.

* وإن كان إحداثاً :

لشيء في غير دين الله (أي إحداثاً لشيءٍ في الكون والحياة من طَرَفِ الإنسان, أو إحداثاً لشيء لا يَنسِبُهُ مُحدِثُهُ إلى دين الله وَوَحيِه وأمرِه المباشِر, أو لا مُتعلَّق له بالدين تعلقاً مباشراً) :

فهو بحسبه؛ يُوزَن – عقلاً وشرعاً- بميزان المنفعة والمصلحة والإحسان والجودة والعدل والتزكي جميعاً, أي يوزن بميزان مدى قربه مِن, أو بُعده عن, مَقصدِ “عمران الحياة” المُؤَطَّرِ بالقيم والأخلاق والمُنبَثِقِ عنهما.

* وإن كان إحداثاً :

لشيءٍ في الوجود مِن طَرَفِ الله تعالى :

كان دليلاً على قمة القدرة والتمكن والاستواء على العرش.

ومصداقاً لذلك كله, نجد “التطبيقَ النبوي” لهذا “البلاغ القرآني” واضحاً جَلِيَّاً :

***

6- يقول (صلى الله عليه وسلم) : “مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ” [7] .

وبالتدبر في قولِه تعالى : “وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أنْ يكون لهم الخِيَرة مِن أمرهم” [الأحزاب 36] الذي يفيد :

– أنَّ الأصلَ هو أن يكون “للمؤمنين” الخِيَرَةُ مِن “أمرِهم”, إلا شيئاً “قَضَى” الله ورسولُهُ فيه “أمراً” [8] .

وأنَّ أَمْرَ اللهِ ورسولِهِ, مِن ثم, هو كلُّ شيءٍ قَضَى اللهُ ورسولُهُ فيه أمراً.

– وأنَّ صفات العلانية والظهور والبيان والوضوح والصراحة والحسم (التي يحملها مفهومُ “القضاءِ” في أحشائه) هي المطلوبُ في كلِ تكليفٍ سماوي. وهذا يعني, مِن ثم, أمرين :

(أولهما) وجوب تَحَرِّي توافُرِ هذه الصفات في الأدلة التي يُراد الاحتجاجُ بها كلامياً أو فقهياً أو غير ذلك, وإلا (أي إذا لم تتوافر هذه الصفات فيما يُورِدُهُ الكلاميون والفقهيون والمفسرون مِن وجوهِ احتجاجٍ) لم يكن الأمرُ مُلزِماً ديانةً, وإنما هو مُلزِمٌ لِمَن اقتنع به لا غير.

(وثانيهما) أنَّ كلَّ أمرٍ سماويٍّ بـ “افعل” و”لا تفعل” يجب أن يتحلى بهذه الصفات ليصيرَ مُلزِماً ديانةً, وإلا أَعْنَتْنَا الناسَ وألزمناهم بما لا يُلزِم.

ونعود فنقول :

بالتدبر في هذا القول القرآني المجيد, وفي ضوء معانيه وفقهه, يتضح أنَّ معنى جملة “في أَمرِنَا هذا” : أي في دين الله .. أي في أمرِ الله ورسولِه .. أي في شيءٍ/ أمرٍ/ مسألةٍ/ موضوعٍ قَضَى اللهُ ورسولُهُ فيه أمراً.

ومِن ثم, فمعنى “مَن أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه فهو رَد” أي : مَن أحدث في أمرِ الله ورسولِه ما ليس منه فهو رَد .. أي مَن أحدث في شيءٍ ما – قضى الله ورسولُهُ فيه أمراً- ما ليس منه, فهو رَد .. أي مَن أحدث في أمرِ/ مسألةِ/ موضوعِ هذا القضاءِ ما ليس منه فهو رَدٌّ .. أي : مَن أحدث في أمرِ/ مسألةِ/ موضوعِ هذا القضاءِ ما ليس نابعاً مِن هذا القضاء, أو ما لم يُرشِد إليه هذا القضاء, أو ما لم يتوافق مع أو يندرج تحت هذا القضاء, فهو رَدٌّ [9] .

* وجملةُ “ما ليس منه” : تفيدُ أنَّ هذا المُحدَثَ في الدين لا سندَ له من دين الله انبثق عنه, ولا دليلَ له في دين الله اعتمد عليه وتفرع عنه وانشعب منه, و/ أو يصادم أو يخالف أياً مِن مقررات الإسلام.

أمَّا إذا كان الشيءُ المُحدَثُ في الدين له سَنَدٌ مِن دين الله انبثق عنه, أو دليلٌ في دين الله اعتمد عليه وتفرع عنه وانشعب منه, فليس “رَدَّاً” ولا هو بـ “ضلالة”, وإنما هو اجتهادٌ مأذونٌ فيه دائرٌ بين الأجر والأجرين, كلامياً كان أو فقهياً أو عملياً سلوكياً.

فالحديث لم يَقُل : “مَن أحدث في أمرنا هذا فهو رَدٌّ”, وإنما قال : “مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ” .. وبالتالي : فمَن أَحدَثَ فيه ما هو منه (وهذا يشمل الإحداثَ عن طريق الاجتهاد, فهماً وتنزيلاً) فليس كذلك .. وكذلك مَن أحدث في غير أمرِنا شيئاً فهو بحَسَبه.

وبعبارة أخرى, مَن أحدث في أمرِنا ما ليس نابعاً مِن أمرِنا, أو ما ليس يَستند إلى أمرِنا, أو ما ليس يُرشِد إليه أمرُنا, أو ما لا يتوافق مع أو يندرج تحت أمرِنا, أو ما لا يُفهَمُ من أمرِنا نصاً أو اجتهاداً, أو ما يُصادِمُ أو يُضاد أو يُبطل أو يُسقِطُ أمرَنا, أو ما يُرَغِّبُ عن أمرنا, فهو رَدٌّ .. وأما غيرُ ذلك, فهو بحسبه.

وبالإضافة إلى هذا كله, يظهر لنا أنَّ جملة “ما ليس منه” تنتح من معين قولِه تعالى : “إنَّ الذين فَرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً : لستَ منهم في شيء” [الأنعام 159], وقد أشار اللهُ تعالى إلى معنى هذه “الفرقة” وهذه “الشيع” (التي ليست مِن أمر اللهِ ورسولِهِ) في قوله تعالى : “أو يَلبِسَكم شِيَعاً ويُذيقَ بعضَكم بأسَ بعضٍ” [الأنعام 65] .. وهذا كله يشير – ضمن ما يشير- إلى أهمية ومحورية معاني “الألفة” و”الاجتماع”, وأنَّ كلَّ أمرٍ مُحدَثٍ يَذهب بالمسلمين بعيداً عن هذه المعاني, ويَنسِبه صاحبُهُ إلى الإسلام, فإنه ليس من الإسلام في شيءٍ, وأنه على صاحبه مردودٌ, وكيف يكون مِن الإسلام وهو يضاد مقاصِدَه وفلسَفَته ومُبتغياته ومقرراته ومعانيه تلك؟! [10]

وكذلك الحالُ إذا تأملتَ هذه الجملةَ النبويةَ الشريفةَ (جملة “ما ليس منه”) في ضوءِ أَخَوَاتِها, مثل قوله (ص) :

ليس منا مَن لطم الخدود وشَقَّ الجيوبَ ودعا بدعوى الجاهلية” [11] ..

و”ليس منا مَن سَلَق ومَن حَلَقَ ومَن خَرَق” [12] ..

و”مَن حمل علينا السلاح فليس منا[13] ..

و”ليس منا مَن غَشَّ” [14] ..

و”ليس منا مَن خَبَّبَ امرأةً على زوجها, أو عبداً على سيده” [15] ..

و”مَن خرج على أمتي : يضرب بَرها وفاجرها, ولا يتحاشى من مؤمنها, ولا يفي لذي عهد عهدَه؛ فليس مني ولستُ منه[16] ..

و”سيكون بعدي أمراءٌ؛ مَن صَدَّقَهم بكَذِبهم وأعانهم على ظُلمهم, فليس مني, ولستُ منه [17] , وليس بوارِدٍ عليَّ الحوضَ؛ ومَن لم يُصَدِّقهم بكذبهم ولم يُعِنْهُم على ظُلمهم, فهو مني وأنا منه, وهو واردٌ عليَّ الحوضَ” [18] ..

“أنتم الذين قُلتم كذا وكذا ؟ أمَا واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له, لكني أصومُ وأُفطر, وأصلي وأَرْقُد, وأتزوج النساءَ, فمَن رغب عن سنتي فليس مني [19] (وفي رواية : صَنَع النبي (ص) شيئاً, فرَخَّصَ فيه, فتَنَزَّه عنه قومٌ, فقال (ص) : ما بالُ أقوامٍ يتنزهون عن الشيءِ أصنَعُهُ, فوالله إني لأعلمُهُم بالله وأشدُّهم له خشيةً)” [20] ..

و”مَن لم يرحم صغيرَنا, ويُجِل كبيرَنا, فليس منا[21] ..

و”إنَّ أولَ نُسُكِنا في يومنا هذا [يقصد يومَ عيد الأضحى] أنْ نبدأ بالصلاة, ثم نرجع فننحر, فمَن فعل ذلك فقد وافَقَ سُنَّتَنا, ومَن ذَبَح قبل ذلك فإنما هو شيءٌ عَجَّلَهُ لأهلِهِ (وفي رواية : لَحْمٌ قَدَّمَه لأهلِهِ), ليس من النُّسُكِ في شيء[22] ..

و”ليس من البِرِّ الصيامُ في السفر” [23] .. إلخ.

وبهذا كلِّهِ يَزدادُ اتضاحاً أنَّ معنى “ما ليس منه” أيْ : “ما ليس من طريقتنا ومنهجنا ومقرراتِنا وهَدْيِنا وسُنَّتِنا وآدابِنا وأخلاقنا وقِيَمنا” ..

أيْ : مَن أحدث في أمرنا هذا شيئاً لم يُراعِ فيه طريقَتَنَا ومنهجنا ومقرراتنا وهدينا وسنتنا وآدابَنا وأخلاقَنا وقيمنا, فهو رَدٌّ ..

أيْ : مَن أحدث وابتدع شيئاً ناسباً إياه إلى ديننا وأمرِنا, ولم يُراعِ في استدلالاته على شرعيةِ ودِيانيةِ هذا الإحداثِ ولا في ممارسة هذا المُحدَثِ طريقَتَنا ومنهَجَنا ومقرراتنا وهَدْيَنا وسنتنا وآدابَنا وأخلاقَنا وقيمنا, فإحداثُهُ هذا مردودٌ مذمومٌ غيرُ مقبولٍ.

***

7- وفي هذا الاتجاه يأتي ما رواه حذيفةُ بن اليمان : “كان الناسُ يسألون رسولَ الله (ص) عن الخير, وكنتُ أسأله عن الشر؛ مخافةَ أنْ يُدركني.

فقلتُ : يا رسول الله, إنا كنا في جاهليةٍ وشَرٍّ, فجاءنا الله بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير شرٌّ ؟ فقال (ص) : نعم.

فقلتُ : هل بعد ذلك الشر مِن خير ؟ فقال (ص) : نعم, وفيه دَخَن.

فقلتُ : وما دَخَنه ؟ فقال (ص) : قومٌ يستنون بغير سُنتي, ويهتدون بغير هَدْيِي [24] , تَعرِف منهم وتُنكِر.

فقلتُ : هل بعد هذا الخير مِن شر ؟ فقال (ص) : دعاةٌ على أبوابِ جهنم, مَن أجابهم إليها : قذفوه فيها.

فقلتُ : يا رسول الله, صِفهُم لنا ؟ فقال (ص) : نعم, قومٌ مِن جلدتنا, ويتكلمون بألسنتنا.

فقلتُ : فما تَرَى إنْ أدركني ذلك ؟ فقال (ص) : تَلزَمُ جماعةَ المسلمين وإمامَهم.

فقلتُ : فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ ؟ فقال (ص) : فاعتزل تلك الفِرَق كلها, ولو أنْ تَعَضَّ على أصلِ شجرةٍ حتى يُدرِكَكَ الموتُ وأنتَ على ذلك” [25] .

فسياقُ الحديثِ كله ههنا : يدور حولَ “الشر” و”الجاهلية” و”الخير” و”الإسلام” و”جماعة المسلمين” و”الفِرَق” و”كيفية اجتناب هذه الفِتَن والمَقاتِل” [26] , ويُحَذِرُ تحذيراً شديداً مِن الوقوع في براثِنِ الشر والجاهلية والفُرقةِ والتقاتل وأشباهِها مِن الأمور التي ليست – ولا يمكن أن تكون- مِن سنته ولا مِن هديه.

وإذا تدبرتَ وتفكرتَ في قوله سبحانه : “واذكروا نعمةَ الله عليكم؛ إذ كنتم أعداءً؛ فأَلَّفَ بين قلوبكم؛ فأصبحتم بنعمته إخواناً” [آل عمران 103].

إذا تدبرتَ وتفكرتَ في هذا كله, ورَبَطتَّ وجَمَعْتَ بينه وبينَ حديثنا النبوي الرئيسي في هذه الفقرة, وتأملتَ في هذه النصوص كلِّها في ضوءِ بعضِها البعضِ : عَلِمتَ أنَّ أمرَ الجاهليةِ والشرِّ ههنا هو الشرك والكفر, والظلم والكذب, والتنازع والتطاحن والتناحر والتقاتل.

وبه يتضح أنَّ هَدْيَ رسولِ الله (ص) المقصودَ ههنا هو المقابلُ للجاهليةِ والشرِّ : إيماناً وعدلاً وخيراً وأُلفةً واجتماعاً وسكينةً وصِدقاً واتباعاً لمقررات الوحي وابتغاءً لوجه الله.

ولهذا قال (ص) : “أَبْغَضُ الناسِ إلى الله ثلاثةٌ : مُلحدٌ في الحرم, ومُبْتغٍ في الإسلامِ سُنةَ الجاهليةِ, ومُطَّلِبُ دمِ امرئ بغير حق ليُهريق دَمَه” [27] .

وخلاصةُ هذا كُلِّهِ, أنَّ كلَّ ما يُصادِمُ أو يُناقِضُ هَدْيَ محمد (ص) وسُنَّتَه : لا يمكن أنْ يكون منه (ص) ولا مِن أمره وشريعته, وإنما هو أمرٌ مُحدَثٌ في الإسلامِ مُبتَدَعٌ فيه طارئٌ عليه, ومِن ثَم : مردودٌ مذمومٌ .. أيْ إنَّ كلَّ ما يُصادِم أو يناقِضُ الإيمانَ والعدلَ والخيرَ والأُلفةَ والاجتماعَ والسكينةَ والصدق واتباعَ مقرراتِ الوحي وابتغاءَ وجهِ الله : ليس مِن “سنة” الرسول (ص) ولا مِن “هَدْيِهِ” ولا مِن “طريقته”, ولا يمكن أن يأتي به أو يُرشِدَ إليه .. وأنَّ هذا هو المذمومُ في أي إحداثٍ أو ابتداعٍ.

***

8- وفي ذات الاتجاه يأتي ما رواه جابر (رض) قال : “كان رسولُ الله إذا خَطَبَ : احمرت عيناه, وعلا صوتُهُ, واشتد غَضَبه, حتى كأنه مُنذِرُ جيشٍ, ويقول – أي رسولُ الله- : إنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله, وخيرَ الهُدَى [28] هُدَى محمد, وشرَّ الأمورِ محدثاتُها, وكلَّ بدعةٍ ضلالة” [29] .

فههنا مقابلةٌ بين أمرين :

خيرِ الحديثِ وخيرِ الهُدى.

وشَرِّ الأمورِ.

فـ “المحدثاتُ” مذكورةٌ ههنا في مقابل “خيرِ الحديث وخيرِ الهُدَى” .. أي المحدثاتُ التي لا نسب لها ولا صلةَ بخير الحديث ولا بخير الهَدْيِ .. أي المحدثات التي لا تمت للوحي بسبب, ولا تتصل إليه بسند, ولا تنتسب إليه بِنَسَب, و/ أو التي تصادم أو تناقض أو تخالف خيرَ الحديثِ وخيرَ الهُدى .. فـ “شرُّ الأمورِ” هو هذا, وكلُّ بدعةٍ على هذه الشاكلة وهذا الوصف فهي ضلالة ..

هذا, في ظننا واجتهادنا, وبلا عَناء ولا التواء, ما يُرشد إليه وينطق به سياقُ الحديث الجليُّ؛ خاصةً باستحضار احمرارِ العينين, وعُلُو الصوت, واشتدادِ الغضب, والإنذار, والمقابلة بين أمرين فيه, وباستحضار “الرؤية الكلية القرآنية” و”تطبيقها النبوي” التي فصَّلناها قبل قليل.

***

9- ويَزيد الأمرَ وضوحاً على وضوح, قولُهُ (ص) فيما رواه عنه أبو هريرة (رض) : “من دعا إلى هُدى كان له مِن الأجر مِثْلُ أجورِ مَن تَبِعَه, لا يَنقُصُ ذلك من أجورهم شيئاً. ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه مِن الإثم مِثلُ آثامِ مَن تَبِعَه, لا يَنقُصُ ذلك مِن آثامهم شيئاً” [30] .

فههنا مقابلةٌ بين أمرين :

مَن دعا إلى هُدى.

ومَن دعا إلى ضلالة.

فـ “الضلالةُ” بالتعريف ههنا هي المقابِلُ والمضادُّ لـ “الهُدَى” [31] .

وعليه نقول :

إذا كانت “كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ” ..

وإذا كانت الضلالة هي “المقابِلُ والمضادُّ للهُدى” ..

اتضح أنَّ البدعةَ التي هي ضلالةٌ : هي المقابِلةٌ والمُضَادةُ للهُدى, وليس أي مُبتَدَعٍ مُستحدَثٍ لمجرد ذلك.

فإذا كانت البدعةُ التي تُفعَلُ على وَجهِ التقرب لله : مُنبثقةً عن الهُدى, أو متغَيِّيَةً إياه, أو غيرَ مضادةٍ أو مناقِضةٍ أو مخالِفةٍ له : فليست بمحرمةٍ ولا مردودةٍ .. أي إذا كانت مندرجةً تحت دليلٍ خاصٍّ أو عامٍّ (وَفْقَ ما يطمئن المجتهدُ إلى أنه هو الدليل ويَغلبُ على ظنه من ذلك), فليست بمحرمةٍ ولا مردودةٍ, وإنما هي اجتهادٌ محمودٌ/ مأذونٌ فيه, دائرٌ بين الأجرين والأجر.

***

10- وفي ذات الاتجاه أيضاً يأتي ما رواه العرباض بن سارية (رض), حيث قال : “قام فينا رسولُ الله (ص) ذات يوم, فوعظنا موعظة بليغةً [32] , وَجِلَت منها القلوبُ [33] , وذَرَفت منها العيون, فقال قائل : كأنَّ هذه موعظةُ مُوَدِّعٍ, فماذا تَعهَد إلينا ؟ فقال (ص) : أوصيكم بتقوى الله, والسمع والطاعة, وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه مَن يَعِش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين مِن بعدي, تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجِذ, وإياكم ومحدثات الأمور, فإنَّ كلَّ محدَثَة بدعة, وكلَّ بدعة ضلالةٌ” [34] .

فههنا مقابلةٌ بين أمرين :

– الوصيةِ بالدعوة إلى تقوى الله, والسمعِ والطاعة للحفاظ على النظام العام [35] , والتمسكِ بالسنة [36].

– والوصيةِ بالتحذير من محدثات الأمور.

فـ “المحدثاتُ” مذكورةٌ ههنا في مقابل “التقوى” و”السمع والطاعة الرَّاشِدَين” و”التمسك بالهَدْيِ” و”تَغَيِّي الألفةِ والاجتماع والسكينة والعدل” [37] .. أي المحدثاتُ التي لا نسب لها ولا صلةَ بالتقوى ولا بالسمع والطاعة الراشِدَيْن ولا بالهُدى ولا بالألفةِ أو الاجتماعِ أوالسكينة أو العدل .. أي المحدثات التي لا تمت للوحي ولا للعقل بسبب, ولا تتصل إليه بسند, ولا تنتسب إليه بِنَسَب, و/ أو التي تصادم أو تناقض أو تخالف التقوى والهَدْي والألفةَ والاجتماعَ والسكينة والعدل .. فكلُّ بدعةٍ على هذه الشاكلة وهذا الوصف فهي ضلالة ..

هذا, في ظننا واجتهادنا, وبلا عَناء ولا التواء, ما يُرشد إليه وينطق به سياقُ الحديث الجليُّ؛ خاصةً باستحضار الوعظِ البليغِ إنذاراً وتخويفاً وتذكيراً بالله, وخوفِ القلوبِ, وسيلِ الدموعِ, وباستحضار “الرؤية الكلية القرآنية” و”تطبيقها النبوي” التي فصَّلناها قبل قليل.

***

11- وفي ذات الاتجاه كذلك يأتي ما رواه علي بن أبي طالب (رض), حيث قال : “ما عندنا شيءٌ إلا كتابُ الله وهذه الصحيفةُ عن النبي (ص) : المدينةُ حَرَمٌ ما بين عائر وكذا, مَن أحدث فيها حَدَثاً, أو آوَى مُحدِثاً, فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين, لا يُقبَلُ منه صرفٌ ولا عدل. وذمةُ المسلمين واحدة, فمَن أخفر مسلماً فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين, لا يُقبَل منه صرفٌ ولا عدل. ومَن تولى قوماً بغير إذن مَوالِيه, فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين, لا يُقبَلُ منه صرفٌ ولا عدل” [38] .

فسياقُ الحديثِ ههنا كلُّه عن “الحُرُمات” و”الدماء” و”الظلم” و”النُّصرة” .. حيث يعلن الرسول (ص) في هذه الصحيفةِ حُرمةَ المدينةِ المنورة .. ولأجل أنَّ الكلام عن “الحرمات”, جاء حديثُهُ عن “ذمة المسلمين”, وعن “تَوَلِّي قومٍ (= نُصرتِهم) دون إذن صاحب الإذن”, وشَدَّدَ (ص) تشديداً, وأنذر إنذاراً, وخَوَّفَ تخويفاً.

فالحديثُ كُلُّه تشديدٌ في التحذير من التعدي على الحرمات .. وعندما أَعلَن (ص) حُرمةَ المدينة, حَذَّرَ من الإحداثِ فيها أو إيواءِ المحدِثين؛ أي إنه تحذيرٌ مِن التعدي وتجاوزِ الحدودِ والاستهانةِ بالحرمات, أو حتى مجردِ المعاونةِ في ذلك أو التسترِ عليه.

والحَدَث في أصل اللغة هو الأمرُ يَقَعُ على غير المعتادِ [39] والجاري والمُتَوَقَّع .. ومادامت المدينةُ قد حُرِّمَت :

فيكون المعتادُ والجاري والمُتَوَقَّعُ فيها هو حِفظُ الحُرمات ورعايتُها, بحيث يكون هذا هو المعروفُ فيها والفاشي والمُستحسَن.

وما يقع فيها على خلاف ذلك يكون حَدَثاً غيرَ متوقعٍ ولا معتادٍ ولا جارٍ, بحيث يكون هذا هو المنكر فيها والنادرُ والمُستَقبَح, فيَستَحِقُّ كلَّ تشديد؛ لأنَّ فيه اعتداءً على حقوقِ الناس التي أوجبها الشرعُ لهم مكاناً أو زماناً (تعدياً على الحرمات, ونَقْضاً للسلم والأمان, وإخفاراً للذِّمَمِ, وإخلالاً بالالتزامات والاتفاقات والاشتراطات والمعهودات).

إذاً, “الحَدَثُ” في هذا الحديث النبوي تحديداً – في ظننا واجتهادنا- هو : الأمرُ الحادِثُ المنكَرُ غيرُ المعتادِ ولا المعروفِ والمذمومُ والمُستقبَحُ والمُنتَهِكُ للحرمات ..

و”المُحدِثُ” فيه تحديداً هو : مَن ارتكب جنايةً وظُلماً وتعدياً ..

و”آوِي المُحدِث” فيه تحديداً هو : مَن نَصَره أو أعانه أو أجاره أو حال بينه وبين أن يُعاقَبَ أو يُقتَصَّ منه.

ومِن ثم, فهذه المُحدَثات المُحَرَّمةُ والملعونُ صاحِبُها في هذا الحديث الشريف ليست كلَّ مستحدَثٍ, وإنما ما كان من المحدَثاتِ انتهاكاً لِحُرمَةٍ من الحرمات, أو لوحي مِن الوحي, أو لتشريعٍ مِن التشريع, أو ما كان منها تَعَدِّياً على ما لا يجوزُ التعدي عليه, أو مخالَفَةً لِمَا لا يجوزُ مُخالَفَتُهُ, أو إخلالاً بما لا يجوزُ الإخلالُ به.

***

12- وبالإضافة إلى كلِّ ما سبق, تفكر في قولِه (ص) : “.. فيقال : إنكَ لا تدري ما أحدثوا (وفي رواية : ما بَدَّلوا) بعدكَ. فأقول : سُحقاً سُحقاً لِمَن غَيَّرَ (وفي رواية : لِمَن بَدَّلَ) بعدي” [40] :

حيث هو بَيِّنٌ في تعلقِ الإحداثِ المذمومِ بـ “التغيير والتبديل” في دين الله الذي جاء به الرسول, لا تعلقِهِ بـ “مجرد الإتيانِ بجديدٍ غيرِ مسبوق”.

* وبعبارة أخرى, هذا الجديدُ غيرُ المسبوقِ :

– إذا نُسِبَ إلى الدين وكان منبثقاً عن الوحي, قائماً عليه, مستَنِداً إليه (وهذا يشمل الإحداثَ عن طريق الاجتهادِ فهماً وتنزيلاً), فليس هو البدعةَ المذمومةَ المُحَرَّمةَ الآثِمة, وإنما هو اجتهادٌ مأذونٌ فيه دائرٌ بين الأجرين والأجر.

– وإذا نُسِبَ إلى الدين ولم يَكُن كذلك, فهو البدعةٌ المُحَرمةُ المذمومةُ الآثِمة؛ لأنه تغييرٌ في الدين وتبديلٌ فيه (بإضافةِ ما ليس منه إليه, أو بحذفِ وإسقاطِ ما هو منه), وهذا عينُ الافتراءِ على الله.

* وبعبارة ثالثة :

المَلاكُ في الابتداعِ المُحَرم المذموم الذي هو ضلالة : هو الافتراءُ على الله بأن تُدخِلَ في دينه ما ليس منه أو بأن تُنقِصَ/ تُسقِطَ منه ما هو منه [41] .

وبهذا يتضح أنَّ المَوْرِدَ الذي يتمتع بالدليل (وَفْقَ ما يطمئن المجتهدُ ويغلب على ظنه أنه هو الدليلُ) يكون خارجاً عن معنى البدعةِ وحقيقتها, ويكون – من ثم- داخلاً في نطاق الاجتهاد المأذونِ فيه, دائراً بين الأجرين والأجر.

والمجتهدُ المسلمُ – في ظاهر أمره, واللهُ أعلم بالبواطن- حالُهُ دائرةٌ بين أمرين, الأول : أنْ يَتَّبِعَ الدينَ (أقصد ما هو منه مُحكَم صريحٌ قطعيٌّ), والثاني : أن يَتَّبِعَ ما فَهمه من الدين, وكلا الأمرَيْن ليس فيه افتراءٌ على الله تعالى, بل هما عينُ الاتباع والطاعة والتقوى في حدود الاستطاعة والقدرة البشرية المُتاحة.

ألم تتدبر قولَه تعالى : “فإما يأتينكم مني هُدىً, فمَن تَبِعَ هُداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أؤلئك أصحابُ النارهم فيها خالدون” [البقرة 38- 39] .. “فإما يأتينكم مني هُدى, فمَن اتبعَ هُدايَ فلا يَضِل ولا يَشقَى. ومَن أعرض عن ذِكري فإنَّ له معيشةً ضَنكاً, ونَحشره يومَ القيامة أعمى” [طه 123- 124] ؟! .. إذ ههنا :

– أناطَ اللهُ تعالى الفلاحَ والنجاةَ باتباعِ الهُدى. ويَدخلُ في اتباعِهِ : الحالتان المذكورتان قبلَ قليل, إذ هما مِن مَصَاديق معنى الاتباع.

– وجَعَل الخوفَ والحزنَ والضلالَ والشقاء والضَّنْكَ والعمَى (= الهلاكَ والعذابَ) مُعَلَّقاً على الكُفر بآيات الله وتكذيبِها والإعراضِ عنها. ولا يَدخل تحت هذه المعاني بأي حال من الأحوالِ : الحالتان المذكورتان قبلَ قليل.

***

13- وزُبدةُ القولِ : إنَّ كلَّ شأنٍ مِن الشئون يُرادُ نِسبَتُهُ إلى”الدين”, لم “ينبثقُ” عن الوحي, ولا عن اجتهادٍ فيه قُصِدَ فيه وَجهُ الله واستُفرِغَ فيه الوُسعُ وتُحُرِّيَ فيه غايةَ التحري, فهو البدعةُ المذمومةُ المحرمة, مِثلُ :

– الدعوةِ إلى زيادةِ عدد ركعات الصلوات المفروضة أو الإنقاص منها .. أو زيادةِ عدد أيام رمضان المعلومة أو الإنقاص منها .. أو تغييرِ وقت الحج أو أماكنه أو شعائره المعلومة .. أو الدعوةِ إلى أشكالٍ وطقوسٍ شعائرية تعبديةٍ تخالفُ المعلومَ مِن أشكالِ وطقوسِ الشعائر التعبدية الإسلامية ..  أو الدعوةِ – بالاتكاء على إثارة الشبهات- إلى حِلِّيَّةِ السرقة أو الزنا أو الخمر أو ما شابَهَ .. أو الإتيانِ بعملٍ أو طاعةٍ أو قُربةٍ عامةٍ مندرجةٍ تحت أصلٍ في الشرع على أنها مطلوبةٌ دينياً على الخصوص/ بذاتها وبخصوصها ..

– أَيْ : أيِّ تغييرٍ تشويهي (بالمُضادّةِ أو الإبطال, أو بالإضافةِ أو الإسقاط) لـ “مَعالِم الدين وأركانه وشعائره وثوابته وقطعياته ومقرراته” التي هي “خيرُ الحديث الذي هو كتابُ الله” و”خيرُ الهَدْيِ الذي هو هَدْيُ محمد”  [42] ..

و/ أو أيِّ قولٍ عَبَثي اعتباطي يَدَّعي فيه قائلُهُ وَصْلاً بالشرع ويَنسِبُهُ إليه دونَ إبرازِ دليلٍ له مِن الإسلام اعتمد عليه فيه (وهو نَوعُ تغييرٍ تشويهيٍّ يندرج تحت سابقه) .. أي : كل قولٍ يُنسَبُ إلى الدين، ولا مُستَنَدَ له/ لا دليلَ عليه مِن الكتاب والسنة ومقرراتهما أو مِن ما استُنبِطَ منهما ..

– و/ أو نَحوِ ذلكَ مِمَّا يَنحُو ذاتَ المَناحِي أو يَجري في ذاتِ المَهَايِع, مما لا يمكن إحصاؤه أو الإحاطةُ به؛ لِسَعَةِ أوديةِ الباطل والخيال والجُمُوحِ والجُنُوح والأوهام.

وفي تمثيلٍ تشبيهي تقريبي, يمكن أن نقول مطمئنين بأنَّ “حالَ البِدَعِ بالنسبة للإسلام كحالِ اللُّقَطَاءِ بالنسبة للأنساب”؛ ليس بين أيٍّ مِن الطرفين صلةٌ ولا سببٌ ولا سند ولا حبل ولا خيط.

وأما أعمالُ المجتهدين المسلمين وآراؤهم, كلاميةً كانت أو فقهية أو غير ذلك, فهي منبثقةٌ عن الكتاب والسنة والاجتهاد فيهما (شأنَ كلِّ المجتهدين على امتداد الزمان, في ظاهر أمرهم, لا تجد منهم أحداً يخالِفُ في ذلك), وأَمرُها إنما يدورُ بين “الصواب” و”الخطأ”, بين “الأجرين” و”الأجر”, لا بين “الخير” و”الشر”, ولا بين “الهُدى” و”الضلالة”.

وما كان كذلك, فلا يُوصَفُ بالابتداع ولا الفسوق ولا الضلال .. أليس المجتهدُ مُكَلَّفاً باتباع ما يَطْمَئِنُّ إليه, أيْ ما يَغلب على ظنه رُجحانُهُ مِن الأدلة – فهماً وتنزيلاً- بعد استفراغ وُسعه, فكيف يُكَلِّفُهُ اللهُ بشيء, ثم يَعتَبِرُ ثَمَرَتَه – التي قَصَد فيها وَجهَه واستفرغَ فيها وُسعَه وتَحَرَّى غايةَ التحري- ابتداعاً مذموماً مُحَرَّماً أو فُسوقاً أو ضلالاً ؟! .. تلك إذاً, في ظني, قسمةٌ ضيزى, وليست هي من الدين “القَيِّم”.

***

14- وزُبدةُ القول من زاويةِ نظرٍ أخرى : إنَّ مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ, وإنَّ مَن أحدث فيه ما هو منه, فهو اجتهادٌ محمودٌ دائرٌ بين الأجرين والأجر, يَعمل به – قولاً كان أو فعلاً- مَن تَرَجَّحَ أمرُهُ عِندَهُ, ويكون مُجزِئاً ومقبولاً بإذن الله :

* فمَن قصد وَجهَ الله باجتهاده, وأقام الدليل مِن وحي الله عليه (وَفق ما اطمأنَّ إلى أنه هو الدليل, أيْ وَفْقَ ما غلب على ظنه أنه هو الدليل), فليس مبتدعاً, ولا اجتهاده ببدعة, مهما كانت ثمرته, وهو دائرٌ بين الصواب والخطأ, فليُناقَش على منضدة “البحث العلمي”.

* وأما مَن قصد وَجه الله برأيه الديني الذي أبداه, ولكنه لم يُقِم دليلاً من الوحي عليه أبداً, فهو شريفُ النفس والنية والمقصد والوِجهة, ولكنَّ قوله هذا ابتداعٌ مذمومٌ محرم مردودٌ لأنه قولٌ بلا علم (والقولُ بلا علمٍ مذمومٌ محرمٌ في دين الله).

* وأمَّا مَن قصد غيرَ وجهِ الله باجتهاده, وخَبُثَت نيتُهُ, وقام لدينا الدليل الظاهر [43]  الصريح [44] على ذلك مِن أقواله أو أفعاله, فيكون – في هذا المحل- “مبتدعَ النفس والنية والمقصد والوِجهة” ابتداعاً محرماً, أما الرأيُ الذي أبداه مقيماً عليه الدليل, فيُناقَشُ على منضدة البحث العلمي شأنه شأنَ غيره من الآراء, فإن رأيناه صالحاً قَبِلناه, وإن رأيناه ضعيفاً – بعد المداولة العلمية التأملية التدبرية التفحصية الناقدة- أثخناه بالجراح.

* وأمَّا مَن قصد غيرَ وَجهِ الله برأيه الذي أبداه, وهو – فوق ذلك- لم يُقِم عليه دليلاً من الوحي, فقد جمع الشرَّ مِن أطرافه !

***

15- وزبدةُ القولِ مِن زاويةِ نظرٍ ثالثةٍ :

* كل مَن أتى برأي, مستدلاً فيه أو عليه بالوحي ودائراً في فلكه وصادراً ومنبثقاً عنه, وقاصداً به وَجهَ الله, وَفْقَ ما اطمأنَّ إليه وغلب على ظنه :

فليس مبتدعاً ولا قوله ببدعةٍ محرمة؛ إذ هو قد اتبعَ غَالِبَ ظنه, ولا يُكلِّفُ الله نفساً إلا وُسعها.

ولا يمكن أن يكون مبتدعاً ولا قوله ببدعةٍ محرمة؛ لأنَّ لازِمَ هذا أن يكون كلُّ اجتهادٍ مختلفاً عن اجتهادي – على امتداد تاريخ الفكر الإسلامي- بدعةً محرمة, ولو كان صادراً عن مثل ما صَدَر عنه اجتهادي (أي صادراً عن الوحي والدليل ودائراً في فلكه), ولو كان هو ما غلب على ظنِّ صاحبه واطمأنَّ إليه .. هذا يُحيلُ كلَّ اجتهادٍ في الدين بإطلاق وتعميم ابتداعاً مذموماً محرماً, ويحيل كلَّ المجتهدين ابتداءً من الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا مبتدعين مذمومين .. فهل هذا حقاً يمكن أن يكون مُرادَ أيِّ دين من الأديان, فضلا عن أن يكون هو الدين “القيم” ؟!

* فليست البدعة هي الإتيان برأي يَصدر عن شخص لم يحمل شهادةً شرعية رسمية؛ لأنَّ هذا “تمركزٌ حول الأشخاص” لا “حول الوحي”, وإلا فهل إذا أتى واحد من حملة هذه الشهادات بذات الرأي, هل نقول ههنا بقبوله لمجرد ذلك ؟!

وههنا يثور سؤال مفصلي عن المرجعية, هل هي بذلك – حقاً وصدقاً- لله ورسوله (أي للوحي والاستناد إلى الأدلة والاحتكام إليها والصدور والانبثاق عنها والدوران في فَلَكها) أم هي بذلك للبشر والتاريخ ؟!

إذاً, المناطُ أو المعيار الدقيق – في نظرنا- هو الوارد بيانُهُ في زُبَدِ القول السابقة.

* وليست البدعةُ هي الإتيان برأي جديد غير مسبوق؛ لأن هذا “تمركز حول التاريخ” لا “حول الوحي” أيضاً؛ لأن هذا يُنَحي “مركزية الدليل” (الذي تَغياه وقدَّمه واستند إليه وصَدر عنه صاحبُ هذا القول, وَفْقَ ما اطمأنَّ إليه وغلب على ظنه) جانباً, ويُحل “التاريخَ” محلها .. وههنا كذلك يثور سؤال مفصلي عن المرجعية, هل هي بذلك – حقاً وصدقاً- لله ورسوله (أي للوحي والدوران في فلكه) أم هي بذلك للبشر والتاريخ ؟!

وماذا إذا وُجد سابقاً مَن قال بذات الرأي, أليس هو أيضاً – في زمنه الذي أَبْدَى فيه رأيه هذا- يكون مبتدعاً بمجرد ذلك ؟! وهذا يؤول مباشرةً إلى أنَّ كلَّ قولٍ قيلَ يكون ابتداعاً في أصله (إذ صاحبه لم يسبقه أحدٌ إليه, ابتداءً حتى من الصحابة رضوان الله عليهم, فمَن الذي سبقهم إلى الآراء التي أبدَوْها ؟!), مما يحيل تاريخ الفكر الإسلامي كله بدعةً وضلالةً مذمومةً ومحرمة.

بل إنَّ هذا – فوق ذلك- يُضَيِّقُ فعلياً بابَ الاجتهاد الذي فتحه الله مشرعاً وأمر به, إذ يَحصره في “الانتقاء” من أقوال السابقين (وكأنَّ الاجتهادَ لا يكون إلا “انتقائياً” وفقط ؟!), وهذا يستبطن “قدسيةَ أقوالهم” و”احتقارَ عقولنا”, وهو “توثين خفي” لهم يُحيلُهم “المرجعيةَ الحاكمة” لنا لا الوحي, ويُحيل أمرَ اللهِ لنا بـ “التدبر” إلى الاستيداع, ويلغي تكليفَ الله تعالى لنا بتلقي خطاب الوحي وفهمه وتطبيقه, ويَلزَمُ منه القولُ بمحدودية عطاءات الوحي ونفادِ إمكانياته وإشعاعاته, إذ قد أتى الأقدمون على كلِّ ما يمكن أن يقال أو يُستنبَط, ولم يَبق لنا ولا أمامَنا إلا أن ننتقي أو نتخير من بين أقوالهم واستنباطاتهم.

* إذاً, المناطُ أو المعيار الدقيق – في نظرنا- هو الوارد بيانُهُ في زُبَدِ القول السابقة, وهو ذمُّ وتحريمُ ما لا يندرج مِن المُحدَثات تحت أصل من أصول الشريعة أو ما لا ينبثق عن أدلتها, وقبول [45] كل ما له أصل مِن هذه المُحدَثات أو كل ما انبثق عن هاتيك الأدلة.

***

16- فإن قيل : اجتهادُك هذا سيؤدي إلى شيوع الأقوال الضعيفة في الأمة كلامياً وفقهياً !

فالجوابُ :

– أولاً : هذا لا يَلزَمني, فإن ما قَدَّمتُه مِن اجتهاد هو – عندي- صحيحٌ في نفسه, ولم أجد ما يمكن أن يُخدَشَ به, وطَعنُكَ هذا لا يتوجه إليه, وإنما إلى ما “يُحتَمَل” أن يؤول إليه الوَضع, وهو “رجم بالغيب”, وفوق ذلك هو شأنٌ “متحرك متغير” لا “معياري ثابت”, فلا يمكن له ولا لأشباهه أن يَطعن في “بِنية” ما تقدم.

– ثانياً : “الأقوال ضعيفة”, هي ضعيفةٌ مِن وجهة نظرك, ولكنها ليست كذلك من وِجهة نظر صاحبها ولا مَن اقتنع بها, وصاحبُ ما سَميتَه أنت بـ “الأقوال الضعيفة والشاذة” له ذات الحق – الذي ارتَضَيْتَه لنفسك- في أن يصف اجتهاداتِك بذات الأوصاف التي وَصفتَ بها اجتهاداته, والحقُّ أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ عند نفسه, فلا تتعدَّ .. وفوق ذلك, ليس لديك “بيانٌ إلهي” ولا “نشرة ربانية” حَددت وتُحَدِّدُ القَوِيَّ والضعيفَ مِن الأقوال, فإنما هي “ظنون علمية” تدور بين راجح ومرجوح, بين قويٍّ وضعيفٍ, بين قريبٍ وبعيد .. فكُن مِن هذا كله على ذِكر.

– ثالثاً : لنفترض أن الاجتهاد الفلاني ضعيفٌ في نفسه (ولا مجال لمعرفة ذلك معرفةً باتَّةً قاطعةً نهائية لا رجعة فيها إلا يومَ القيامة), أو هو ضعيفٌ عندك وعندي, فموقفنا إزاءه هو أن نُبَيِّنَ للناس بالحجة والبرهان والحكمة, ومِن خلال النقد والجدل والنقاش والحوار العلمي, ضَعفَهَ هذا مِن وجهة نظرنا, فإذا اقتنع الناسُ بطرحنا : تجنبوه وابتعدوا عنه.

إنَّ التكليفَ فرديٌّ, والمسئوليةَ شخصيةٌ [46] , وإذا كان الناس يتفاوتون قطعاً في المعرفة الدينية, فإنَّ ذلك لا يعني أبداً (وما ينبغي له) مَنحَ المجتهدِ أو المفتي سلطةَ إلزامِ الناس باجتهاده ورأيه, أو فَرضَه على غيره, وإنما مهمتُهُ وواجبُهُ البيانُ والإرشادُ والمساعدةُ على الفهم, وَواجِبُ غيرِهِ الإدراكُ والاقتناعُ – أو عدمه- بعد التأمل والتدبر .. هذا كله مِن لوازم وتجليات مبدأَيْ “فردية التكليف” و”شخصية المسئولية”.

وبتعبير آخَر : “آليةُ الضبط الاجتماعي” [47] هي, دون غيرها, “البوابة الشرعية” و”الكافلة” و”الضامنة” أن يبتعد جمهورُ الناس عن ما هو ضعيفٌ من وجهة نظرنا؛ فإن جماهيرهم لا تجفو عن رأي أو اجتهاد – بعد استيفاء بَيانِهِ حَقَّ البيان- إلا لـ “عدم اقتناعهم بهم” أو “عدم تحقيقه لمصالحهم الشرعية المعتبرة” .. والآراءُ والاجتهاداتُ, مثلما الأيامُ, دُوَل, فما قد يَشيع بين الناس في فترة, قد ينكمش في أخرى .. وما قد يظنون رُجحانه في زَمن, قد يَرَون مرجوحيته في غيره .. وما قد يَرَونه محققاً لمصالحهم الشرعية المعتبرة في عصر أو ظرف أو بيئة, قد يَرونه ليس كذلك في غيرها من العصور أو الظروف أو البيئات .. إلخ.

الناسُ – في جملتهم ومجموعهم, في الظاهر والمُعلَن مِن أمرهم, واللهُ أعلم بالبواطن- حريصون على مرضاة الله تعالى, ويبتغون وَجهه سبحانه, أصولاً وفروعاً, كلامياً وفقهياً, ويصغون بصدق إلى مَن يُقنعهم ويُرشدهم, وليس مَن يفرض نفسه وَصياً عليهم يَمنح ويَمنع, ويُفسِحُ ويَحجب, ويَأمر ويَنهى.

ثم إن المسائل التي يُحتاج مجتمعياً – مِن المنظور القانوني المعاصر- أن يسير فيها الأمرُ على وِجهَةٍ واحدةٍ ضبطاً للشأن العام, لا يقرره على الناس مجتهدٌ ولا مفتي, لا يقرره “أفراد”, وإنما هناك – في عصرنا هذا- “مسارات مؤسسية”, مَرضيةٌ مِن الأمة, ومُخَوَّلةٌ مِن قِبَلِها بتقرير هذه الأمور (وفيها أعضاءٌ مِن مختلف التخصصات الإنسانية والدينية والكونية؛ شأنَ كلِّ ما هو عام) .. فيكون الوضعُ بالنسبة لهذه المسائل, إذا قَررت تلك المؤسسات فيها شيئاً, مُلزِماً للجميع من حيث التنفيذ (إذ حُكم الحاكِم يرفع الخلاف, وهذه “المؤسسات” المُختارةُ مِن قِبَل الأمة, أو “المَسارات” و”الآراء” المُقررةُ باستفتاءِ الناس عليها واختيارهم لإياها بالانتخاب والتصويت, هي “الحاكم” في عصرنا هذا), مع احتفاظ كل صاحب اجتهادٍ أو رأي بممارسة حقه في عرضه وبيانه والدعوةِ إليه والدفاع عنه ونقد الآراء الأخرى بأسلوب الحوار والمناقشة الفكرية العلمية الخالصة.

وفوق ذلك كله, قد يختلف ما تقرره هذه المؤسسات والمسارات ذاتها – في عين هذه المسائل- مِن ظرف لظرف, أو مِن عصر لعصر, أو نتيجةَ تَغَيُّرِ قناعات أو طُروءِ مستجدات .. إلخ.

***

17- ونعود فنقول [48] : اعلم (على افتراضٍ جدلي تَنَزُّلِي : أنَّ الآخَرَ الفِرَقيَّ أو المذهبيَّ, الكلاميَّ أو الفقهيَّ, مبتدعٌ بإطلاق أو بخصوص, وأنَّ موقفه هو بدعة قطعية, لا يُحتمل أن تكون اجتهاداً, وَفقَ المضمونِ الشائع لمعنى البدعة في تراثنا الإسلامي, على اختلاف مذاهبه, والذي يتم إطلاقُهُ وتعميمُه على كل مخالِفٍ في كثيرٍ مِن المسائل الكلامية, وفي قليلٍ مِن المسائل الفقهية) أنَّ التشديد والتغليظ إنما يخص البدعةَ نفسها, والرأيَ المبتدعَ عينه, دون قائله وصاحبه, والذي هو غالباً مِن المتأولين, الذين الأصلُ فيهم الإعذارُ بالجهل أو التأويل أو الشُّبَه الصارفة عن الحق أو الصواب [49] .

وتأوُّلُ هذا المبتدِعِ (الذي يُعذَر به عندنا في الظاهر, إذ لا سبيل إلى الاطلاع على البواطن) يستوجب أن يكون الأصلُ عدمَ التشديد عليه, بل يستوجب أن يكون إعذاره واضحاً في تعاملنا معه, مِن جهة الرفق به وعدم تنفيره بالغلظة عن الحق أو الصواب – من وِجهة نظرنا وَوَجْه إدراكنا- .

ولا يصح أن نقرر إعذاره, ثم نُغفِل تقريرنا هذا في منهج تعاملنا معه, فلا يجوز أنْ يكونَ تَلَبُّسُه ببدعة أو اثنتين أو ثلاثة أو حتى ثلة مِن البدع (حتى على افتراض أنَّ ما تلبَّس به ابتداعٌ قطعي) مبيحاً لإسقاط ما فيه مِن محاسن – شخصاً كان أو توجهاً- , ولا مبيحاً لسوء تعاملنا معه, ولا يجوز أن ننسى – فوق ذلك- أن المبتدع قد يكون مأجوراً “في” بدعته, لا “عليها”, مِن جهتين : (الأولى) أنه اجتهد فأخطأ, (والثانية) أنَّ داعيه إلى البدعة قد يكون حُبُّ الله ورسوله : فيُؤجَر (في الأولى) على اجتهاده وإن أخطأ, ويُؤجَر (في الثانية) على محبته لله ورسوله وإن لم يُصِب سبيلها الذي اجتهدَ في تحريه فأخطأه.

يقول (ص) : “لا أحدَ أَحَبُّ إليه العُذرُ مِن الله؛ ومِن أجل ذلك بَعثَ [أي : الرُّسُلَ] المبشرين والمنذرين” [50] .

والمتأولُ معذورٌ, وليس حُكمُه حُكمَ المعانِدِ ولا الفاجِرِ المنتَهِكِ للحُرُمات, فإنَّ اللهَ قد جَعَلَ لكل شيء قدراً, أم نكون نحن أغيرَ على دين الله مِن الله, “وليسَ أحدٌ أغيرَ مِن الله” [51] ؟!

***

18- وخلاصة هذا كله [52] , أنَّ المبتَدِعَ (سواءٌ وَفقَ تعريفنا للبدعة وتجلياته, أو وَفقَ المضمونِ الشائع لمعناها في تراث المسلمين وتجلياته) : حقوقُ المسلم على المسلم تشمله, وله فيها ما لغيره مِن المسلمين, وعليه ما عليهم, فعليك أن توفيه حقه الإسلامي العام الذي أَلْزَمَ به الوحيُ كلَّ مسلم تجاه أخيه المسلم.

* فلا يصح أن نمقت المبتدع, وإنما نمقت البدعة, ولا أن نَحتَقِرَه, وإنما نَحتقرها, فإذا رجع إلى الحق فَرِحنا بعودته, وإذا استمرأ البدعة :

أشفقنا عليه

ودَعَوْنَاه (بالحكمة والموعظة الحسنة)

ودَعَوْنَا له (بالخير والهداية), ودعونا لأنفُسنا بذلك معه, بل وقَبلَه.

لقد جعل الله الإيمانَ رحماً بين المؤمنين : “إنما المؤمنون إخوة” [الحجرات 10], فالمؤمنون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وديارهم وألسنتهم وألوانهم ومذاهبهم : “أسرةٌ واحدةٌ”  .. فأيما مؤمنٌ تبرأ مِن مؤمنٍ, ولو مبتدعاً أو عاصياً, كان قاطعاً لهذه الرحم الواجِبِ وَصلُها دوماً .. وتذكر قولَ الحبيب (ص) : “لا تدابروا, وكونوا عبادَ الله إخواناً” [53] .. و”المسلم أخو المسلم, لا يَظلِمه ولا يُسلِمُه” [54] .. و”كلُّ المسلمِ على المسلم حرام[55] .. “لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهجُرَ أخاه فوق ثلاث ليالٍ, يلتقيان فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا, وخيرُهما الذي يبدأ صاحبَه بالسلام[56] .

فهذه نصوصٌ – وغيرُها كثيرٌ قرآناً وسنة- صحيحةٌ صريحةٌ تُعطي المسلمَ حقوقاً تَجِبُ له على إخوانه المسلمين لمجرد الإسلام, حيث لم تُقَيِّدها النصوصُ بغير “صفةِ الإسلامِ والأُخُوةِ فيه” التي تضافرت على ذِكرها هذه النصوص في جميع المواضع مُطلَقةً مِن أي قيد .. فبأيِّ حُجَّةٍ – والحالُ كذلك- تُنتَقَصُ هذه الحقوق ؟! [57] * فإن أَبَيْتَ هذا, وما أراك تفعل, فـ :

– استغفِرْ له : “واستغفر لذنبك وللمؤنين والمؤمنات” [محمد 19].

– أو اعتذِرْ إلى الله مِن هفوته, كما فعل أنس بن النضر (رض) في أُحُد, وهو مِن حُسن فقهه, حيث قال : “اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء [58] (يعني المسلمين الذي خالفوا أمرَ رسول الله في أُحُد), وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء [59] (يعني المشركين في أُحُد)” [60] .

– أو على أقصى تقدير, تَبَرَّأ إلى الله مِن الذنب أو البدعة, لِعِظَمها, ولا تتبرأ مِن صاحبها المسلم, لِحُرمَتِه .. تدبر قوله (ص) : “اللهم إني أبرأ إليكَ مما صَنَع خالدٌ[61] ؛ فتبرأ (ص) مِن “العمل” الذي “صنعه” خالد, ولم يتبرأ مِن “شخصِ” خالد (رض) [62] .

أرأيتَ إنْ أَلْممتَ بذنب عظيم, أو كبيرة, أو أتيتَ ببدعة, أَتَرْضَى أن ينفضَّ مِن حولك الناسُ, ويتبرؤون مِن صلتهم بك, ويُلحِقونَ بك الأذى, فيكونون بذلك عوناً للشيطان عليكَ ؟! .. أم تُحب أن تمتد إليك أياديهم بالإحاطة والعون والنُصح والتسديد والمؤازرة, فينتشلونك مما وقعتَ فيه, ويكونون بذلك عوناً لك على الشيطان ؟ .. اختر لنفسك, وتذكر أنه “لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه” [63] .

وقد اُتِيَ للنبي (ص) برجل قد شرب الخمر, فأَمرَ بضربه, فضُرب, فلما انصرف قال بعضُ القوم : “أخزاكَ الله”, فقال (ص) : “لا تقولوا هكذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان” [64] .

وقد كان رجلٌ على عهد رسول الله (ص), كان اسمه “عبد الله”, وكان يُلَقَّبُ “حِماراً”, وكان يُضحِكُ رسول الله [65] , وكان النبي (ص) قد جَلَده لشُربه الخمر, فقال رجل من القوم : “اللهم العنه, ما أكثر ما يؤتَى به”. فقال (ص) : “لا تلعنوه, فوالله ما علمتُ إلا أنه يُحبُّ اللهَ ورسولَه” [66] .

أرأيتَ مواقف رسول الله (ص) مِن شاربي أمِّ الخبائث, بل والمُكثرين منها, فما بالُكَ بما هو أقل مِن أم الخبائث [67] ؟!

أَمَرَ (ص) بضرب شاربي أمِّ الخبائث, ولكنه لم يَرْض بإيذائهم حتى بمجرد القول بعد ما طَبَّقَ عليهم القانون [68] , ولم يُخرجهم مِن نطاق المؤمنين, بل أثبتَ وثَبَّت حُرمتهم, ونَهى الناسَ أن يفتحوا ثُغرةً للشيطان إلى قلوبهم.

فلا يُذهِلَنَّكَ “شراسةُ طبعٍ” أو “ضيقُ صدرٍ” عن “سَعة فضل الله” على خَلقه و”عظيمِ رحمته” بهم .. وتذكر أنَّ صحابةَ رسول الله (ص) موصوفون في كتاب الله بأنهم : “رحماء بينهم” [الفتح 29].

المسلمُ الحقُّ : طبيبٌ يأسو الجراحَ, ويرحم الضعاف, ويُرشد الحيارى, ويتلطف مع الشاردين حتى يَثوبَ بهم إلى طريق الله.

***

19- وإذا بلغنا هذا المبلغ من الدرس, واعتُرِضَ علينا, فيما انتيهنا إليه, بمسألة “الفرقة الناجية وحديث الافتراق”, وما يدور في فلك هذا الأمر؛ لارتباطه الوثيق بما سبق, ولأنه يُقَوِّض هذا البنيان الاجتهادي المتين الذي أقمناه تقويضاً.

فالجواب :

راجع لُطفاً دراستنا المطولة – قيد النشر- عن “الفرقة الناجية وحديث الافتراق – اجتهاد إسلامي جديد”؛ ففيها تقويضٌ كامل للأطروحة الشائعة بهذا الخصوص.

***

20- وعليه, وبهذا الذي سبق مِن أوله إلى آخره, يتقرر عندي باطمئنان :

– أنَّ أهل السنة (من الأشاعرة، والماتريدية، وأهل الحديث/ السلفيين .. إلخ)، في المجمل، كلامياً وفقهياً, ليسوا كفرةً, ولا مبتدعةً فسقةً ضالين, وإنما هم مجتهدون يصيبون ويخطئون, وحالُهم دائرٌ إجمالاً بين الأجر والأجرين, شأنُهم شأنُ سائرِ مجتهدي المسلمين في كل زمان ومكان, ومِن أي مذهب كلامي أو فقهي كانوا هم.

– وأنَّ الشيعة الإمامية الجعفرية, في المجمل, كلامياً وفقهياً, ليسوا كفرةً, ولا مبتدعةً فسقةً ضالين, وإنما هم مجتهدون يصيبون ويخطئون [69] , وحالُهم دائرٌ إجمالاً بين الأجر والأجرين, شأنُهم شأنُ سائرِ مجتهدي المسلمين في كل زمان ومكان, ومِن أي مذهب كلامي أو فقهي كانوا هم.

وإنما خَصَصْت “السنة” و”الشيعة” بالذكر، دون غيرهم؛ بسبب “التوظيف السياسي” الحالي القذر لـ “الأبعاد المذهبية السنية والشيعية” في تأجيج نيران “معارك المصالح غير الأخلاقية” القذرة، الجارية حالياً على امتداد مساحات شاسعة من رقعة وطننا العربي البائس !

وختاماً :

بِمِثْلِ هذه المنهجية, والجُرأة العلمية, والرصانة المعرفية, التي سارت عليها هذه الدراسة, نرجو أن يتقدمَ المجتهدون والمجددون, من المستقلين والمذهبيين, من المدارس الفكرية السنية والشيعية، وغيرها, بدراسات مماثِلَةٍ, تُناظِر هذه الدراسةَ وتَفُوقُها، وتُكَمِّلها وتُوَسِّع آفاقها؛ فبغير المنهجية, وبغير الجُرأة والشجاعة العلمية, وبغير الرصانة المعرفية, وبغير الوضوح والصراحة والمصارحة, لن نستطيعَ إعادةَ الأُلفةِ والائتلاف إلى بيئة المسلمين ومجتمعاتهم وحَرَكتهم البَيْنية في الحياة, معنوياً ومادياً.

والله أعلى وأعلم


[1] طبيب بشري وباحث وكاتب مصري مستقل فكرياً وسياسياً

[2] نقصد بهذا, ضمنَ ما نقصد, الإشارةَ إلى التعاملِ التجزيئي التعضوي التفتيتي مع نصوص كتاب الله (الوحي الإلهي) وسنة ورسوله (التطبيق والتفعيل والتنزيل النبوي للوحي الإلهي), حيث يُنظر إليها جميعاً بلا كليات تُفهم في ضوئها, وبلا ناظم يَجمعها, وبلا تنسيق وجمع وتوليف لدلالاتها بعضِها مع بعض, وبلا إدراكٍ لشبكة العلاقات الكثيفة, وبعيدة الغور, بين هذه النصوص بعضِها وبعض (.. إلخ).

[3] وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ مجردَ ابتداعِ أو إحداثِ شيءٍ صالحٍ خَيِّرٍ يُقَربُ إلى الله ويُبتَغَى فيه وَجهُهُ سبحانه ويكون فيه منفعةٌ للخلق ولا يُخالِف أو يُصادِم أو يُناقِضُ مقرراً من مقرراتِ الوحي : أمرٌ طيبٌ حَسَنٌ غيرُ مذمومٍ, وإلا لَذَمَّهُ الله، ولَمَا كان مَحَلُّ المؤاخذةِ هو – فقط- عدم رعاية هذا الابتداعِ حقَّ الرعاية.

[4] انظر الهامش بعد القادم.

[5] “الرهبانية” أي الفِعْلَةُ المنسوبةُ إلى “الرَّهْبَان” (على وزن “فَعْلان”)؛ وهو الخاشِي (“الخَشْيان”) أو الخائف، والمقصودُ : الخشيةُ من الله والوَجَلُ منه وطلبُ تقواه وتَحَرِّي مرضاتِه (مع العمل وَفْقَ ذلك بالحكمة؛ أي بمراعاة متطلبات الرسالة السماوية في ظل ظروف وأحوال وأوضاع مجمتع هذه الرسالة). ولا ريب أنَّ هذه – في نفسِها وأصلِها- معاني محمودةٌ جليلةٌ.

[6] معلومٌ ما آل إليه أمرُ الرهبانية في النصرانية/ المسيحية مِن تشوه وغلو وجموح وجنوح يُصادم الفِطَر الإنسانيةَ والطبائع البشرية والسنن الاجتماعية والمقررات السماوية والأخلاق المَرْضِيَّة. وما كان وَصفُهُ كذلك : لا يمكن أنْ يُبتَغَى به وَجهُ الله ولو ادعاءً ! إذ كيف يُبتَغَى وجهُ الله بحالٍ أنت فيها وبها مُصادِمٌ لسَنَن اللهِ وسُنَنه ومقررات وَحيه ومقاصد شرعه ؟!

[7] أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) وأبو داوود (4606) وابن ماجه (14).

[8] تدبر – على سبيل المثال- فيما سيأتي ذِكرُهُ بعدَ قليلٍ مِن أحاديث نبوية في الهامش والمتن.

[9] وهناك “تطبيقاتٍ نبويةً” كثيرة تنتح مِن معينِ هذا “البلاغ القرآني”, ويزداد بها معنى “أمرنا” اتضاحاً على وضوحه السابق, منها :

– عن أنس (رض) أنَّ اليهودَ قالوا عن رسول الله (ص) – ضِمنَ سياقٍ عن المرأة والمحيض والطهارة- : “ما يريد هذا الرجل أن يَدَعَ مِن أمرنا شيئاً (أي مِن أمر طقوسهم وتعاليمهم الدينية التي ينسبونها لشريعة موسى وأمرِهِ/ قضائِهِ) إلا خَالَفَنَا فيه”. أخرجه مسلم (302) وأبو داوود (258, 2165).

– وعن أنس (رض) أنَّ رسول الله (ص) قال : “إن كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنَكم به, وإن كان شيئاً مِن أمور دينكم فإليَّ”. أخرجه ابن ماجة (2471) وصححه الألباني. وانظر : مسلم (2363) وأحمد (24964).

– وعن أبي قتادة (رض) أنَّ رسول الله (ص) قال : “إن كان أمر دنياكم فشأنُكُم, وإن كان أمرَ دينكم فإليَّ”. أخرجه أحمد (12566) وصححه الألباني في الصحيحة (2225). وانظر : مسلم (681) وأحمد (24964).

[10] اربط هذا كلَّه مع, وضُمَّه إلى, جملةِ “ليس مني ولستُ منه” والأحاديثِ الواردة فيها, تلك الأحاديث المذكورة في فقرتنا هذه (9/ 3) والتي تليها (9/ 4).

[11] أخرجه البخاري (1294) ومسلم (103).

[12] أخرجه أبو داوود (3130) والنسائي (1863). وصححه الألباني. وانظر مسلم (104).

– وسَلق ههنا : أيْ آذَى وتَعَدَّى (ومنه قوله تعالى “سَلقوكم بألسنةٍ حِدادٍ” [الأحزاب 19]), وصاحَ ورَفَع صوتَه وتَعَدَّى.

– وحَلَق ههنا : أيْ أوجَعَ نَفْسَه (ومنه قولهم : “حَلَقَ فلاناً”, وقولهم “حَلَقه الداءُ” أيْ أوجَعَ حَلْقَه). وأيْ قَتَل وأهلَكَ وأفنَى (ومنه قولهم : “حَلَقَ القومُ أعداءهم”, وقولُهم : “حَلَقَتهم حَلاقٍ” أيْ أهلكتهم الشدة), و”حَلَقَت الماشيةُ النباتَ”؛ أيْ أتت عليه. و”حَلَقَ ضِرعُ الماشيةِ” أيْ خَفَّ لَبَنُهُ وشَحَّ وارتفع. ويُحتملُ أن يكون للحلق – ههنا, في هذا الحديث- معنى آخَر, ولا حاجةَ بنا إلى التوسع في بيانه اكتفاءً بهذه الإشارة.

– وخَرَق ههنا : أيْ شَقَّ وقَطَعَ الثيابَ.

والمقصود ههنا – كما يتضح مِن تأملِ سياقِ الحديثِ في السُّنَن- : ليس منا مَن صاح بالصوت عند موتِ عزيزٍ إظهاراً لألم فراقه, أو أوجَعَ نَفْسَه باللطم على الخدود حزناً عليه, أو شَقَّ الجيوبَ والثيابَ إظهاراً للجَزَع (.. إلخ).

أيْ : ليس منا مَن أتى بأفعال الجاهلية عند موتِ أهلِهِ أو آلِهِ أو عزيزٍ لديه.

[13] أخرجه البخاري (7070) ومسلم (100).

[14] أخرجه أبو داوود (3452) وابن ماجه (2224). وصححه الألباني.

[15] أخرجه داوود (2175) وصححه الألباني. وخَبَّبَ عليه فلاناً : أي أفسَدَه عليه بالخداع.

[16] أخرجه مسلم (1848) والنسائي (4114).

[17] “ليس مني ولستُ منه” : اربِط هذه الجملة النبوية الشريفة, والحديثَ الواردةَ فيه, بـ :

– آيةِ “لستَ منهم في شيء” [الأنعام 59] المذكورة في الفقرة السابقة (9/ 3).

– وبجملةِ “ما ليس منه” الواردة في الحديث الشريف المذكورِ في ذات الفقرة.

– وبجملةِ “ليس منا” الواردة في الأحاديث الشريفة المذكورة في ذات الفقرة.

[18] أخرجه النسائي (4207) والترمذي (2259). وصححه الألباني.

[19] رَغِبَ عن الشيء : أي كَرِهَه.

[20] أخرجه البخاري (5043, 7301) ومسلم (1401, 2356).

[21] أخرجه البخاري في الأدب المُفرد (356). وحَسَّنه الألباني في صحيحته (2196). وانظر الترمذي (1920).

[22] أخرجه البخاري (976, 956) ومسلم (1961). وتأمل ههنا ما شاء لك التأمل, حيثُ النبي (ص) يُشَرِّعُ لِرَدِّ (= عدم قَبول) هذا اللحمِ المذبوحِ قَبلَ الصلاةِ إذا كان على وَجهِ النُّسُك, ويَقبَلُهُ شيئاً طيباً يُقَدِّمُهُ المرءُ لأهله إذا لم يَكُن على وَجهِ النُّسُك.

[23] أخرجه البخاري (1946) ومسلم (1115) والنسائي (2258). ومعنى الحديث (كما يتبين مِن التأمل في سياق الحديث عند البخاري وغيره) : ليس من البر في حقِّ شخصٍ ضعيفٍ أنْ يتقربَ إلى الله بالصومِ في سفرٍ مُرهِقٍ له.

[24] تدبر قولَه سبحانه : “قلنا اهبطوا منها جميعاً, فإنما يأتينكم مني هُدَى, فمَن تَبِعَ هُداي فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون” [البقرة 38].

[25] أخرجه البخاري (3606, 7084) ومسلم (1847). وقارن بـ : سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني، (رقم 2739).

[26] وفي سياقِ حديثِنا هذا أيضاً استَحْضِر وتدبر :

– قولَه (ص) : “ستكون فِتَنٌ, القاعد فيها خيرٌ من القائم, والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي, والماشي فيها خيرٌ من الساعي, ومَن يُشرِف لها تَسْتَشْرِفْهُ, ومَن وَجَد ملجأً أو مَعاذاً : فَلْيَعُذ به”. أخرجه البخاري (3601) ومسلم (2886).

– وقولَه (ص) الذي أوردناه في المتن قبل قليل : “سيكون بعدي أمراءٌ؛ مَن صَدَّقَهم بكَذِبهم وأعانهم على ظُلمهم, فليس مني, ولستُ منه (أي؛ لأنهم “يَستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي”), وليس بوارِدٍ عليَّ الحوضَ؛ ومَن لم يُصَدِّقهم بكذبهم ولم يُعِنْهُم على ظُلمهم, فهو مني وأنا منه, وهو واردٌ عليَّ الحوضَ”. أخرجه النسائي (4207) والترمذي (2259). وصححه الألباني.

* وأما جملة “ليس مني ولستُ منه”, فارْبِطْهَا, والحديثَ الواردةَ فيه, بـ :

– آيةِ “لستَ منهم في شيء” [الأنعام 59] المذكورة في الفقرة السابقة (9/ 3).

– وجُملتَيْ “ما ليس منه” و”ليس منا” الواردتَيْن في الأحاديث الشريفة المذكورة في ذات الفقرة.

* وأمَّا جملة “ليس بوارد عليَّ الحوضَ”؛ فلِأنَّ فيما فعله هؤلاء الأمراء : اعتداءً على حقوقِ الناس التي أوجبها الشرعُ لهم, وخَرماً للعدل, وإخفاراً للذمم, وتعدياً على الحرمات, وإخلالاً بكل ما لا يجوز الإخلالُ به مِن الالتزامات والاتفاقات والعهود؛ فاستحقَّ الأمرُ هذا التشديدَ والحِرمان.

[27] أخرجه البخاري (6882).

[28] بضم الهاء وفتح الدال, وكذلك بفتح الهاء وتسكين الدال, كلاهما صحيحٌ لغةً, وحَسَنٌ معنىً.

[29] أخرجه مسلم (867) وابن ماجة (45).

[30] أخرجه مسلم (2674) والترمذي (2674) وأبو داوود (4609) وابن ماجة (206).

و”مَن دعا إلى ضلالةٍ” : مِن مصادِيقِها – على سبيل المثال- قولُ الرسول (ص) : “ليس مِن نَفْسٍ تُقتَلُ ظُلماً إلا كان على ابن آدَمَ الأول كِفلٌ منها؛ لأنه أولَ مَن سَنَّ القتلَ”. أخرجه البخاري (3335) ومسلم (1677).

وليس شيءٌ مِن هذا كله مُصادِماً لقوله تعالى : “ولا تزر وازرةٌ وِزرَ أخرى” [الأنعام 164]؛ لأنَّ هذه الأحاديث الشريفةَ متعلقةٌ ببيانِ إثم مَن دعا إلى ضلالةٍ أو فَتَّحَ عيونَ الناسِ عليها أو نَبَّههم إليها, سواءٌ بقوله أو بفعله وسلوكه, فمورِدُ هذه الأحاديث غيرُ مورد الآية الكريمة, بل هي من باب قوله تعالى : “لِيَحملوا أوزارهم كاملةً يومَ القيامةِ ومِن أوزارِ الذين يُضِلُّونهم بغير علم” [النحل 25], وقوله تعالى : “ولَيَحْمِلُنَّ أثقالَهم وأثقالاً مع أثقالهم ولَيُسألُنَّ يومَ القيامة عما كانوا يفترون” [العنكبوت 13]؛ فمَن سَنَّ خيراً سيُكافأ على فعله للخير وعلى أنه سَنَّ الخيرَ لِمَن تَبِعَه, ومَن سَنَّ شراً فسيُعاقَب على فعله للشر وعلى أنه سَنَّ هذا الشرَّ لِمَن تَبِعه.

بل إنَّ هذه الأحاديثَ – بالإضافة إلى ذلك- تنتح من معين قوله تعالى : “ولا تزر وازرةٌ وِزرَ أخرى” [الأنعام 164]؛ لأنَّ مِن الوِزْرِ المتعلقِ بالمرء أن يدعو غيرَه – بالقول أو بالفعل والسلوك- إلى الضلال, ومِن ثم, يكون على هذا المرءِ مِن الإثم بقَدْرِ إثمِ مَن استجابَ لدعوته القولية أو الفعلية والسلوكية تلك, مثلما أنَّ له مِن الأجر بقدر أجرِ مَن استجابَ لدعوته إلى الخير؛ لانَّ الدالَّ على الخيرِ كفاعِلِه لأنه سببٌ فيه, وكذلك الدالّ على الشر.

[31] والضلالةُ التي هي مُقابِلةٌ ومُضادَّةٌ للهُدى تَشمل ضِمْنَ ما تشمل :

– “عصيانَ اللهِ ورسولِه”, تدبر قولَه تعالى : “ومَن يعصِ اللهَ ورسولَه فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً” [الأحزاب 36].

– و”الافتراءَ على الله”, تدبر قولَه تعالى : “وحَرَّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله؛ قد ضلوا وما كانوا مهتدين” [الأنعام 140].

[32] مِن المبالَغَة؛ أي بالَغَ فيها – ههنا- بالإنذار والتخويف والتذكير بالله تعالى؛ بقرينة أنها قد “وَجِلَت منها القلوب”.

[33] أي خَافَت وخشعت وخضعت.

[34] أخرجه أحمد – في مسند الشاميين مِن مسنده- وأبو داوود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42), وصححه الألباني. وعلى اعتبارِ صحةِ ثبوتِهِ : بَنَيْتُ تحليلي لهذا الحديث, وإلا فإني لم أنشط للتوسع في تخريجه ودراسته وتبين ثبوتِهِ أو ضعفه، سنداً ومتناً، مبنىً ومعنىً.

[35] المقصود بالسمع والطاعة في هذا الحديث : الالتزامُ بالنظام العام الذي أقامه الناس, واحترامُ السلطات والمؤسسات والشرعيات الآتية برغبة الناس, بدليل “وإن كان عبداً حبشياً”؛ فالتوصيةُ ههنا تستهدف التأكيد على أهمية عدم “التمرد” على النظام العام, ذلك التمردُ الشائعُ أيامَها بين القبائلِ العربية عامةً, والبدوِ خاصةً (وهي إحدى سنن الاجتماع الجاهلي والصحراوي), فأراد (ص) أن يكبح جِماحَ هذا “الشرود” غير الحضاري ولا المدني ولا المؤسسي ولا النظامي؛ لِيَحفَظَ كيان السلطات الشرعية ويحميها ويحمي أهلها من التفتت والتشرذم والصراع, خاصةً بعد أن وضع لبناتها النورانية في المدينة المنورة.

[36] أي سُنَّة النبي والخلفاء في إدارة الأمور, بتحري ما يُرضي اللهَ, ويُشيعُ العدلَ, وبالتزام الشورى .. إلخ, ولذلك وَصَفَ النبيُّ الخلفاءَ – الذين أوصانا بِسُنَّتِهِم (أي طريقَتِهِم) تَمَسُّكاً وعَضَّاً- بـ “الراشدين المهديين”, فهو (أولاً) اشتراطٌ للرشد والهُدى, وهو (ثانياً) قرينةٌ أخرى – مع القرينة الواردة في الهامش السابق- على أن السنة في حق النبي والخلفاء ههنا مقصودٌ بها ما بَيَّنَّاهُ.

فليس الحديثُ, كما يشيع البعض, يُوجِبُ اتباعَ آراءِ واجتهادات الخلفاء الراشدين الأربعة المشهورين؛ لأمورٍ :

* أولُها : ما سبق بيانه قبل أسطر, في هذا الهامش, وفي الهامش الذي قبلَه.

* وثانيها : أنّ توصيةَ النبي (ص) التمسكَ بسنتهم إنما هو مِن قِبَلِ كونِهم الحُكَّامَ وأولياءَ الأمور (كما يدل عليه السياق الذي وضحناه في شرحنا في الهامش السابق- وكما يدل عليه الترتيب والتعقيب الذي يفيده حرفُ “الفاء” في قوله (ص) : “فعليكم”) .. فقولُ أولياء الأمور (إن كانوا راشدين مهديين, وإن كانت أقوالهم وأمورهم راشدةً مهديةً) واجبُ الطاعة على الناس (بِحُكم تخويلِ الناس إياهم حقَّ الفصل فيها)؛ إذ حُكم الحاكِمِ يَرفع الخلاف.

وليس في هذا أنَّ قولَ الواحد منهم, أو قولَ جماعتهم, في مسألة اجتهاديةٍ, يُعتَبَرُ حُجَّةً في الدين على عباد الله, ولا شيءَ أبلغُ دلالةً على ذلك – بالإضافة إلى ما سبق- مِن وقوعِ الاختلاف بين الراشدين الأربعة أنفسهم؛ فليس كلُّ ما قضى به أبو بكر قضى به عمر, ولا كلُّ ما قضى به عمر جَرى عليه عثمان أو علي, ولا كل ما قضى به عمر ثبت عليه طيلةَ حياته .. كما أنه ليس كلُّ ما اجتهدوا فيه أو أفتوا به وافَقَهم عليه ابن مسعود أو ابن عباس أو ابن عمر, سواءٌ في حياة النبي (ص) أو بعد مماته (ولم نر إنكاراً من الراشدين الأربعة, ولا مِن غيرِهِم, على مَن اختلف معهم؛ لمجرد أنَّ رأيَه قد غايَر رأيَهم. وهذا يؤكد أنهم أنفُسَهم لم يعتقدوا في أعيانِهِم ما يشيعه البعض من فهمٍ مغلوطٍ – عندنا- لهذا الحديث).

ولو كان حديثُ الرسول (ص) هذا يعني أنَّ أقوالهم الاجتهادية دِينٌ للأمة مِن بعدِهم :

– لكان هذا مِن نسبة التناقُضِ في الدين (لوقوع الاختلاف بينهم في أعيان كثير من المسائل, ولعدم إنكارهم على مَن اختلف معهم لمجرد ذلك).

– ولأرشدَ إلى ذلك رسولُ الله (ص) بصريح العبارة ولأكَّدَ عليه وكَرَّرَه تكراراً (أليس يُزعَمُ أنه من صميم الدين ؟! وما كان كذلك حقاً, وَجَبت فيه الصراحة الصريحة, والتأكيد, والتكرار), وهيهات !

– ولكان إلباساً للاجتهادات البشرية – مهما عَظُمَت أقدارُ أصحابِها- ثوبَ الكهنوت.

وثلاثَتُها أمورٌ معلومةُ البطلان, فَوَجبَ أن يُحمَلَ الحديثُ على أحسن محامِلِه, لا على أسوئها.

* وثالثها : أنَّ المراد بالحديث – فوقَ وجوبِ حفظِ النظام العام, وقبولِ أحكام الحُكَّام ومنعِ نقضها, ما خَلَت من معصية- أمرُ النبي (ص) الأمةَ أن تنتهج نهج هؤلاء الراشدين المهديين في العدل والإنصاف والشورى والتعمير والتنمية والتقوى والإخلاص والإعراض عن مفاتن الحياة الدنيا (.. إلخ), وأن تتبع “منهجهم العام” الذي هو “العملُ بالإسلامِ” و”العملُ له”, وأن تَسلُكَ السبيل التي أَمَرَ اللهُ بها – فَسَلكوها- في إعمالِ الاجتهاد والتجديد لا التقليد والجمود, والتحري والمشاورة والمحاورة لا التسرع والمنابذة والمكاشرة (.. إلخ). فالحديث توصيةٌ بالاسترشاد بالنماذج المتميزة من الأمة.

وبعبارة أخرى : الأمرُ باتباعهم إنما هو أمرٌ باتباعهم في اقتدائهم بأوامر الله وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم).

ويزدادُ هذا وضوحاً ونصاعةً إذا استحضرتَ أنَّ مِن أعظم سَنَن هؤلاء الأربعة (رضوان الله عليهم) : ألا يقلدوا أحداً, وأنْ لا يقلد بعضهُم بعضاً, وأن يطلبوا سُنة الرسول (ص) حيث وجدوها أو تبينوها فينصرفوا إليها ويعملوا بها.

* ورابعها : مِن أين أتى حصرُ وصفِ “الخلفاء الراشدين المهديين” في الأربعة رضوان الله عليهم ؟! .. هذا أثرٌ مِن آثار دراسة التاريخ, وما ينبغي له أن يُخَصِّصَ عمومَ النص, فالخلفاء الراشدون المهديون هم كلُّ الخلفاء الذي اهتدوا – إجمالاً- بهدي الوحي وساروا – إجمالاً- سيرة العدل والإنصاف (وعلى رأسهم الأربعةُ رضوانُ الله عليهم، في مجمل أمرهم) .. صحيحٌ أنها تسميةٌ شاعت وذاعت عن الأربعة (رض), ولا مُشاحَّةَ فيها, ولكنها لا ينبغي أن تُخَصِّصَ عمومَ النص.

[37] هذه غايات يستلزمها ويقتضيها ويستبطنها قوله (ص) : “السمع والطاعة [الراشِدَيْن] .. عبد حبشي .. اختلاف كثير .. الخلفاء الراشدون المهديون”؛ فهو (ص) هنا يُحَذر من تغير الظروف وتبدل الأحوال إلى الأسوأ, ويحذر مِن استحكام الخلافات والصراعات على السلطة وظهور الفِتَن.

[38] أخرجه البخاري (1870, 3179, 7300, وانظر 111) ومسلم (1370) وأبو داوود (4530).

[39] ومِن هنا جاءت تسميةُ الفقهاء لخروجِ البول والغائط والريح بـ “الحَدَث الأصغر”, ولخروج ماء الحياة بـ “الحدث الأكبر”؛ إذ ليس المعتادُ ولا الجاري ولا المُتوقع مِن المرء أن يُخرِجَ أياً مِن هذه الأشياء طيلةَ الوقت, ولا أغلبَ الوقت أبداً, إلا لِمَرضٍ ونَحوِه.

[40] أخرجه البخاري (6584, 7051) ومسلم (2291).

[41] إنَّ المبتدعَ الذي يَنسِب للدين ما ليس منه، أو يُنقِصُ منه ما هو منه : يضع نفسَه في مقام الله المُشَرِّعِ للناس، وهذا من أسوأ أنواع “الاستعباد” (استعبادِ المبتدعِ للناس)، ومن اسوأ أنواع “التأله” و”التكبر” و”الغرور” .. وهذا كله – بعينه- من أهم أسرار/ حِكَم/ مقاصد ذمِّ هذا الابتداع وتحريمه.

[42] وكما هو واضحٌ, فإنَّ هذا التغيير التشويهيَّ اغتصابٌ لمنصبِ الشارع واستدراكٌ عليه, وهذا إذا كان مقصوداً بذاته فهو كُفرٌ بواحٌ, وإلا فإنه باطلٌ مردودٌ على صاحبه.

[43] أي الذي ليس باطنياً خفياً.

[44] أي الذي لا يحتمل اللبس ولا التأويل.

[45] المقصودُ بالقبول ههنا – نحن نكرر ونؤكد- أنه ليس معصيةً, أما كونه صواباً أو خطأ, فهذا مما تختلف في الأنظار, وهو محل الاجتهاد تصويباً وتخطئةً, بلا تكفير ولا تبديع ولا تفسيق ولا تضليل.

[46] وقد سبق الحديث التفصيلي عن هذا ضمن مبحث سابق.

[47] انظر بيانَها التأصيلي التفصيلي في الملحق الوارد بآخِر كتابنا : الحرية الفكرية والدينية.

[48] انظر وقارن بـ : المختار من كنوز السنة النبوية – شرح أربعين حديثاً في أصول الدين, د. محمد عبد الله دراز, (ص 276- 277), ط 3, 2011م, دار القلم – القاهرة. والتعامل مع المبتدع بين رد بدعته ومراعاة حقوق إسلامه, د. حاتم عارف العوني, (ص 10- 11, 17), ط 1, 2008م, دار الصميعي – الرياض. وقضية التكفير في الفكر الإسلامي, د. محمد المسير, (ص 59), ط 1, 1996م, دار الطباعة المحمدية – الأزهر. ودستور الوَحدة الثقافية بين المسلمين, محمد الغزالي, (ص 170), ط 1, 1997م, دار الشروق – القاهرة.

[49] ثابتٌ معلومٌ الإعذارُ بالجهل، وهذا المتأوِّلُ أَوْلَى مِن الجاهل بالإعذار؛ لأنه قد اجتمع في حقه جهلان : (جهلٌ) بالحُكم الشرعي الثابت المقرر الذي خالَفَه بتأويله اجتهاداً، و(جهلٌ) بأنه جاهلٌ ومخطئ في موقفه هذا؛ فهو (لا يَعلَم)، و(لا يعلم أنه لا يعلم).

[50] أخرجه البخاري (7614) ومسلم (1499, 2760).

[51] نفس الحديث السابق.

[52] انظر وقارن بـ : نفس المراجع المذكورة قبلَ قليلٍ في هامشٍ سابق.

[53] أخرجه البخاري (6066) ومسلم (2563).

[54] أخرجه البخاري (2442, 6951) ومسلم (2580).

[55] أخرجه مسلم (2564) وأبو داوود (4882) والترمذي (1927).

[56] أخرجه البخاري (6077, 6237) ومسلم (2560).

[57] نعم, مَن تلبَّس بإفسادٍ دُفع إفسادُه؛ لدفع ضرر هذا الإفساد, مع بقاء حقوقه واجبةً علينا لا تَسقُطُ بذلك. كُن من هذا التعليق على ذِكرٍ واربطه بما سيأتي في هامش قريب.

[58] لاحظ أنه اعتَذَر مِن ما صنعوا, ولم يعتذر مِنهم هم أنفسهم. وهذا مِن حُسن فقهه الذي سيأتي بيانُ أصلِهِ ومنبعِه في المتن والهامش.

[59] لاحظ أنه تبرأ مِن ما صنعوا, ولم يتبرأ منهم هم أنفسهم.

[60] أخرجه البخاري (2805, 4048) ومسلم (1903).

[61] أخرجه البخاري (4339, 7189).

[62] تدبر قوله تعالى : “فإن عَصَوْكَ فقل : إني بريء مما تعملون” [الشعراء 216], “إنني بريء مما تشركون” [الأنعام 19], “إني بريء مما تشركون” [الأنعام 78], “وأنا بريء مما تعملون” [يونس 41], “وأنا بريء مما تجرمون” [هود 35], “واشهدوا أني بريء مما تشركون” [هود 54], “إني لِعَملكم مِن القالين” [الشعراء 168] .. وإذا كان هذا في حق المشركين, فما بالُك بإخوانك من المسلمين ؟!

* وبخلاف هذا, فإنَّ تَبَرُّؤ الأشخاصِ بعضِهم مِن بعضٍ, لم يقع في كتاب الله المجيد إلا حكايةً عما يقوله الكفارٌ والمشركونُ بعضُهم لبعضٍ يومَ القيامة, أو عمَّا يقوله الشيطانُ لِمَن تَبِعَه .. تدبر قوله تعالى : “إذ تبرأ الذين اتُّبِعو مِن الذين اتَّبعوا .. وقال الذين اتَّبعوا : لو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا” [البقرة 166, 167], “كَمَثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر, فلما كفر قال إني بريء منك” [الحشر 16], “وإذ زَيَّن لهم الشيطان أعمالَهم .. فلما تراءت الفئتان, نكص على عقبيه, وقال : إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون” [الأنفال 48].

* وأما قولُهُ تعالى : “أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُهُ” [التوبة 3] فهو براءة من المشركين الخونة المُعتَدين الناكثين للعهود والمواثيق, وليس مِن مطلق المشركين الأحياء, بدليل قوله تعالى : “لا يَرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة, وأؤلئك هم المعتدون .. ألاَ تقاتلون قوماً نَكَثوا أيمانهم وهَموا بإخراج الرسول, وهم بدأوكم أولَ مرةٍ” [التوبة 10, 13], وبدليل قوله تعالى : “إلاَّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام, فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم” [التوبة 7].

* وأما قوله تعالى : “فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه” [التوبة 114] فهو مِن نَفْس بابة الآية السابقة, إذ هو براءةٌ مِن الكافر العدو لله (والآية صريحةٌ في إناطة البراءة بالعداوة, كما هو الحالُ الذي مَرَّ ذِكرُهُ مع المشركين المعتدين الناكثين الخونة), وليس كلُّ كافرٍ عدواً لله, فهناك كفار أعداء وكفارٌ غيرُ أعداء, وكفارٌ مُعتدون وكفارٌ مسالمون, وكفارٌ مستقيمون في المعاملة وكفارٌ غيرُ مستقيمين (تدبر : “فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم” [التوبة 7]), وكفارٌ مُؤتَمَنون وكفارٌ غيرُ مؤتَمَنِين (تدبر : “ومِن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يؤده إليك, ومنهم مَن إنْ تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دُمتَ عليه قائماً” [آل عمران 75]) .. إلخ. فليس هناك “ارتباطٌ ميكانيكي” بين “الكفر” من جهة, و”العداوة لله, أو مطلق العداوة, أو مطلق سوء الخُلُق” مِن جهة أخرى.

[63] أخرجه البخاري (13) ومسلم (45).

[64] أخرجه البخاري (6777) وأبو داوود (4477).

[65] لاحظ أنه رجلٌ “تخصص” في إضحاك رسولِ الله (ص) وإدخال البهجة والسرور عليه, ووصفه (ص) بأنه رجل “يحبُّ اللهَ ورسوله” .. وتأمل, ما شاء لك التأملُ, في الصلة الجميلة بين “حُب الله ورسوله” و”الضحك والبهجة والسرور”.

ما أحوجنا إلى فقه هذه المواقف النبوية الجليلة تنظيراً وتنزيلاً, بدل جَوِّ الكآبة والقتامة والتجهم الذي يَحرصُ البعضُ عليه حِرصَه على الصلوات الخمس ! إنَّ الابتسامةَ لا تنقض الوضوء، والرفقَ لا يسبب الفسوق !

[66] أخرجه البخاري (6780).

[67] لاشكَّ أن البدعةَ : خبيثةٌ من الخبائث. ولا شك أن الخمرَ – كما سماها رسولُ الله- هي أم الخبائث. وعليه فإنَّ خُبثَ جِنس البِدعة (ما لم تَكُن مُكَفِّرةً تُناقِضُ الشهادتين) أقلُّ درجةً من خُبث جنس الخمر (ما لم يَكُن مُعاقِرُها مُستحلاً إياها بلا تأويلٍ ولا شبهة).

ويُعَضِّدُ هذا :

– أنَّ الخمرَ تَخرِم مقاصد رعاية العقل والنفس والمال والتدين, بينما البدعة تخرم مقصد رعاية التدين.

– وأنَّ البدعةَ بِخَرْمِها مقصدِ رعايةِ التدين لا تُفَوِّت – بذاتها- إمكانَ استدراك خرم هذا المقصد (لانحفاظ العقل الذي به يُمكن استدراكً هذا الانخرام؛ بالمناقشة والمحاورة وإقامة الحُجَّة وإزالة الشبهة), بينما الخمر تُفَوِّتُ – بذاتها- إمكانَ استدراك انخرامِ مقصد التدين (لضياع العقل الذي هو السبيل والأداة للقيام بمقصد رعاية التدين).

[68] تأمل تعليقنا عن التلبس بالإفساد السابق وروده قبل قليل في الهوامش, واربطه بما في المتن ههنا.

[69] هم مخطئون مِن وجهة نظري في مسائل, أرى أنَّ لهم بها أجراً واحداً هو أجرُ الاجتهاد, مسائلِ : الوصيةِ في الإمامة, ومصدريةِ سيرة وأقوال الأئمة الإثني عشر تشريعياً, وعصمتِهم, وزواجِ المتعة, ومتعلقاتِ هذه الموضوعات وأشباهها.

واعلم, ما دام الكلامُ يَجُرُّ بعضُهُ بعضاً, أنَّ تخطئة المذهب الإمامي الجعفري كله, كلامياً وفقهياً, موقف طفولي لا شكَّ فيه, فإن من طبائع الأشياء – التي لا يُدركها الأطفالُ إلا حينَ الرُّشد- ألا يخلو مذهب فكري مِن صواب أو خطأ. وفي الفم حديثٌ كثير, ولكنَّ اللبيبَ يكفيه القليل.

التعليقات

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    هل يجوز الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهل هو بدعة ام لا .
    مع التوضيح جزاكم الله خيرا .

    • وعليكم السلام ورحمة الله

      القرآن الكريم هو مصدر الأحكام الذي ينبغي أن يحتكم إليه المسلم في معرفة الحلال والحرام، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة، 49-50)

      لا يوجد في القرآن ما يدلُّ على صحة الاحتفال بالمولد النبوي، ولا يوجد في سنة النبي ما يدلُّ عليه أيضا، ولم يحتفل به الصحابة ولا التابعون ولا تابعوهم.

      أول من احتفل به الفاطميون في مصر الذين عُرف عنهم الابتداع في الدين وبعدُهم عن أصوله، وقد كان ذلك تقليدا لاحتفال النصارى بمولد المسيح عليه السلام.

      يجادل البعض بالقول إن الاحتفال بالمولد النَّبوي هو من العادات لا من العبادات، والابتداع في العادات لا إشكال فيه.

      وهذا توجيه غير دقيق لأنَّ الاحتفال بالمولد النَّبوي فيه معنى العبادة وإن لم يكن عبادة في صورته، وهو يشبه الأعياد، ومعلوم أن الأعياد في الإسلام مقتصرة على ما شُرع للأمة بكتاب ربها، وهما عيدان الفطر والأضحى

      وهناك من يقول إن الاحتفال بمولد النبي هو تعبير عن محبتنا له وتقدير لجهده في تبليغ الرسالة.

      وهذا مردود أيضا لأنَّ محبة النبي تظهر في اتباع منهجه والتَّمسُّك بالكتاب الذي أُرسل به، يقول الله تعالى مخاطبا نبيه:
      قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران، 32)

      واتباع النَّبي يكمن في اتباع القرآن والعمل بمقتضاه لأنه _عليه الصلاة والسلام_ مأمور باتباعه أصلا، فقد أمره ربه بذلك بقوله سبحانه:
      {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام، 106)

      ثم أمره أن يُخبر الناس بهذه الحقيقة؛ حتى لا يبقى للناس على الله حجة:

      {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (المائدة، 204)

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.