حبل الله
الكهنوت (الثيوقراطيَّة) عند المسلمين

الكهنوت (الثيوقراطيَّة) عند المسلمين

الكهنوت (الثيوقراطيَّة) عند المسلمين

أ.د عبد العزيز بايندر

يُروى عن نبيِّنا صلَّى الله عليه القولُ التَّالي:

“لَتَتَبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قبلكم شِبراً بشبرٍ وذِراعاً بذراع حتَّى لو سلكوا جُحْرَ ضبٍّ لسلكتموه. قُلنا يا رسولَ الله اليهود والنَّصارى ؟ قال :فَمَنْ؟”[1]

وكما سترى بعد قليل فإنَّ الابتعادَ عن القرآن واتباعَ كلامٍ مُفترى على الله ورسوله بدلاً منه جسَّدَ قولَ النَّبيِّ باتباع أهل الكتاب شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ كما ورد في الحديث السَّابق.

والنَّبيُّ في حديثه السَّابق لا يرجم بالغيب بل قاله على ضوء قوله تعالى {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (الفرقان، 31) وفي الآية إشارةٌ أنَّه سيكون بعد خاتم النَّبيين مجرمون يُحرِّفون كلامَه وهديه كما فعل المجرمون من أعداء الأنبياء السَّابقين.

وليس بعيداً من وفاة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى بدأتْ مؤشِّراتُ ترك الكتاب والاحتكام إلى غيره تلوح في الأفق، تارةً تحت تأثير الاختلاف السِّياسي الذي تطوَّرَ إلى صراعٍ دامٍ أدَّى لانقسام المسلمين دينيَّاً فظهرتْ الفرق التي كان قُطباها الشِّيعة وأهل السُّنَّة، وتارةً اتباعاً لهوى النَّفس والتجارة في الدِّين. ومن خلال ذلك الركام الكثيف ظهرت النَّزعةُ الثيوقراطيَّة (الكهنوت) لتتقررَّ قاعدةً في الحُكم عند الشِّيعة وبدرجاتٍ متفاوتةٍ عند مذاهب أهل السُّنَّة.

أ_ الثيوقراطيَّة عند الشِّيعة

“إنَّ الإمامةَ لا تكون إلَّا بالنصَّ من الله تعالى على لسان النَّبيِّ أو لسان الإمام الذي قبله. وليست هي بالاختيار والانتخاب من النَّاس، فليس لهم إذا شاءوا أن يُنصِّبوا أحداً نصَّبوه، وإذا شاءوا أن يُعيِّنوا إماماً لهم عيَّنوه”[2].

“إنَّ الإمامَ كالنَّبيِّ يجب أن يكون معصوماً من جميع الرَّذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سنِّ الطُّفولة إلى الموت، عمداً وسهواً كما يجب أن يكون معصوماً من السَّهو والخطأ والنِّسيان، لأنَّ الأئمَّة حفظةُ الشَّرع والقوَّامين عليه، حالُهم في ذلك حالُ النَّبيِّ، والدَّليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمَّة، بلا فرق”[3].

أما عقيدة الشيعة في طاعة الإمام فهي كالتالي:

“أنّ أمرَهم أمرُ الله تعالى، ونهيَهم نهيُه، وطاعتَهم طاعتُه، ومعصيتَهم معصيتُه، ووليَّهم وليُّه، وعدوَّهم عدوُّه، ولا يجوز الردُّ عليهم، والرادُّ عليهم كالرادِّ على الرَّسول والرادُّ على الرسول كالرادِّ على الله تعالى. فيجب التسليم لهم والإنقيادُ لأمرهم والأخذُ بقولهم”[4].

ومَنْ يُحقِّقُ في دعاوى الشِّيعة في هذا الصَّدد فلنْ يجدَ آيةً ولا حديثاً يُعتمدُ عليه في إسناد دعواهم، بل إنَّ قولَهم هذا مُنافٍ للمنطق ومُخالِفٌ للفِطرة.

وقد أصبح المذهبُ الشِّيعيُّ الإماميُّ يُدافع عن ما يُشبه النظامَ الثيوقراطيَّ استناداً لما رُوي عن كبار علمائهم، تماماً كما أُسِّس النظام اليثوقراطيُّ في المسيحيَّة استناداً على رسائل بولس وبطرس. صحيحٌ أنّ الشِّيعةَ لم يقولوا أنَّ أقوالَ أئمَّتهم ومجتهديهم هي كلامُ الله، ولكنَّ أكثرَهم يعتبرونها مثلَ كلام الله تعالى من حيث وجوبُ الأخذ بها، كما يظهر في العبارات التالية: المُجتهد الذي توفَّرتْ فيه شروطُ الاجتهاد، هو نائبُ الإمام عليه السَّلام في فترة الغيبة (أي غياب الإمام)؛ وهو حاكمٌ ورئيسٌ على الإطلاق، يملك صلاحيَّةَ الإمام في القضاء والحُكم على النَّاس. ورفضُ حكمه هو رفضُ حكم الإمام. ورفضُ حكمه هو رفضُ حكم الله تعالى. وهو شركٌ بالله على ما روي عن صادقي آل مُحمَّد.[5] والمقصود بصادقي آل مُحمَّد، هم الرِّجالُ الصَّادقون من نَسَبِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ من جهة ابنته فاطمة رضي الله عنها (أي الأئمَّة)، وأقوالُ الأئمَّة عند الشِّيعة كأقوالِ بولس وبطرس في المسيحيَّة.

ب_ الثيوقراطيَّة عند أهل السُّنَّة

ولم نعدمْ مثالاً على الكهنوت عند أهل السُّنَّة، فقد وُجدت الآراءُ التي تمنح الحُكَّامَ مقاماً دينيَّاً، وقد نجحوا في الافتراء على رسول الله بالقول التَّالي:

«مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ»[6]

ولجعل هذه الادَّعاءِ وأمثاله ممكنَ القَبول كان لا بدَّ من الخلط في معنى مُصطلحي النَّبيِّ والرَّسول، لأنَّ الرَّسول يعني الشَّخصَ الذي يُبلِّغُ كلامَ الله تعالى دون زيادةٍ أو نقصانٍ، فإنْ أضافَ أو أنقصَ من كلام الله تعالى فإنَّ مهمته كرسولٍ تكون قد انتهتْ كما يفيده قولُه تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة، 44_ 47)، لذلك اعتبرَ القُرآنُ طاعةَ الرَّسول طاعةً لله تعالى، لأنَّه لا يمكننا الوصولُ إلى كلام الله إلَّا عن طريق الرَّسول.

النَّبيُّ أثناء تبليغه لكلام الله الى النَّاس يكون رسولاً، لكنَّه خارج تلك المهمَّة يبقى يحمل صفة النَّبيِّ دون صفة الرَّسول، وقد جاء الخطابُ فيما يتعلَّق بأحواله الشَّخصيَّة والأُسَريَّة بصفة النُّبوَّة. لذا فأقوالُه خارج إطار التلبيغ وتطبيقاته وأعماله عرضةٌ لوقوعه في الخطأ، لهذا لا وجودَ في القرآن لآيةٍ واحدةٍ تدعو إلى طاعة النَّبيِّ بالمُطلق، بل بالمعروف.

والذين أرادوا أن يجعلوا من التطبيقات والكلام المنسوب للنَّبيِّ مُساوياً للقرآن الكريم قالوا بأنَّ الرَّسولَ هو مَنْ أُرسِل بشريعةٍ وكتابٍ جديدين بينما النَّبيُّ مَنْ أُرسِلَ بشريعةِ وكتابِ نبيٍّ قبلَه.

وقد جعلوا للنَّبيِّ الوظيفةَ المناطة بالرَّسول أصلاً، بينما أعطوا كلامَ النَّبيِّ وتطبيقاتِه صفةَ ما يتلقَّاه الرَّسولُ من الوحي، والقصد مساواة كلام النَّبيِّ وتطبيقاته بكلام الله تعالى الموحى به. وبغير ذلك الخلط بين مُصطلحي النَّبيِّ والرَّسول لا يمكنُهم الاعتمادُ على الآيات التي تدعوا الى الطَّاعة المُطلقة للرَّسول، فكان لا بُدَّ من إسقاط معنى الرَّسول على النَّبيِّ. فقد أخذَ الإمامُ الشَّافعيُّ بالآيات التي تدعو الى طاعة الرَّسول كدليلٍ على وجوب طاعة النَّبيِّ فيما يقوله ويفعله كما يلي:

“وسنةُ رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله”[7]

“وهي وحيٌ من الله تعالى مثل القرآن الكريم؛ ولا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال”[8]

“ولو قلنا أنَّ السُّنَّة تُنسخ بالقرآن لكان يمكن القول بأنَّ حدَّ الرَّجم منسوخاً بقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (النُّور، 2) “[9]

ولكنْ مَنْ يقفُ مليَّاً على الآيتين 15 و 16 من سورة النِّساء يرى بأنَّهما قد نَسَخَتا ما ورد في التَّوراة من حكم الرَّجم والذي تُفيد الروايات أنَّ النَّبيَّ قد طبَّقَه في بداية عهده في المدينة[10]

قال اللهُ تعالى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء، 15_16)

وفي نظر القائلين بالرَّجم عقوبةً على الزاني المُحصن فإنَّ الآيتين السَّابقتين قد نُسختا بما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه:

قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ” خُذوا عنِّي. خذوا عنِّي قد جعلَ اللهُ لهُنَّ سبيلاً البِكر بالبكر جلدُ مائة ونفيُ سنة، والثيِّبُ بالثيِّب جلدُ مائةٍ والرَّجم “[11]

يقول الإمامُ الشَّافعيُّ:

“ثم نَسَخ الله الحبسَ والأذى في كتابه، فقال: ” الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) ” [النور] .

فدلّتْ سنةُ رسول الله أنَّ جَلْدَ المائة ثابتٌ على البِكْرين الحُرَّيْن، ومنسوخٌ عن الثَّيِّبَيْنِ، وأن الرجْمَ ثابِت على الثَّيِّبَيْنِ الحُريْن”[12].

كما رأيتم فبعد قول الشافعي أنَّ السُّنَّةَ لا تَنسخُ القرآن جَعَلَ من حديثٍ واحدٍ ناسخاً لثلاث آياتٍ من القرآن. والمؤسف حقَّاً أنَّ المسلمين اليوم بمذاهبهم المختلفة يقبلون نسخَ القرآن بما نُسب إلى النَّبيِّ من الأقول والأفعال، حتى تطوَّرَ لاحقاً إلى القول صراحةً بأنَّ (السُّنَّةَ قاضيةٌ على الكتاب)[13]

ومقصودهم في الاعتماد على السُّنَّة وإعطائها سويَّة القرآن الوصولُ إلى “وجوب طاعة وليِّ الأمر من الحُكَّام واعتبارُ ذلك من التزام الشَّريعة والبُعد عن الجريمة”[14] “ومَنْ يوجِّه إليه السُّلطانُ تهمةَ الفساد ومن ثم توجيه الأمر بقتله يُعدُّ هذا مشروعاً”[15]

فالفساد هو التصرُّفُ خلافاً للمعهود[16] وفي هذا الحال يمكن لرئيس الدَّولة أو كبار موظفيه أن يُقرِّروا قتلَ مَنْ لا يُعجبهم تصرُّفُه حتَّى دون الاعتماد على قرار المحكمة.

وإنَّ تقديسَ الحُكَّام واعتبارَ أمرهم هو أمرُ الله تعالى ونهيِهم نهيُه قد فَتَحَ البابَ مُشرعاً أمام انتهاك حُرُمات الله تعالى بهذا الطَّريق ، فعلى سبيل المثال، تمَّ تأسيسُ الأوقاف التي تُعطي القروض بالرِّبا وقد حُدِّدتْ النِّسبةُ المئويَّة للرِّبا بحسب قرار السُّلطات، وكان مَنْ يُضبَطُ مُخالِفاً لما حدَّدتْه السُّلطاتُ يُعرَّضُ للعقوبة.

يقول عمر نصوحي بيلمان:

إذا أصدرَ السُّلطانُ قانوناً يُحدِّدُ به نسبة الرِّبا بـ 15% فلا يجوز تجاوزُ هذه النسبة، ومَنْ يتجاوزْ فإنَّ من حقِّ السُّلطان منعُه وإيقاعُ الجزاء عليه[17].

للمزيد حول الموضع ننصح بقراءة مقالة أ.د عبد العزيز بايندر المعنونة بـ (مقام الخليفة والكهنوت) على الرابط التالي:

http://www.hablullah.com/?p=2657



[1]  البخاري، كتاب الاعتصام بالسنة، 14

[2]  العقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، ص 65

[3]  العقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، ص 65

[4]  العقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، ص. 65

[5] إعتقاد الشيعة، ص. 24.

[6]  صحيح البخاري، باب يقاتل من وراء الامام ويتقى به، 2957

[7]  أنظر: الرسالة الشافعي، 1 / 79.

[8]  الرسالة الشافعي، 1 / 104-105.

[9]  انظر الرسالة باب ابتاء الناسخ والمنسوخ 1/110

[10]  يقول الامام الشافعي: وفي قوله: ” مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي (15) ” [يونس] ، بيانُ ما وصفتُ، مِن أنه لا يَنْسخ كتابَ الله إلا كتابُه، كما كان المُبْتدىءَ لفرضه، فهو المُزيلُ المثبت لِما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه. انظر الرسالة، 1/106

[11]  أخرجه أحمد (22666) الدارمي (2328) ، ومسلم (1690) (12) ، وأبو داود (4416) ، والترمذي (1434) ، والنسائي في “الكبرى” (7144)

[12]  انظر الرسالة  1/128

[13]  انظر كتاب وجوب العمل بالسنة وكفر من أنكرها ، عبد العزيز بن باز، 1420 هـ ، 1/24-25

[14]  انظر فتاوى الانقراوي لشيخ الاسلام محمد بن الحسين  1/368  Şeyhülislam Muhammed b. Hüseyin, Fetava’l-Ankaravi, 1/368. M. Amire, 1281.

[15]  عمر نصوحي بيلمان، قاموس الاصطلاحات الحقوقية والفقهية، 3/309 الفقرة 15

[16]  المفردات للراغب الاصفهاني، مادة فساد

[17]  انظر عمر نصوحي بيلمان، قاموس الاصطلاحات الحقوقية والفقهية، 3/313 الفقرة 858

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.