حبل الله
مصطلح الفِتْنة في القرآن الكريم

مصطلح الفِتْنة في القرآن الكريم

مصطلح الفِتْنة في القرآن الكريم

أ.د عبد العزيز بايندر

ذُكِرَتْ كلمةُ الفِتْنة ومُشتقَّاتُها في القرآن الكريم 60 مَرَّةٍ[1] بمعانٍ مُتعدِّدة، حيثُ ميَّزَ كلَّ مُفردةٍ منها السِّياقُ الذي وردت فيه. ومن هذه المعاني: الإحراقُ بالنَّار والاختبارُ والتغْشيةُ والحربُ والسِّحر. وفي مقالتنا هذه سنقفُ على كُلِّ واحدةٍ منها بشيءٍ من التَّفصيل:

  1.  الإحراقُ بالنَّار:

قال الخليل : الفَتْن : إِحراقُ الشَّيءِ بالنَّار كالورق الفتين أي المُحتَرِق كما في قوله تعالى: (يَوْمَ هُم على النَّارِ يُفتنونَ) أي يُحرَقون[2]. وإحراقُ الشَّيءِ بالنَّار قد يكون لتخليص الرَّديء من الجيِّد كإذابة الذَّهب وهو الاختبارُ وقد يكونُ لتغطية الرَّديء فيه وهو التَّغشيةُ كما يفعله بعضُ الصَّائغين، ولهذين المعنيين سُمِّيَ الصَّائغُ فَتَّاناً، وكذلك الشَّيطان لأنَّه يَفتنُ النَّاس بِخداعِه وغروره وتَزْيينه المعاصي[3].

وقولُه تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (الذَّاريات، 13 _ 14) يُشيرُ إلى أنَّ إحراقَهم بالنَّار كان جزاءَ فتنتِهم، حيثُ قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (القَصَص، 84) فثَبَتَ أنَّ فتنتَهم في الدُّنيا هي كالفِتنة التي سيُواجَهون بها في الآخرة، وقد وَصَفَ اللهُ تعالى فتنتَهم في قوله: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ. قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ. يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ. يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (الذَّاريات، 9 – 14).

  1.  الاختبار:

إِنَّ الابتلاءَ والاختبارَ والامتحانَ فِتنةٌ كما نقرأُ في قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فتنتُكَ (أي: ابتلاؤُك) تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} (الأعراف، 155).

وقد يكونُ الابتلاءُ بالخير أو بالشَّرِّ كما يظهرُ من قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فتنةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء، 35).

أ‌.       الفِتْنة بالخير:

الفِتْنةُ بالخير تكون باختبار الإنسان في شُكر النِّعَم والتزامِ أمر الله فيها، كما نقرأُ في قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فتنةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال، 28) وفي قوله تعالى: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفتنهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه، 131) وفي قوله تعالى :{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران، 14_ 15).

ب‌.   الفِتْنة بالشَّرِّ:

وأمَّا الفِتنةُ بالشَّرِّ فتكونُ باختبار الصَّبر والاحتساب، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفتنةَ (أي الفرار من الحرب) لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} (الأحزاب، 14) وقد نَجَحَ النَّبيُّ وأصحابُه بامتحان الصَّبر يوم الخندق كما قال سبحانه:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وقد ذَكَرَ سبحانه جزاءَ صبرهم مباشرةً: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران، 173_174) .

  1.  التَّغْشية:

كُلُّ شيءٍ زُيِّنَ ظاهِرُه وأُخْفِيَ باطِنُه للتَّغشية فِتنةٌ[4] وهو التَّلبيس الذي تعمَدُ إليه شياطينُ الإنس والجِن. كما في قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف، 27).

وهو نفسُ معنى الفِتْنة في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفتنةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (آل عمران، 7) أي يتَّبعُ ما وَجَدَ من الكتاب مُتشابِهاً بزيغه ليُخفيَ الحقَّ ويُزيِّنَ به الباطِلَ ويرُدَّ ما وَجَدَ من الآيات المتشابهة إلى المعنى الّذي يُفضِّلُه دونَ مُراد الله تعالى.

رَوَى الطَّبريُّ في تفسيره عن الوفد الَّذي زارَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم من نصارى نجران: “قالوا: ألسْتَ تزعُمُ أنَّه (أي عيسى) كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا!. فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: “فأمَّا الَّذين في قلوبهم زَيْغٌ فيتَّبعون ما تشابَهَ منه ابتغاءَ الفِتْنة”[5].

ومِثلُ هذا نجده في كثيرٍ من الكُتب الموروثة كالفتوى المقبولة عند عموم العُلماء في جواز تزويج الصِّغار حيث استدلُّوا بهاتين الكلمتين من الكتاب “وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ” (الطَّلاق، 4) قال الطَّبريُّ: وكذلك عِددُ اللائي لم يحضن من الجواري لصِغَرٍ إذا طلَّقهُنَّ أزواجُهنَّ بعد الدُّخول[6].

وقد جَعَلوا عِدَّةَ المُطلَّقة التي لا تحيض لعارضٍ كالمرض أو الحُزن تمتدُّ إلى سِنِّ الإياس لتكونَ عِدَّتُها ثلاثةَ أشهُرٍ بَعدَه[7].

والأصلُ أنَّ هذا الجُزءَ من الآية يُشير إلى مُمْتَدَّةِ الطُّهر من النِّساء بسبب المرض وغيره من الأعراض، كما أنَّها تُشير إلى اللَّواتي لا يحِضنَ أصلاً. لكنَّ جَعْلَ الآيةِ دليلاً على صِحَّة زواج الصِّغار أخرَجَ الآيةَ عن معناها وظَهَرَتْ بذلك مُشكِلتان:

الأولى: الحكم بِصحَّة زواج الصِّغار الَّذي نشَأَ عنه ظُلمٌ عظيمٌ للصِّغار وخاصَّةً الفتيات اللَّواتي يُجبَرنَ على الزَّواج دون أن يفهمن كنهه.

الثَّانية: الحُكم بإطالة عِدَّة المُطلَّقة مُمتدَّة الطُّهر حتَّى تدخلَ في سنِّ الإياس لتَعتدَّ بعد ذلك بثلاثة أشهرٍ، وقد تنتظرُ سنواتٍ طويلةً، ولا يخفى ما يلحقُ بالمرأة من العَنَتِ والحِرمان من حقِّها في الزَّواج.

وقد أغفَلَ أصحابُ هذا الرَّأي الآياتِ التي تُبيِّنُ أنَّ النِّكاح لا يجوز إلَّا بعد البلوغ والرُّشد كما ورد في قوله تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النِّساء، 6) وهذا دليلٌ في أنَّ للنِّكاح عهداً لا يجوزُ الزَّواجُ قبل إتمامه، وهو البلوغ. وكون الرُّشد شرطاً فيه جاء بدلالةِ قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النِّساء، 4) لأنَّ الذي لا يجوز تصرُّفُه في ماله لا يصحُّ أن يُعطيَ شيئاً منه لأحدٍ ولا يجوز تبرُّعه بشيءٍ منه.

وكذلك قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ (أي أُحِلَّ لكم نكاحُهنَّ) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة، 5) حيث لا يُوصَف الصَّغيرُ والصَّغيرةُ بالإحصان ولا بالسِّفاح واتِّخاذِ الأخدان. ولكنَّ التَّغشية وتزيينَ الفتوى بكلمتين من آيةٍ واحدةٍ وسترَها بهما أصبحَ فِتنةً في مُجتمع المسلمين. قال تعالى لنبيِّه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة، 49).

فلذلك رُويَ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه سَمِعَ خصومةً ببابِ حُجرته فخرج إليهم فقال: “إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّه يأتيني الخصمُ فلعلَّ بعضَكم أن يكون أبلغَ من بعض فأحسبُ أنَّه صَدَقَ فأقضي له بذلك فمن قضيتُ له بحقِّ مسلمٍ فإنَّما هي قطعةٌ من النَّار فليأخذْها أو فليتركْها”[8].

ومثلُ هذا فَعَلَتْه الشَّياطينُ كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فتنةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (الحجّ، 52 – 53).

ومثلُه أيضاً تصرُّفُ المنافقين الوارد في قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفتنةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التَّوبة، 43 – 47).

والكَذبُ فِتنةٌ أيضاً لأنَّه سترُ الحقِّ بالباطل وهو نوعٌ من التَّغشية كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فتنتُهُمْ (أي: قولُهم لإخفاء حالهم) إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ . انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام، 23 -24).

  1.  الحرب:

القِتالُ فِتنةٌ لأنَّه يحتوي كلَّ ما ذكرناه أعلاه؛ ففيه الإحراقُ والكيدُ وتخليصُ”تمييزُ” القويِّ من الضَّعيف. قال الخليل: والفَتْنُ ما يقعُ بين النَّاس من الحروب[9]. قال الله تعالى:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ (أي القتال واستمرار الحرب) أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة، 191) وهو (القتال) سببُ جواز قتلِ النَّفس في الحرب، قال تعالى:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (مُحمَّد، 4) لأنَّ ضَرْبَ الرِّقاب يعني: قتل النَّفس بغيرِ نفسٍ. وأمَّا القتال: فهو قتْلُ الأنفس بغير أنفسٍ، وهو فسادٌ في الأرض كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النَّمْل، 34) ، فالحربُ هي الفساد في الأرض الذي هو أكبرُ من القتل،كما في قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة، 32)، فلذلك أُجيزَ القتالُ عِقاباً ودفعاً بالمثل كما في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة، 190)، وقد أُبيح قتلُ نفس العدوِّ لمنع الفساد (استمرار الحرب).

فضربُ الرِّقاب يدوم {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ (الجارية) أَوْزَارَهَا} (مُحمَّد، 4) وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فتنةٌ (أي قتالٌ مستمِرٌّ) وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ (أي لِتكونَ القوانينُ السَّائدةُ هي الفطرةُ التي فطر اللهُ النَّاسَ عليها[10]) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال، 39)، وقالَ تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فتنةٌ (قتالٌ) فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (الأنفال، 72 _ 73).

  1.  السَّحر:

تكرَّرَ ذكرُ  كلمة ( السِّحر ) ومشتقاتِها في القرآن الكريم ( 60 ) مرَّةً وبنفس العدد تكرَّر ذكرُ كلمة ( الفتنة ) ومشتقاتها[11] . والسِّحر فِتنةٌ لأنَّه خِداعٌ بفعلٍ أو قولٍ يُبديه السَّاحِرُ على خلاف ما يُخفيه. قال الأزهريُّ : أصلُ السِّحْر صَرْفُ الشئ عن حقيقته إلى غيره[12].

والسِّحر نوعان: فِعليٌّ وقوليٌّ..

  1. السِّحرُ الفِعليُّ:

مِثالُ السِّحر الفِعليِّ هو ما فعلَه سَحَرةُ فرعون ليظنَّ النَّاسُ أنَّ ما جاء به موسى من الآيات ليس دليلاً على رسالته بل هو سِحرٌ سَحَرَ به أعينَ الناس، فلذلك قال فِرعونُ لموسى بعد أن كذَّبَ آياتِ الله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى. قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى. قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى. فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى. قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} (طه، 57 – 64).

فدلَّت الآيةُ الأخيرةُ بأنَّ السِّحر كيدٌ لا حقيقةَ له. فجاء السَّحرةُ وقالوا: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى. قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (طه، 65 – 67).

ومن الممكن أن تكونَ حبالهُم وعصيُّهم أمعاءً مليئةً بالسَّوائل فيها شيءٌ من الزئبق، وقد كان العرضُ في الضُّحى تحت أشعَّة الشَّمس التي تزداد سطوعاً في مثل هذا الوقت، ولمَّا تحرَّكتِ الأمعاءُ المليئةُ بالسَّوائل بتحرُّك الزئبق فيها ظنَّ الحاضرون أنَّها عِصِيٌّ أو حبالٌ بحسب زاوية المشاهدة لكلِّ واحدٍ منهم. والأمعاءُ المليئةُ بالسَّوائل إذا أُخذتْ من بدايتها يظنُّ النَّاظرُ إليها أنَّها عِصيٌّ، وإذا أُخِذَتْ من وسطها يظنُّها حِبالاً.

وقولُه تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} دليلٌ آخرُ على أنَّ السِّحرَ لا حقيقةَ له إنَّما هو كيدٌ وتخييلٌ. والَّذي لا يعرف حقيقتَه يظنُّه حقَّاً كما ظنَّ موسى فأوجسَ في نفسه خوفاً، قال تعالى: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى. وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه، 68_ 69) {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ. قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الشُّعراء، 45 – 48).

السَّحَرةُ أقدرُ النَّاس على تمييز السِّحر من الحقيقة لذا سارعوا بإعلان إيمانِهم؛ لأنَّهم عرفوا أنَّ ما جاء به موسى ليس سحراً إنَّما هو حقيقةٌ تدلُّ على أنَّه رسولُ ربِّ العالمين، فآمنوا به ولم يستمعوا إلى قول فرعون رغم التهديد والوعيد :{قال آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشُّعراء، 49 – 51).

  1.  السِّحر القوليُّ:

السِّحرُ القوليُّ هو الأكثرُ استعمالاً، والغايةُ منه صَرْفُ النَّاس عن الحقِّ. ومثالُه قولُ الله سبحانه وتعالى عن فريقٍ من اليهود: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (البقرة، 101).

والفريق المذكور “هم فِرقةٌ من يهود المدينة” حيث كانوا ينتظرون النَّبيَّ الخاتمَ كما ورد في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (البقرة، 89) وقد سعى هذا الفريقُ في تبيين أنَّ القرآنَ الذي أُنْزِلَ على خاتم النَّبيين ليس هو الكتاب الذي كانوا ينتظرونه بدعوى أنِّه لا يُصدِّق التوراة ” وَ (لإثبات كيدهم) {اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة، 102) أي اتَّبعوا ما وجدوا في التوراة ممَّا كَتَبَ فيها شياطينُ الإنس بأنَّ سليمان عَبَدَ آلهةً أُخرى من دون الله فكَفَرَ[13]، والقرآنُ يصفه بأنه {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص، 30). فهذا سِحرٌ بالقول لأنَّ الذي لا يعرف حقيقتَه يظنُّ أنَّه حقٌّ وهو في الحقيقة باطلٌ، فلذلك وصَفَهم اللهُ تعالى بالذين يُعلِّمون النَّاسَ السِّحرَ فكفروا به.

وكذلك قولُه تعالى: وَمَا أُنْزِلَ (أي اتَّبعتْ فِرقةٌ من اليهود ما أُنزلَ) عَلَى الْمَلِكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ … (البقرة، 102) وقَرَأَ ابنُ عبَّاس وابن أبزى والضحَّاك والحسن الملِكين بكسر اللام[14] وهذا هو الصَّحيح عندنا لِأنَّ اللهَ تعالى قال: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} (الحِجر، 8) فلا يُمكن أن يُنزِّلَ اللهُ تعالى ملائكتَه بتعليم السِّحر الذي وصفَه بالبُطلان والفساد في قوله: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (يونُس، 81).

والسَّحرُ من الفِتنة لأنَّ الله تعالى لم يَنفِ توصيفَه بها في قوله تعالى عن المَلِكين اللَّذين يُعلِّمان النَّاسَ السِّحرَ: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (البقرة، 102) ولأنَّه خِداعٌ بفعلٍ أو قولٍ يُبديه السَّاحِرُ على خلاف ما يخفيه.

قال الرَّاغبُ الأصفهانيُّ: “الملِك ضرْبان: مِلكٌ هو التملُّكُ والتولِّي، ومُلْكٌ هو القوَّةُ على ذلك، تولَّى أو لم يتولَّ. فمن الأوَّل قولُه تعالى: {إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها} (النَّمْل، 34)، ومن الثَّاني قولُه: {إِذْ جَعَلَ فيكم أنبياءَ وجعلَكم ملوكاً} (المائدة، 20)، ومن المُمكن أنَّ هاروتَ وماروتَ كانا ابنا مَلِكٍ بالفعل وهما مَلِكان بالقوَّة فوُوجِها بالفِتَن فأُبعِدا عن السُّلطة، فعلَّما النَّاسَ ما واجهاه من أقوالٍ مُزخرَفةٍ وخداعٍ وكيدٍ، فلذلك قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} أي: لا تستعملْ ما واجَهَنا من الفِتن فتصبحُ كافراً. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} لأنَّهم تعلَّموا منَ الفِتَنِ ما فرَّقَ بينهما وبين السُّلطة، وتلك الحيلُ ذاتُها استعملوها في التَّفريق بين المرء وزوجه، لكنَّ الله تعالى قال: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

لذلك نهانا اللهُ تعالى عن استعمال كلمةٍ فيها السِّحرُ، أي: شيءٌ يصرِفُنا عن حقيقة تلك الكلمة إلى غيره بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة، 104) وقالَ أيضاً :{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (النِّساء، 46).

وفي هاتين الآيتين ثلاثُ جُمَلٍ، لكلِّ واحدةٍ منها معنيان متضادَّان فهي تسمحُ لقائلها أنْ يبديَ خلافَ ما يُخفيه.

“سَمِعْنَا وعَصَيْنا”، تقول التَّفاسير كلُّها إِنَّ معنى “سَمِعْنَا وعَصَيْنا”؛ أي: ما أطعْنا. ولكنَّ المعنى الصَّحيح عندي “سَمِعْنا وتمسَّكْنا بقوَّة”، لأنَّ كلمة “عصى” تأتي بمعنى العِصيان أي ضدّ الطَّاعة. وكذلك بمعنى الأخْذ بالقوَّة كأخْذ العَصَا. ولو أنَّهم قالوا: “سَمِعْنا وأطعْنا” لكانَ خيراً لهم لخلوِّها من السِّحر القوليِّ الذي يُقصَدُ به تحريفُ كلام الله تعالى.

“واسمعْ غيرَ مُسمَعٍ”، والمعنى الأوَّلُ لها: اسْمَعْ ولا يليقُ بنا أن نُسمِعَكَ الكلام. وأمَّا المعنى الآخر: اسمعْ أيُّها الذي لا يسمعُ الكلام. ولو قالوا: “اسمعْ” فقط لكان خيراً، لأنَّه لا مجالَ للتَّحريف وإخفاء خلاف ما يبدونه فيها.

و”راعِنا”، المعنى الأوَّل لها هو أنَّ فعلَ راعِنا مِنْ “رَعَى يَرعى” فيه تعريضٌ على رسول الله، كأنَّهم قالوا له: “أنتَ تُريد أن ترعانا كما تُرعى البهيمةُ، فارْعَنَا إذن”. كما أنَّهم قصدوا بقولهم “راعِنا”: راعي الأغنام. وكذلك يمكن أن يكون لفظُ “راعِنَا” مِنْ “راعى يُراعي” بمعنى الاهتمام والنَّظر إلى حالهم. فلذلك كان قولهم: “انظُرْنا” أحسنَ من قولهم “راعِنا” لأنَّها لا تحتملُ التَّحريف.

ويتبيَّن ممَّا سَبَقَ أنَّهم قصدوا بأقوالهم معناها الظَّاهرَ وأبطنوا المعنى الثَّاني المُحتَمل. لذا قال اللهُ تعالى: {ولو أنَّهم قالوا سَمِعْنا وأطَعْنا واسْمَعْ وانظُرْنا لكانَ خيراً لهم وأقومَ} ولكنْ لعَنَهُمُ اللهُ تعالى بما أخْفَوا في صدورهم من الطَّعن في الدِّين.

ولا يُمكنُ أن يكون التَّحريفُ في القُرآن الكريم إلَّا على هذا الشَّكل، لأنَّ القرآنَ محفوظٌ في قلوب الملايين من النَّاس ومطبوعٌ بما لا يُحصى. وفوق ذلك كلِّه فإنَّ اللهَ تعالى قد وَعَدَ وتعهَّد بحفظه.

وقولُه تعالى في الآية الكريمة: {ليَّاً بألسنتهم وطعناً في الدِّين} يدلُّ على أنَّه يُشترَطُ في وقوع التَّحريف سوءُ النِّيَّة. فالأخطاءُ في ترجيح المعنى للألفاظ متعدِّدةِ المعاني أو الخطأُ في القراءة بسبب الجهل أو النِّسيان ليس من التَّحريف في شيءٍ.

وأهمُّ الكلمات الثلاثة السَّابقة قولهُم “راعِنا”، لذا نهانَا اللهُ تعالى عن التَّلفُّظ بها بقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة، 104)، وقد نهى اللهُ تعالى عن قول راعنا؛ لأنَّ هذه الكلمة تتركُ أثراً قبيحاً في النُّفوس؛ حيث تجعلُ من القائلِ رعيَّةً والمخاطَب راعياً، وهذا يُنشئُ فرْقاً كبيراً بينهما، فالأوَّلُ كالأنعام التي لا تسمع إلَّا دعاءً ونداءً، والثَّاني كالرَّاعي الذي بيده الحُكمُ عليه بما شاء. فلذلك قال تعالى: “وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا” وهاتان الكلمتان لا تُستعملان للبهائم؛ فبهما يُري المخاطِبُ نفسَه إنساناً يسمعُ ويعقِلُ ولا يقبلُ ما يراه مُخالفاً للحقِّ.

وقولُه تعالى: “وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ” أي للَّذين يسترون هذه الحقيقةَ عذابٌ أليمٌ وهو العذاب الذي يسودُ اليومَ على المسلمين الذين جعلوا أنفسَهم رعيَّةً وجعلوا من الأمراء رُعاةً منذ زمنٍ بعيد، فهذا الضَّربُ من السِّحر فتنةٌ عظيمةٌ وهو الأشدُّ تأثيراً والأخطرُ في نتائجه على مجتمعاتنا. وهذه الفِتنةُ أبْعدتِ المُسلمين عن الكتاب والحِكمة وجعلتْهم تحت سطوة الكفَّار.

وهذا ما لم يكُنْ ليحدُثَ لو أنَّنا اتَّبعْنا هذه الآيات: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فتنتَهُ (أي إعطاء هذه الفرصة إياه لأنه اختارها بحريته التامة) فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائِدة، 41).

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع حبل الله   www.hablullah.com

أ.د عبد العزيز بايندر



[1] مَوقعُ المُصْحف الالكترونيِّ  http://www.e-quran.com/q-statis.html

[2] كتابُ العين – (8 / 127) لأبي عبد الرَّحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي  دار ومكتبة الهلال تحقيق : د. مهدي المخزومي و د. إبراهيم السَّامرَّائي

[3] فتن (لسان العرب)

[4] فتن (لسان العرب) وفَتَنَ الرَّجُلَ أَي أَزاله عمَّا كان عليه، ومنه قولُه عزَّ وجلَّ: وإِن كادوا ليَفتنونك عن الذي أَوْحَيْنا إِليك؛ أَي يُمِيلُونك ويُزِيلُونك. ابن الأَنباري: وقولُهم فتنتْ فلانةٌ فُلاناً، قال بعضهم: معناه أَمالَتْه عن القصد، والفِتنةُ في كلامهم معناه المُمِيلَةُ عن الحقِّ.

[5] جامع البيان في تأويل القرآن لمحمد بن جرير الطبري، [ 224 – 310 هـ ](6 / 186) المحقق : أحمد محمد شاكر الناشر : مؤسسة الرسالة، 1420 هـ – 2000 م

[6] تفسير الطبري – (12 / 134)

[7] بدائع الصنائع للكاساني  وهذا خلاصة ما قال: وَالْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا وَهِيَ امْرَأَةٌ كانت تَحِيضُ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لِعَارِضٍ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حتى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أو حتى تَدْخُلَ في حَدِّ الْإِيَاسِ فَتُسْتَأْنَفَ عِدَّةُ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ

[8] صحيح البخاري (3 / 131) بَاب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ2458 – .

[9] كتاب العين، مادة فتن.

[10] لأن الدين فطرة الله التي فطر الناس عليها قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ  [الروم : 30]

[11]  موقع المصحف الالكتروني  http://www.e-quran.com/q-statis.html

[12] تهذيب اللُّغة  للأزهري (2 / 29)

[13] وهو ما كتبوه في سِفرِ الملوك من التَّوراة:”وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ: مُوآبِيَّاتٍ وَعَمُّونِيَّاتٍ وَأَدُومِيَّاتٍ وَصِيدُونِيَّاتٍ وَحِثِّيَّاتٍ 2مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: “لاَ تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ، لأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ”. فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهؤُلاَءِ بِالْمَحَبَّةِ. 3وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مِئَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ، وَثَلاَثُ مِئَةٍ مِنَ السَّرَارِيِّ، فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ. 4وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ. 5فَذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَرَاءَ عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَمَلْكُومَ رِجْسِ الْعَمُّونِيِّينَ. 6وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَتْبَعِ الرَّبَّ تَمَامًا كَدَاوُدَ أَبِيهِ. 7حِينَئِذٍ بَنَى سُلَيْمَانُ مُرْتَفَعَةً لِكَمُوشَ رِجْسِ الْمُوآبِيِّينَ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَ أُورُشَلِيمَ، وَلِمُولَكَ رِجْسِ بَنِي عَمُّونَ. 8وَهكَذَا فَعَلَ لِجَمِيعِ نِسَائِهِ الْغَرِيبَاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُوقِدْنَ وَيَذْبَحْنَ لآلِهَتِهِنَّ. 9فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَى سُلَيْمَانَ لأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَرَاءَى لَهُ مَرَّتَيْنِ، 10وَأَوْصَاهُ فِي هذَا الأَمْرِ أَنْ لاَ يَتَّبعَ آلِهَةً أُخْرَى، فَلَمْ يَحْفَظْ مَا أَوْصَى بِهِ الرَّبُّ. 11فَقَالَ الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ: “مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذلِكَ عِنْدَكَ، وَلَمْ تَحْفَظْ عَهْدِي وَفَرَائِضِيَ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ بِهَا، فَإِنِّي أُمَزِّقُ الْمَمْلَكَةَ عَنْكَ تَمْزِيقًا وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ. 12إِلاَّ إِنِّي لاَ أَفْعَلُ ذلِكَ فِي أَيَّامِكَ، مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ أَبِيكَ، بَلْ مِنْ يَدِ ابْنِكَ أُمَزِّقُهَا. 13عَلَى أَنِّي لاَ أُمَزِّقُ مِنْكَ الْمَمْلَكَةَ كُلَّهَا، بَلْ أُعْطِي سِبْطًا وَاحِدًا لابْنِكَ، لأَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِي، وَلأَجْلِ أُورُشَلِيمَ الَّتِي اخْتَرْتُهَا”. سفر الملوك، الاصحاح 11/1_12.

[14] الجامع لأحكام القرآن لمحمَّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله 2 / 41)).

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.