حبل الله
مصطلحات القرآن والتأويل والحكمة في القرآن الكريم

مصطلحات القرآن والتأويل والحكمة في القرآن الكريم

مصطلحات القرآن والتأويل والحكمة

في القرآن الكريم

أ. د عبد العزيز بايندر

رأينا فيما طالعنا من كتب التفسير أن الآيات التي ورد فيها كلمة “قرآن” لم تفسر على شكل صحيح. وكذلك القول في الآيات التي ورد فيها كلمات ذات دلالات أصولية نحو الكتاب والحكمة والتأويل والمحكم والمتشابه والمثاني. ونحاول في هذه المقالة الوجيزة دراسة مصطلحات القرآن والتأويل والحكمة…

أولا. كلمة “القرآن”

أ‌.                       معناها اللغوي

قال الفيروز أبادي في كتابه  بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز:  وأَمَّا القرآن فاسم لما يُقْرَأُ؛ كالْقرْبان: اسم لما يُتقرَّب به إِلى الله. ويقال أَيضاً: إنه مصدر قرأَ يقرأ (قَرْأ وقِراءَة) وقرآناً. وفى الشرع اسم للكتاب المفتَتح بفاتحة الكتاب، المختَتم بـ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» وفيه لغتان: الهمز وتركه. المهموز من القُرْء – بالفتح والضَّم – بمعنى الحيض، والطُّهر. سُمى به لاجتماع الدَّم فيه. والقرآن سمِّى به لاجتماع الحروف، والكلمات، ولأَنه مجتمع الأَحكام، والحقائق، والمعانى، والحكم. وقيل اشتقاقه من القِرَى بمعنى الضيافة؛ لأَن القرآن مَأْدُبة الله للمؤمنين، وقيل القران – بغير همز – مشتقّ من القِرْن بمعنى القرين لأَنه لَفظ فصيح قرِين بالمعنى البديع. وقيل: القرآن اسم مرتجل موضوع، موضوع غير مشتقٍّ عن أَصل؛ وإِنَّما هو عَلَم لهذا الكتاب المجيد؛ على قياس الجلالة فى الأَسماء الحسنى.[1]

ونرى أن الصحيح من كلامه هو: أنه من القُرْء بالفتح والضَّم كما يأتي اسمَ مصدرٍ. ومنه مقروء بمعنى المجموع والمضموم. وفي قوله تعالى: «إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» (سورة القيامة، 75 / 17-18) نرى العلاقة واضحة بين فعل “قرأ” وبين كلمة قرآن.

والقراءة تعني ضم الحروف والكلمات بعضها لبعض واستيعاب المعاني. وكلمة “قرآن” لا جمع لها في العربية. فيستوي فيها الجمع والمفرد. فيمكن بها إرادة الجمع. أي مجموعة الآيات من القرآن.

ب‌.                  معناها الاصطلاحي

يمكن لنا أن نعرف القرآن بأنه كلام الله المنزل بالعربية على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، المكون من 114 سورة، المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس.

وهو تعريف مناسب لمعنى الكلمة. لأنه يتكوَّن من مجموع سور عددها 114. حيث تشكل بمجموعها القرآن الكريم.

والقرآن في القرآن نوعان؛ الأول مجموعة آيات مرئية. والثاني مجموعة آيات غير مرئية.

الأول: آيات مرئية

وهي مجموعة آيات يراها كل من قرأ القرآن الكريم. وتشمل آيات القرآن وغيرها من الكتب المنزلة على الأنبياء عبر التاريخ البشري. قال الله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ . وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» (سورة الشورى، 42 / 13-14).

وكل مجموعة من الآيات المنتظمة في سورة من سور القرآن الكريم يطلق عليها اسم القرآن كذلك؛ فكل سورة بمفردها هي قرآن. كما قال الله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» (سورة الحجر، 15 / 87). وقوله تعالى: « وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» عطف تفسير. كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ.[2]

فسورة الفاتحة هي القرآن العظيم وعلى هذا فإن كل سورة من سور القرآن يجوز أن يقال عنها قرآن. كما توجد في نفس السورة مجموعة آيات تتحدث عن موضوع معين مثل قصة من القصص أو مثل من الأمثال، وهذه المجموعة ذات الموضوع الواحد من السورة يقال عنها قرآن أيضا. لذا قيل على الآيات التي نزلت في بداية الوحي قرآن. قال الله تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (سورة البقرة، 2 / 185).

الثاني: مجموعة آيات غير مرئية

وهي آيات لا نستطيع أن نراها مجتمعة في مكان واحد ولكن يمكن أن نجمعها مع متشابهها بحسب مبدأ المثاني أي العلاقات الثنائية بين الآيات فيتكون بذلك قرآن أي مجموعة آيات تحوي موضوعا معينا. قال الله تعالى: «وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا» (سورة الاسراء، 17 / 106).

وكلمة “قرآنا في قوله تعالى: “قرآنا فرقناه” حال من الضمير المفعول لـ”فرقناه” المحذوف؛ والتقدير: فَرَقْنَاهُ  قُرْآنًا فَرَقْنَاه. والعائد فيه هو نفس العائد في “وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ” يراد به القرآن أو الكتاب.

وكلمة “المكث” تدل على توقف وانتظار. وعلى مكث تعني الانتظار.[3] وهذا يدل على أنه إذا نزلت الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر نزول آية أخرى تشرحها؛ وهو مما يدل أيضا أن الآيات التي يتكون منها (القرآن) أي مجموعة الآيات التي تتحدث عن موضوع معين لم تكن تنزل في وقت واحد. وكذلك اليوم يجب الانتظار حتى تنكشف الآيات التي تتحدث عن موضوع معين للوصول إلى الحكمة أي الحكم السليم فيه. وبعبارة أوضح نقول أن الايات التي يتكون منها القرآن ليست مجتمعة في مكان واحد.

 والآيات التالية تشرح معنى كلمة “مكث”. قال الله تعالى: «وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا . فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا» (سورة طه، 20 / 113-114). فقد أمر الله تعالى نبيه بأن لا يعجل بالقرآن، والمقصود أن لا يصدر الحكم بناء على الآيات النازلة حتى يتنزل عليه متشابهاتها، وهذا يحتاج الـ “مكث”

وهذه آية أخرى تشرح كلمة (مكث) بطريقة مختلفة قال الله تعالى: «لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ[4] إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» (سورة القيامة، 75 / 16-19). والمقصود جمع الآيات المتعلقة بالموضوع الواحد واتباع الحكمة المستقاة من هذا الضم وعدم تحريك اللسان بالحكم قبل ذلك.

وهذه آية ثالثة في نفس الصدد. قال الله تعالى: «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (سورة فصلت، 41 / 3). الآية تشير إلى التفصيل، والتفصيل ليس بالضرورة أن يأتي دفعة واحدة، وفي هذا إشارة أخرى لقوله تعالى (على مكث).

وكثيرا ما تكون الآيات التي تتحدث عن موضوع واحد متناثرة في أماكن مختلفة كما سنقف على هذا الموضوع إن شاء الله تحت عنوان: نماذج الحكمة.

  1. الكتاب

كلمة كتاب في اللغة تدل على جمع شيء إلى شيء.[5] ويطلق الكتاب أيضا على جمع الحروف بالكتابة وعلى جمع الكلام المتلفظ. وتسمى الجمل التي تتكون من جمع الكلمات بعضها مع البعض كتابا. ومن أجل ذلك يقال على كل حوار جرى بين إثنين أو أكثر كتابا؛ كما يقال على كل كتابة سواء كانت طويلة أو قصيرة كتابا.[6] وهكذا يتبين لنا أنه لا فرق بين الكتاب والقرآن. ويؤيد ذلك قوله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ» (سورة الزمر، 39 / 23).

ويفهم من هذه الآية أن المثاني والمتشابه من خصائص القرآن الكريم.

  1. الآية

والآية هي العلامة الظاهرة.[7] وتطلق الآية في القرآن الكريم على الجمل التي تدل على كلام الله تعالى،  وكما تطلق على ما يدل على قدرته في عالم الوجود. وعلى هذا تنقسم آيات الله إلى قسمين الأول: آيات الله المنزلة. والثاني: آيات الله المخلوقة. قال الله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (سورة فصلت، 41 / 52-53).

الآيات المخلوقة هي تصديق للآيات المنزلة. وكلتاهما تتحدثان عن الفطرة؛ لذا جاء في القرآن الكريم التعبير عن الدين بالفطرة؛ حيث قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (سورة الروم، 30 / 30).

وهناك من لم يُلق سمعا للآيات الله المنزلة، ولكنه وصل إلى حقائق علمية كثيرة في ظل ما درس من الآيات المخلوقة. وبالفعل فإن طريقة الوصول إلى العلوم التطبيقية والتقنية والفلسفية هي الدراسة والبحث في الآيات المخلوقة أي الظواهر الكونية.

وفي عرفنا التقليدي فإن القرآن الكريم يعد كتابا دينيا يأتي بالأحكام المتعلقة بالعبادات والعقائد والأخلاق والشريعة فقط. ولكن الحقيقة أن الآيات القرآنية المتعلقة بتلك الأحكام قليلة العدد؛ كما أنها ليست منحصرة بتلك الموضوعات بل تتحدث في نفس الوقت عن موضوعات أخرى.

ما من شيء إلا وقد بين القرآن الكريم ما يتعلق به من الأحكام. كما قال تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (سورة الأنعان، 6 / 38). وللوصول إلى بيانه أي الحكم فيه فلا بد من معرفة المناسبات والعلاقات الثنائية بين الآيات والمحكم والمتشابه والتأويل. وهو ما يشبه العلاقات بين الأرقام. كما نعلم فإن الأرقام محصورة من الصفر إلى التسعة، ومجموعها عشرة، ولكن يتم كل الحسابات بها. فقدرة الشخص على الحساب مرتبط بمعرفته العلاقات بين الأرقام. حيث يستطيع البعض أن يستعملها في الحسابات اليومية في الشراء والبيع. والبعض الآخر يستعملها في الحسابات الفلكية المعقدة والأشكال الهندسية والحلول الفيزيائية وغير ذلك من الحسابات الدقيقة. وكل واحد يستفيد منها حسب معرفته. وكذلك الاستفادة من الآيات القرآنية. فالبعض لا يعرف العلاقات بين الآيات، ولكنه يستفيد منها حسب معرفته. والبعض متعمقون في معرفة العلاقات بين الآيات والعلوم الأخرى التي تجعله يصل إلى المعاني الدقيقة والعميقة. وعلى سبيل المثال: الذي عنده علم من الكتاب في عهد سليمان عليه السلام، استطاع أن يأتي بعرش بلقيس بطرفة عين من اليمن إلى القدس.

 وقد فهمت ملكة سبأ بلقيس، أنه لا حول لها في مواجهة سليمان عليه السلام، فغادرت سبأ إلى القدس مسلمة مع سليمان عليه السلام؛ وكان لها عرش عظيم. وحين سمع سليمان عليه السلام خبرها جمع الملأ و «قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» (سورة النمل، 27 / 38-40).

والذي جاء بعرشها في لحظة قد حصل على العلم الذي مكّنه من ذلك من التوراة؛ لأن الكتاب المشار إليه في قوله تعالى “قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ” هو التوراة لا غيره.

وقد وصف القرآن ذلك الشخص بـ «الذي عنده علم من الكتاب» ولم يقل الذي يعلم الكتاب كله. وهذا مهم للغاية. حيث يدل على عدم وجوب علم الكتاب بأكمله، بل يكفي معرفة ما يخصه من الآيات التي تعينه في الوصول علم إحضار الأشياء البعيدة. واليوم تجرى الدراسات حول إرسال الأشياء إلى الأماكن البعيدة بواسطة الإشعاع، ولكن ما زال ذلك مستبعدا وهو في إطار الخيال العلمي فقط.

وحين اعتُبر القرآن أنه كتاب ديني فقط لم يكن من الإمكان فهم الآيات السابقة على شكل صحيح. وقد زعم البعض أن الإتيان بالعرش هو من معجزات سليمان عليه السلام. والمعجزة هي ما يظهره الله تعالى على يد مدعي النبوة تأييدا له وتصديقا لنبوته. أما الكرامة فهي من إكرام الله تعالى لعبد صالح. ولا يمكن قبول هذا الإدعاء؛ لأن المعجزة لا تتحقق للنبي بناء على طلبه، وكذلك الكرامة بالنسبة للعبد الصالح. كما قال الله تعالى: « وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» (سورة الرعد، 13 / 38).

وفي إحضار العرش إدعاء. فقد قال الذي عنده علم من الكتاب لسليمان عليه السلام «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ». إذن فهذا الحدث ليس بمعجزة ولا بكرامة. إنما تحقق نتيجة للعلم الذي كان مصدره كتاب الله. وهذا العلم لا بد من أن يكون موجودا في القرآن الكريم أيضا. ولو تتبعنا الآيات وفق الأساليب التي بينها الله تعالى في كتابه سنصل إلى ذاك العلم. والمصطلحات الأساسية لتلك الأساليب هي المتشابه والمثاني والتأويل.

  1. المتشابه

المتشابه: الشِّبْهُ والشَّبَهُ والشَّبِيهُ المِثْلُ والجمع أَشْباهٌ وأَشْبَه الشيءُ الشيءَ ماثله.[8] وهو غير التشبه. فهو ليس لإظهار المماثلة، بل هو طريق التعبير لتأكيد المعنى المراد. مثل قولنا: فلان كالأسد، أو كالثعلب. ولا نقصد فيها أن بين الرجل والأسد أو الثعلب مماثلة بل نقصد أنه شجاع أو ماكر وهو أبلغ من قولنا: رجل شجاع أو ماكر. أي أن التشبيه والتشابه لفظان مختلفان تماما.

والتشابه مهم جدا في تصنيف الموجودات. لأن الأصناف والأجناس والأنواع تتكون من الأشياء المتشابهة. فالمطعم والملبس والركوبة والزراعة والماشية كلها مصنف من جمع الأشياء المتشابهة بعضها إلى بعض. وبعض الأشياء تحلُّ في أكثر من صنف ونوع وجنس. وعلى هذا المنوال تتميز العلوم والمهن بعضها عن بعض، وبناءً على ذلك يتم توفير الحاجات.

وردت كلمة متشابه في القرآن الكريم في أربع آيات لتعبر عن الأشياء المتماثلة.

1)                    قال الله تعالى: «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا» (سورة البقرة، 2 / 25).

2)                    قال الله تعالى: « وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» (سورة البقرة، 2 / 118).

3)                     قال الله تعالى: « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ» سورة الأنعام، 6 / 114).

4)                     قال الله تعالى: « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات. (سورة آل عمران، 3 / 7).

وفيما يلي توضيح لموضوع الآيات المتشابهات

في الحقيقة كلمة التشابه ترد في ثماني آيات. وقد وقفنا سابقا على الآية الثالثة والعشرين من سورة الزمر التي ترد فيها الكلمة. والآيات الثلاثة الأخرى قد وردت في سورة البقرة، 2 / الآية 70، وسورة الأنعام 6 / الآية 99، وسورة الرعد، 13 الآية 16.

  1. المثاني

 المثاني، جمع مثنى أو مثنى أو مثن وهو مصدر ميمي يعني اثنين اثنين.[9] فالآيات المتشابهات تتشكل العلاقات الثناية بينها. وقد وردت كلمة مثاني في الآيات الأربعة التاية:

1)                    قال الله تعال: «وَاِنْ خِفْتُمْ اَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامٰى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاۤءِ مَثْنٰى وَثُلٰثَ وَرُبَاعَ» (النساء، 4 / 3).

2)                    وقال تعالى: « قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» (سورة السبأ، 34 / 46).

3)                    وقال تعالى: « الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ» (سورة الفاطر، 35 / 1).

4)                    وقال تعالى: « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ» (سورة الزمر، 39 / 23).

الآيتان في موضوع واحد؛ إحداهما المحكمة التي هي الأصل في الموضوع، والأخرى المتشابه التي توضح المحكم. يزيد عدد الآيات في بعض الموضوعات إلى أربع وست وثمانية…. ألخ على شكل (مثاني). والذي يعثر على هذه الآيات بهذه العلاقات الثنائية يستطيع أن يصل إلى حكم دقيق في الموضوع.

ثانيا: التأويل

التأويل،  من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه: الموئل للموضع الذي يُرجع إليه، فالتأويل رد الشيء إلى الغاية المرادة منه[10]. ونعني بردها إلى الغاية المرادة منه الجمع؛ أي جمع المحكم مع متشابهه. كما يقال: أُلتُ الشي بمعنى جمعته وأصلحته.

وأبو منصور صاحب تهذيب اللغة يعرف التأويل على النحو التالي: التأويل؛ جَمْع معانٍ مُشكلة بلفظ واضح لا إشكال فيه.[11]

ونريد دراسة الآيات التي وردت فيها كلمة التأويل في أربع نقاط…

أ‌.                       تأول أحداث موسى مع الخضر عليهما السلام

ذلك أن موسى اصطحب الخضر في سفر وقد اشترط الخضر على موسى على أن لا يسأله عن شيء ينكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة. فلما استقلت بهم السفينة في البحر، ولجت أي: دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحًا من ألواحها ثم رقعها. فلم يملك موسى عليه السلام نفسه إلا أن قال منكرًا عليه: «أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا». كما أنكر عليه قتل الغلام وبناء الجدار دون أجر.. إلى أن قال له الخضر: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا».فبدأ يبين سبب ما حدث قائلا:  «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا. وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا» (الكهف، 18/ 79-82).

وقد أوضح الخضر لموسى سبب ما فعله بتأويله أي بربط الأحداث بما تؤول إليه من الأسباب؛ وبهذا حصل عند موسى عليه السلام معلومات صحيحة فيما فعله الخضر. وحديث موسى والخضر مهم للغاية لذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “يرحم الله موسى لو كان صبر لقص علينا من أمرهما”[12].

وكان التأويل هنا بالمتشابه أي ربط الأحداث المتشابهة بعضها مع بعض.

ب‌.                  تأويل الرؤيا

وحين كان يوسف عليه السلام في السجن، حكى الملك رؤياه كما قال تعالى على لسانه: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ، قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ» (سورة يوسف، 12 / 43-44).

تأويل الرؤيا هو الوصول إلى النتيجة بربط الرموز التي رآها الشخص في المنام مع ما يشابهها مما يحدث في الحياة الواقعية نظرا لحالة الشخص الذي يراها.

وقوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» (سورة يوسف، 12 / 47-49).

لم يستطع المعبرون من رجال الملك تعبير رؤياه؛ لأنهم لم يستطيعوا ربط ما رآه الملك من الرموز مع ما يشبهها مما يحدث في واقع الحياة. بخلاف يوسف عليه السلام الذي فسر سبع بقرات سمان بالخصب الذي يستمر سبع سنوات. وسبع بقرات عجاف بالقحط الذي يستمر سبع سنوات لا خصوبة فيها، حيث يأكل الناس ما ادخروا خلال السنوات السبع الخصبة. وكذلك سبع سنبلات خضر وأخر يابسات جاءت تأييدا لذلك. وعلى هذا الأساس وصل يوسف عليه السلام إلى تأويل رؤيا الملك.

وخلاصة القول أن تأويل الرؤيا هو ربط الرموز التي رآها الشخص في المنام مع ما يشبهها مما يحدث في الحياة الواقعية.

ت‌.                  تأويل الحياة الدنيا

الدنيا مكان الامتحان، وكل ما يحدث فيها له علاقة بما سيحدث في الآخرة. قال الله تعالى مبينا ذلك التشابه: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (سورة الأنعام، 6 / 160).

وكلمة مثل تعني التساوي والتشابه بين شيئين. وقولنا هو مثله أي أنه يقوم مقامه.[13] وإذا جمع أصحاب النار ما رآوه فيها بما عملوا في الدنيا لوصلوا إلى التأويل صحيح، أي أنهم يعرفون أن ما يعانونه من العذاب هو مقابل سوء أعمالهم في الدنيا. قال الله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ» (سورة الأعراف، 7 / 53).

ث‌.                  تأويل الآيات

وقبل أن نبدأ في موضوع تأويل الآيات نلخص النتائج التي وصلنا إليها من الأحداث الثالثة السابقة فنقول:

1-                  التأويل هو الربط بين الأشياء بعلاقة مباشرة تجعل بعضها مشابها لبعضها الآخر، وعلى هذا يكون التأويل بين المتشابهات.

2-                  ولا بد في التأويل أن يكون أحد العناصر معروفا على الأقل. وكان موسى عليه السلام يعرف ما حدث وكذلك الملك كان يعرف ما رآه في المنام ولكن أياً منهما لم يستطع أن يأتي بما يربط تلك الأحداث بحقائق الأمور ربطا صحيحا. وقد اضطر موسى عليه السلام أن يفترق عن الخضر لأنه أخطأ في تأويل الأحداث. أما الملك فبحث عمن يؤول رؤياه؛ لأن المعبرين عنده لم يعرفوا تأويلها. وعرف موسى حقيقة الأمر بعد تأويل الخضر لما فعله، وكذلك الملك بعد تأويل يوسف عليه السلام له رؤياه.

وتأويل الحياة الدنيا يختلف عن التأويلين السابقين. لأن كلا الشيئين المتشابهين معلوم؛ فالمكلف الذي بلغته الرسالة يعرف عبر الرسول تأويل أمره في الآخرة؛ أي ما يجازى به يوم القيامة مقابل أعماله في الدنيا. والذي آمن وعمل صالحا يكون من السعداء، أما من كفر واتبع هواه فيؤوِّل الأمور حسب ما يمليه الشيطان من الأماني. وقد أورد القرآن قول صاحب الجنتين المنكر لحق الله عليه «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا» (سورة الكهف، 18 / 36). وهذا وأمثاله يعرفون الحقائق حين يقفون أمام الله تعالى للحساب ولكن حين لا تجدي المعرفة ولا ينفع الندم.

والآن نريد أن نفهم الآيات التالية التي تتعلق بالتأويل:

قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ[14]. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا[15] وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (سورة آل عمران، 3 / 7-8).

نحاول الآن أن نفهم الآية بالتفصيل:

  1. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ؛ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»

كلمة “المتشابه” تطلق على أشياء متماثلة.[16] وللحديث عن التشابه لا بد من مشبه ومشبه به. والمشبه هنا آيات. وعلى هذا فالمشابهة تكون بين المحكمات وغيرها من الآيات. فتكون جميع الآيات متشابهات. كما نفهم ذلك من قوله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ» (سورة الزمر، 39 / 23).

  1. قوله تعالى: « فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ».  وقوله تعالى: “تشابه منه” يدل على أن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون من آيات القرآن ما يوافق هواهم لتشيع الفتنة. مع أن الله تعالى هو الذي يؤول الآيات لا غيره، لكي لا يعبد الناس غير الله.  كما جاء في قوله تعالى: « الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» (سورة هود، 11 / 1-2).

وخطأ موسى عليه السلام في التأويل، كان سببا في فراقه عن الخضر. وكذلك التأويل الخطأ يكون سببا في فراق الإنسان عن سبيل الله تعالى. ولو أن موسى استمر في تأويله الخاطئ بعد أن تبين له الصحيح بمعرفة ارتباط الأحداث بما يتصل بها من المعاني لحُكِم أن في قلبه زيغا.

والآيات المحكمات وما يفصلها من المشابهات كلها موجودة في الكتاب. ومن يتبع تأويلا يتفق مع هواه متجاهلا تأويل الله تعالى فلا شك أنه من أصحاب الزيغ. وبهذا نستطيع أن نقول في مفعول فعل “تشابه” ما يهدفه الذي في قلبه زيغ. وما جاء في سبب نزول الآية يؤيد كل ذلك.

قال إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: عَمدوا – يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران – فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا! فأنزل الله عز وجل:”فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة”، ثم إن الله جل ثناؤه: أنزل «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة آل عمران، 3 / 59).

وكان نصارى نجران يأخذون ما يوافق هدفهم من الآيات وهو قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْه» (سورة النساء، 4 / 171)

وقد أخطأوا في تأويل الآية بقطع علاقتها مع الآيات الأخرى. والتأويل الصحيح لها أن نفهمها مع الآية السابقة أي الآية التاسعة والخمسين من سورة آل عمران.

وقد بينت الآية التالية سمات من يؤول الآية بهدف تطويعها إلى هواه ابتغاء الفتنة؛ « يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ» (سورة إبراهيم، 14 / 3).

  1. قوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ»

وما يعلم تأويله إلا الله يعني أن تأويل القرآن الكريم يكمن فيه فقط . وبعبارة أخرى لا يجوز القيام بالتأويل إلا من خلال الأساليب التي بينها الله تعالى في القرآن الكريم. وهذا يشبه اقتصار معرفة الخضر لتأويل الأحداث في رحلته مع موسى، وكذلك يوسف في تأويله لرؤيا الملك.

وقوله تعالى في آخر الآية «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» يدل على إمكانية معرفة هذا التأويل.

وقد ذكر الله تعالى خصائص “أولوا الألباب” في قوله: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ» (سورة الزمر، 39 / 18).  وهم الذين أعطاهم الله الحكمة. قال تعالى: «يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ» (سورة البقرة، 2 / 169).

والضمير في “تأويله” يعود إلى الكتاب أو الآيات المراد تأويلها. والذي أول الكتاب حيث ربط آياته بعضها ببعضها الآخر هو الله تعالى. وقد وضع سبحانه بين الآيات التي تبين موضوعا معينا روابط وعلاقات حيث يستطيع العثور عليها فريقُ عمل (قَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يتكون ممن يعرف العربية والقرآن والموضوع المراد دراسته، فيقوم هذا الفريق ببيان وتوضيح الموضوع. قال الله تعالى: «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (سورة فصلت، 41 / 3)

ويمكن أن نفهم قوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ» من سورة آل عمران؛ أن الراسخين في العلم هم كذلك يعلمون تأويله. ولكن هذا المعنى لا يتماشى مع السلامة الداخلية للآية. لأن المخطئ في التأويل لا يستحق هذا العتاب الشديد. وعلى هذا فلم يكن المدح على الراسخين لمعرفتهم التأويل بل كان على أنهم لا يبتغون الفتنة.

  1. قوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»

ويراد بالعلم هنا تأويل الآيات بحيث تُجمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد على شكل (قرآن). وهذا لا يعلمه إلا الله. ولا يَعلَمُه غيره حتى يعلِّمه الله. لذا قال الله تعالى: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا» (سورة طه، 20 / 113-114).

والمراد بقول الراسخين في العلم: “آمنا به كل من عند ربنا” عدم جواز تأويل الآيات إلا أن يكون ذلك التأويل وفق ما أمر الله. وهم يدعون ربهم قائلين: «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (سورة آل عمران، 3 / 8). وقد تم نزول القرآن الكريم وتأويله فيه. والذي يعرف الأسلوب يحصل عليه. لذا كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: اللَّهُمَّ أَعْطِ ابْنَ عَبَّاسٍ الْحِكْمَةَ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ.[17] ومن الواضح أنه لا يقال عمن لا يعرف التأويل أنه راسخ في العلم.

وبعد كل هذا نستطيع أن نعرِّف التأويل تعريفا خاصا بالقرآن الكريم:

التأويل: هو ربط الآيات المتشابهات التي تشرح موضوعا معينا بالآية المحكمة بهدف الوصول إلى الحكمة.

وهذا ينقلنا الآن إلى موضوع الحكمة

الثالث. الحكمة

الحكمة هي قدرة عقلية (ملكة) في الإنسان يستطيع بها أن يصدر حكما صحيحا. وقد أعطاها الله تعالى لجميع الأنبياء ولكثير من الناس. وفي سورة الأنعام ذكر الله تعالى ثمانية عشر  نبيا من نوح إلى عيسى بن مريم عليهم السلام[18] ثم قال: «وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (سورة الأنعام، 6 / 89).

والحكمة التي أعطاها الله تعالى للأنبياء مع الكتاب هي الحكم الصحيح المستنبط من الكتاب. كما نفهم ذلك من قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (سورة آل عمران، 3 / 81).

الحكمة مصدر للنوع من الحكم وتعني الحكم الصحيح. وإذا استعملت كالاسم فمعناها الحكم الصحيح أو القدرة التي يستطيع الإنسان أن يصدر حكما صحيحا إذا ملكها. والأنبياء والذين اتبعوهم يحكمون بكتاب الله تعالى. قال الله تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» (سورة البقرة، 2 / 213).

وقال تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (سورة المائدة، 5 / 44-45)

«وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (سورة المائدة، 5 /  47).

«وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْك .أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (سورة المائدة، 5 / 49-50).

وليست الحكمة خاصة بالأنبياء، بل تعطى للناس كذلك. قال تعالى: «يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ[19]» (سورة البقرة، 2 / 269). « وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» (سورة لقمان، 31 / 12). ولا نجد في القرآن الكريم ما يدل على نبوة لقمان.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحكمة ما يلي: لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ[20] عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا.[21]

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ.[22]

أ‌.     طريقة الوصول إلى الحكمة

وقد بين الله تعالى طريق الوصول إلى الحكمة أي الحكم الصحيح. قال الله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا» (سورة النساء، 4 / 105).

والطريقة التي بينها الله تعالى للوصول إلى الحكمة موجودة في القرآن الكريم. قال الله تعالى: «الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» (سورة هود، 11 / 1-2).

وعلى هذا فالمحكم، هو الآية التي تبين الحكم موجزا ؛ ويفصلها الله تعالى في آية أخرى. ومن أجل ذلك انقسمت الآيات إلى المحكمات والمتشابهات. وقد جعل الله تعالى بين المحكم والمتشابهات المفصِّلات مماثلة؛ حيث يتشكل من هذه المماثلة النظام الثنائي. ويطلق على الآيات المماثلة للمحكمات؛ المتشابهات كما بينا ذلك سابقا.

ووصف “كتابا” في الآية بـ “مثاني” بصيغة الجمع يدل على أن الارتباط بين المتشابه والمحكم يكون بين آيتين أو أكثر على شكل ثنائي. كما يوضح الموضوع قوله تعالى: «وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا» (سورة الأنعام، 6 / 114).

ويراد بالمفصل هنا، البيان على شكل الفواصل. وقد جاء في لسان العرب، الفَصْل الحاجِز بين الشيئين. فَصَل بينهما يفصِل فَصْلاً فانفصَل وفَصَلْت الشيء فانصَل أَي قطعته فانقطع.[23]وقوله عز وجل كتاب فصَّلناه له معنيان أَحدهما: تَفْصِيل آياتِه بالفواصِل، والمعنى الثاني في فَصَّلناه: بيَّنَّاه. ونرى أن كلا المعنيين جدير بالأخذ. وعلى هذا كون القرآن الكريم مفصلا، إذ يراد به أن كل آية ترتبط بالمحكم فتفصله، ويشكل المحكم مع مفصله وحدة واحدة من القرآن، وعليه يكون بيان وتوضيح الكتاب. كما يدل عليه قوله تعالى: «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (سورة فصلت، 41 / 3).

وقد وقفنا على لفظ القرآن. وكون الكتاب مبينا “لقوم يعلمون” يدل على أن الآيات المتشابهات المرتبطة بالمحكمات والمبينة لها إنما يتم العثور عليها من قبل العلماء.

وهكذا يبين الكتاب كلَّ شيء، وبهذا يتم الوصول إلى الحكمة المركوزة فيه. قال الله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» (سورة النحل، 16 / 89).

وكون القرآن كتابا يبين كل شيء، يستلزم أن يكون مشابها لما يكتبه الناس من الكتب. فالقرآن الكريم يبين كل شيء، وبيانه ليس منحصرا في بعض الموضوعات. وهو بمثابة الأزرار في لوحة المفاتيح، فيها أرقام وحروف معدودة، ويمكن القيام بها بحسابات، وكتابات بلا نهاية، بشرط أن يُتقن استعماله. وكذلك أن يكون عنده علم يسجله بتلك الأزرار والحروف الموجودة على تلك اللوحة. ويفترق القرآن الكريم عن لوحة المفاتيح بأشياء منها؛ أن من قارئ القرآن لا يخلو من الفائدة حتى لو لم يستطيع أن يربط المشتبهات بالمحكمات؛ٍ لأنه الحقل الخصيب الذي يستفيد منه العالم والجاهل. ولكن العارف العالم يستفيد أكثر.

وقد استعمل رسول الله صلى الله عيه وسلم هذا الأسلوب، وعلم أمته الحكمة الموجودة في القرآن الكريم. وسميت الحكمة التي استنبطها النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم وعلمها أمته بالسنة. إن الجهل بالمنهج النبوي أدى إلى عدم معرفة التوافق بين الكتاب والسنة، وبالتالي فُقد طريق الوصول إلى الحكمة، فأصبح المسلمون بعد عصر الصحابة لا يستطيعون تقديم الحلول للنوازل. لأنهم فقدوا القدرة على انتاج أو استنباط العلوم من القرآن الكريم.

ولا يمكن الوصول إلى الحكمة إلا بتلك الروابط التي جعلها الله تعالى بين الآيات. وهذا يحتم إمعان النظر في الآيات التالية؛ قال الله تعالى: «لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ . إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» (سورة القيامة، 75 / 16-19).

ب‌.                  نماذج من الحِكمة

ولا يمكن الوصول إلى الحكمة إلا بدراسة مجموعة الآيات التي تتكون من المحكمات والمتشابهات. ونذكر نموذجين اثنين؛ أحدهما في العبادات، والآخر في المعاملات…

  1. السعي بين الصفا والمروة

السعي، هو ذهاب من قام بأداء فريضة الحج وإيابه بين الصفا والمروة سبع مرات بنية العبادة بعد طوافه بالكعبة. وقد كان في العهد الجاهلي على هذين الجبلين صنمان؛ أحدهما إساف والآخر نائلة. لذا ترك المسلمون السعي.[24] وفي السنة السادسة من الهجرة أثناء صلح الحديبية نزلت هذه الآية: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ…» (سورة البقرة، 2 / 296).[25]

وقد دلّت هذه الآية أن في الحج والعمرة نقصان يجب إتمامه، ولكن الآية لم تبين هذا النقصان. فكان الانتظار لازما حتى ينزل الله تعالى آية يبين فيها هذا النقصان. كما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: «وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا» (سورة الاسراء، 17 / 106).

«فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا» (سورة طه، 20 / 114).

«لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» (سورة القيامة، 75 / 16-19).

وقد أنزل الله تعالى فيما بعد مبينا النقصان الذي يجب اتمامه قوله: « إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» (سورة البقرة، 2 / 158).

نفهم من هذه الآية أن الصفا والمروة من شعائر الله تعالى في عبادة الحج. والسعي بينهما لله وحده وليس للأصنام. وقد قال رسول الله صلى الله مبينا هذا المعنى: ما أتم الله تعالى لامرئ حجة ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة.[26]

والكلمات الواردة في هذا الحديث مثل لفظ الجلالة الله، وبين الصفا والمروة، والسعي، والحج والعمرة والاتمام، هي الكلمات المشتركة بين الآيتين؛ (وأتموا الحج والعمرة لله) و (إن الصفا والمروة من شعائر الله..). وبالجمع بينهما يفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم. وطريقة الجمع هذه تشبه كتابة الرقم 12 وذلك بزيادة إثنين بعد واحد. وهما رقمان منفصلان قبل التركيب لا يفيد كل واحد منهما إلا رقما منفردا ولكن إذا أضفنا الواحد إلى الآخر أفادت عددا معنيا جديدا وهو 12.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ؛ هو خلاصة لقوله السابق.[27]

ولم يكن الانتظار خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل الصحابة أيضا كانوا في انتظار نزول آية تبين الموضوع، وحين نزلت الآية سهل فهم الموضوع. وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ” لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته” يدل على أن الصحابة قد فهموا الموضوع.

وفي العصور اللاحقة لم يتم فهم هاتين الآيتين على شكل صحيح؛ لأنه لم يتبع أسلوب فهم القرآن الكريم باستقراء الآيات المتعلقة بموضوع واحد على شكل مجموعات. ومن أجل ذلك اختلف الفقهاء في السعي. منهم من أخذ الآية 158 من سورة البقرة فقط وترك الحديث، ومنهم من أخذ الحديث فقط وترك الآية، ومنهم من لم يأخذ بالآية ولا بالحديث بل تركهما معا.

والذي أخذ الآية 158 من سورة البقرة قال: إن السعي بين الصفا والمروة مباح وليس بفرض. لأن رفع الجناح لا يدل على الفرضية.[28]

والذي أخذ بالحديث وترك الآية قال: إن السعي بين الصفا والمروة ركن للحج. يقول ابن المنذر: إن ثبت حديث بنت أبى تجراه الذي قدمناه انها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اسعوا فان الله كتب عليكم السعي؛ فهو ركن. قال الشافعي وإلا فهو تطوع. ورفع الجناح في الطواف بهما يدل على أنه مباح لا واجب .[29] والصحيح أن السعي بين الصفا والمروة فرض؛ ولا يقبل الحج من دونه، ولا شيء يحل محله، والسعي بين الصفا والمروة سبع كامل. فلو صدر ولم يكمله سبعا فإن كان إنما ترك من السابع ذراعا كان كهيئته لو لم يطف ورجع حتى يبتدئ طوافا.[30]

أما الحنفية فقد تركوا الكتاب والسنة في مسألة السعي. يقول السرخسي: وعند الشافعي رحمه الله تعالى السعي ركن لا يتم لأحد حج ولا عمرة إلا به. واحتج في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سعى بين الصفا والمروة وقال لأصحابه رضي الله عنهم إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا. والمكتوب ركن وقال صلى الله عليه وسلم ما أتم الله تعالى لامرىء حجة ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة.

وحجتنا في ذلك قوله تعالى: «فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما» (سورة البقرة، 2 /  158)، ومثل هذا اللفظ للإباحة لا للإيجاب، فيقتضي ظاهر الآية أن لا يكون واجبا ولكنا تركنا هذا الظاهر في حكم الإيجاب بدليل الإجماع فبقي ما وراءه على ظاهره.[31]

وقول السرخسي “حكم الإيجاب بدليل الإجماع”، لا أصل له، لأن غير الحنفية لا يقولون بالوجوب بالمعنى الذي عندهم حتى يكون إدعاء الاجماع في المسألة صحيحا.

كما رأينا واضحا فإنّ الحنفية حكموا في مسألة توقيفية بدون دليل. أما الآخرون فلم يستطيعوا التوفيق بين الحديث والآيات المتعلقة بالمسألة.

  1. الاشراف على النكاح (الولاية في النكاح)

وبعد أن بين الله تعالى المحرمات في النكاح قال: «وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ» (سورة النساء، 4 / 24). والآية المتشابهة التي ترتبط بمسألة النكاح هي قوله تعالى: «وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (سورة النور، 24 / 33).

والآية المتشابهة التي ترتبط بالمطلقة هي قوله تعىالى: «فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» (سورة البقرة، 2 / 232).

والآية المتشابهة التي ترتبط بالمتوفى عنها زوجها هي قوله تعالى: « فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ»  (سورة البقرة، 2 / 234).

والقرآن (المجموعة) هنا تكونت من أربع آيات. وقد استنبط النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المجموعة الحكمة، ووصل إلى الحكم الصحيح، بأن :لا نكاح إلا بولي”.[32]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ” ثلاث مرات ” فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له”.[33]

والمعلومات التي بلغتنا من المذاهب تدل على أن العلماء كانوا غير مقيدين بالكتاب والسنة. وعلى سبيل المثال فإن الآراء السائدة في المذهب الحنفي لا تشترط الولاية في النكاح. ولا يوجد عندهم حديث واحد يستدلون به على آرائهم. وقد استدلوا بجزء من الآية؛ وهي قوله تعالى «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ» (سورة البقرة، 2 / 234). وتركوا دوام الآية وهو «بالمعروف» وهي الكلمة الأساسية في استنباط الحكم من الآية. فمعنى الآية: أن النساء اللواتي يتوفى عنهن أزواجهن إذا انقضت عدتهن (بلغن أجلهن)، فلا جناح عليهن ولا حرج في الزينة والتعريض بالرغبة في الزواج، ولا في أن يأتين شريف الأعمال التي يرضاها الشرع، ليصلن بها إلى الزواج بشرط أن تكون تلك الأعمال وفق المعروف. ومن المعروف أن يتم الزواج تحت إشراف أولياء الأمور.

والجزء الآخر الذي استدل به الحنفية من الآية هو « أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ» (سورة البقرة، 2 / 232). وقد تركوا في هذه المرة صدر الآية وهو قوله تعالى: «فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ» أي لا تمنعوهن. والمنع لا يكون إلا لأولياء الأمور الذي لهم الحق في الإشراف على النكاح. ولو أخذوا الآية بأكملها لم تصلح أن تكون دليلا لهم. وكذلك تركوا من الآية الشرط وهو قوله تعالى: « إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» وهو الجزء الذي يدل على ضرورة الإشراف على النكاح من قبل الأولياء. وتجزئة الآية على هذا الشكل أخرج الأحاديث المتعلقة عن الإعمال.[34]

وقد ذهب كل من المالكية والشافعية والحنابلة إلى النقيض من آراء الحنفية؛ حيث اعطوا للولي كل الحقوق في النكاح حتى أخرجوا المرأة من أن تكون طرفا في النكاح. كما قالوا: إن الولي ركن في النكاح. ولا يجوز النكاح الذي لم يكن فيه الولي طرف عن المرأة. ولا حق للمرأة أن تمثل نفسها أو غيرها في النكاح. كما لا يجوز لها أن تعيِّن وليا من غير الأولياء؛ وإلا كان النكاح فاسدا.[35]

فهم يرون أن الولاية في النكاح نوعان. إحداهما ولاية مجبرة. والثانية ولاية غير مجبرة. ولاية الأب للبكر ولاية مجبرة. فله أن ينكحها بدون إذنها حتى لمن لا ترغب فيه.

والولاية غير المجبرة تنقسم إلى قسمين؛ أحدهما عامة؛ وهي ولاية السلطان لمن لا ولي لها. والأخرى خاصة؛ وهي ولاية الأقارب للمرأة من غير الأب، كما أن ولاية الأب على بنته الثيب ولاية غير مجبرة.. والآية التي استدلوا بها هي الآية التي قام الحنفية بتجزئتها. «فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» (سورة البقرة، 2 / 232).ذ

فهم لم يكتفوا بتجزيئة الآية، بل ذهبوا إلى تحريف معانيها، وأخذوا “فلا تعضلوهن” فقط. وحرفوا معناه حيث قالوا: فلا تمتنعوا من تزويجهن. ولو فسروا هذا الجزء من الآية «فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ» أي فلا تمنعوهن أن ينكحن ممن يردن الزواج منهن، لكان من الضرورة أن يُفهم كون المرأة طرفا في النكاح. لأنه لا يقال منعت “زيدا” من فعل كذا إلا إذا كان “زيدٌ” بيده حق التصرف. ولكن حرفوا معنى الآية ثم قالوا أنه ليس للمرأة حق التصرف في النكاح.[36]

وترك الشرط في الآية وتحريف الأمر لم يكن كافيا لهم.  لأن الفاعل (الضمير المستتر) في قوله تعالى: “ينكحن” يعود على المرأة. وهو مما يمنعهم من القول بأن المرأة ليس طرفا في النكاح؛ فقالوا فيه بالمجاز حتى يتجاوزوا هذا المانع، ففعلوا حتى أخرجوا المرأة من أن تكون طرفا في النكاح.

وكون المرأة هنا فاعلا لفعل النكاح هو لكونها موضعا للنكاح. وعلى قول المذاهب الثلاثة فإن المرأة لا تستطيع أن تكون طرفا في النكاح؛ وعلى هذا فلا يجوز لها أن تتولى إنكاح شخص آخر.

وقد استدلوا على رأيهم بأحاديث؛ منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ” ثلاث مرات ” فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له”.[37]

وقد قيدوا الولاية الواردة في هذا الحديث بإذن الولي للنكاح. فإذا لم يأذن الولي فللمرأة أن تتقدم إلى السلطان. وهو مما يدل على أن الفاعل في النكاح هو المرأة. وعلى هذا فلا يكون الحديث دليلا على آراء المذاهب الثلاثة.

عن ابن بريدة عن أبيه قال: – جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه و سلم . فقالت إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال فجعل الأمر إليها . فقالت قد أجزت ما صنع أبي . ولكن أردت أن تعلم الآباء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء.[38]

 وتعامل المذاهب مع المسألة بطريقة خاطئة أوقعهم في خطأ لا يمكن العفو عنه، كما كان سببا في نشوء مشاكل كثيرة يصعب حلها. ذلك أن قول الحنفية بجواز النكاح بدون وليّ أدى إلى عقد النكاح السري بين شخصين، وإختطاف البنات وإغتصابهن. وبقيت المحاكم الشرعية لا تستطيع التدخل في مثل هذا النكاح، لأنهم يجيزون نكاح المجبرة.

أما آراء الشافعية والمالكية والحنابلة، فقد كانت سببا لدفع مبلغ مشروط لولي المرأة. كما أدت إلى أن تكون الفتاة ضحية في زواج من لا ترغب به، مما سيفقدها السعادة في الحياة الزوجية، وقد يتطور الأمر إلى ما هو أسوأ أي الانتحار. أو الهروب من حجيم الحياة الزوجية لكن ليس إلى بيت أبيها بل مع رجل غرر بها، وهو ما يؤدي لما يعرف بـ  (جرائم الشرف).

ولو اتبعنا الآيات والأحاديث المتعلقة على الوجه الأمثل لم يكن هناك داع للانتحار أو الهروب، ولم يكن شقاء في الحياة الزوجية، كما لم يكن ثمة سبيل إلى دفع المبلغ المشروط لولي المرأة.

خلاصة الكلام

كما رأينا فإن التعامل مع القرآن الكريم ومحاولة فهمه خلافا لمنهجه القويم، يكون عائقا أمام فهمه كما ينبغي. كما يتعذر الوصول إلى الحكمة التي هي الأساس الثاني في فهم الإسلام. وكذلك فإن مخالفة منهج القرآن الكريم في فهمه والفصل بين الكتاب والسنة هو مما يؤدي إلى تراكم المشاكل بالرغم من أن ديننا الحنيف منبع السعادة للبشرية جمعاء. ونتيجة لذلك البعد عن المنهج القويم أصبح المسلمون مصدر المشاكل بدلا من أن يكونوا روادا في الحلول. ولا يمكن أن ينهض المسلمون من جديد بدون الفهم الصحيح للدين الحنيف. ولا يتأتى ذلك إلا بالعودة إلى المنهج القرآني في فهم دينهم، لترتفع الراية من جديد…

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
ترجمة: محمد روزي باقي

[1]  بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز، 1 / 58-59.

[2]  البخاري، كتاب التفسير. النسائي، الافتتاح 26.

[3]  معجم مقاييس اللغة، مادة: مكث.

[4]  ثم الثاء والميم أصلٌ واحد، هو اجتماعٌ في لِينٍ. يقال ثَمَمْتُ الشيءَ ثمّاً، إذا جمعتَه. وأكثرُ ما يُستعمل في الحشيش. ويقال ثَمَمْتُ الشيءَ أثُمُّه ثَمّاً، إذا جمعتَه ورمَمْتَه (أنظر: معجم مقاييس اللغة، مادة: ثم) .

[5]  معجم مقاييس اللغة، مادة: كتب.

[6]  المفردات، مادة: كتب

[7]  المفردات، مادة: أي.

[8] ابن منظور، لسان العرب، مادة: شبه.

[9]   البيضاوي، ج. 2 / ص. 323.

[10]   المفردات، مادة: أول.

[11]  أبو منصور محمد بن أحمد، تهذيب اللغة، تحقيق: محمد بن عواد معرب، بيروت 2001 عدد الأجزاء 15، جـ. 15، صـ. 329.

[12]  البخاري  في الصحيح (122) و (3278) و (3401) و (4725) و (4727) و (6672) ، ومسلم (2380) (170) ، وأبو داود (4707) ، والترمذي (3149) ، والنسائي في “الكبرى” (11308) وعبد الرزاق في “تفسيره” 1/408-410، والحميدي (371)

[13]  أنظر لسان العرب لابن منظور مادة: مثل.

[14]  لبب (الصّحّاح في اللغة) ابن السكيت: ألَبَّ بالمكان، أي أقام به ولزِمه. قال الله تعالى: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ»  (الزمر، 39 /  18)

[15]  الهداية: هي التوجيه بلطف. والهديا من الله على أربعة أنواع.

  1. بيان الله تعالى لكل المكلفين أنه موجود وواحد على التوالي. لذا جعل كل إنسان مكلفا بإجتناب الشرك فقال تعالى: « إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا» (سورة النساء، 4 / 48).
  2. إعطاء الله تعالى الإنسان ملكة بها يستطيع أن يميز الخير من الشر. قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام:  «قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» (سورة طه، 20 / 51). ليست الآية ما في القرآن الكريم فحسب؛ بل هي كثيرة في الآفاق وفي الأتفس. ومنها نحصل على المعلومات الضرورية. قال الله تعالى في كتابه الكريم:  «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» (سورة الذاريات، 51 / 20-21).
  3. إرساله الرسل لهداية الناس. قال الله تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» (سورة الأنبياء، 21 / 73).
  4. إكرام الله تعالى لعبده بالهداية. وهي إما لمن يريد الهداية. كما في قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (سورة إبراهيم، 14 / 4). أو لمن اعتدى بالفعل. كما في قوله تعالى: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (سورة التغابن، 64 / 11).

[16]  لسان العرب، ابن منظور، مادة: شبه.

[17]  مسند أحمد بن حنبل، جـ. 1، صـ. 269. (مسند عبد الله بن عباس).

[18]  إشارة إلى قوله تعالى: «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (سورة الأنعام، 6 / 83-88).

[19]  جاء في المفردات أن الذكر، هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة. وفيها أيضا أن المعرفة هي إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره. (أنظر المفردات، مادتي الذكر والممعرفة). وعلى هذا يطلق الذكر على ما يتحصل من المعلومات بتفكر وتدبر لأثره، وحفظه على وجه الاتقان. ويقال أيضا استحضار تلك المعلومات والتلفظ باللسان ذكرا. وهذا المعنى لا يوجد إلا في المفردات. وقد جاء في معاجم آخرى أنه ضد النسيان؛ فلم يفترق الذكر عن الحفظ عندهم.

وحين ندرس الآيات المتعلقة بالذكر نرى أن صاحب المفردات وفق إلى معلومات قيمة يتميز عن الآخرين الذين لم يفسروا الذكر بمعناه الأصلي بل فسروه بالمعانى الثانوية. فالمعنى الأصلي للذكر هو المعرفة أي المعلومات الصحيحة عند الجميع. ويمكن الحصول عليها من الآيات المخلوقة والآيات المنزلة. لذا سمي القرآن الكريم بالذكر. قال الله تعالى: « بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة النحل، 16 / 44).

والذكر الاسم المشترك لجميع الكتب المنزلة من الله تعالى. «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ» (سورة الأنبياء، 21 / 24). وعلى هذه الآية فوظيفة الأنبياء هي التذكير. ويؤيد ذلك قوله تعالى: « فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ» (سورة الغاشية، 88 / 21). وكذلك مهمة الناس هي التذكر. «وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ» (سورة الأتعام، 6 / 80).

[20]  وفعل سلط بني على المجهول، ونائب الفاعل هو ذاك الشخص الذي أعطي مالا. أي أنه أجبر نفسه ليصرف ماله في سبيل الحق، وبهذا استحق المدح. ولو كان الفاعل غيره، لما استحق المدح لأنه قام بصرف ماله مكرها.

[21]  صحيح البخاري، كتاب العلم، 25.

[22]  صحيح البخاري، فضائل الصحابة، 24.

[23]  ابن منظور، لسان العرب، مادة: فصل. وقوله عز وجل كتاب فصَّلناه له معنيان أَحدهما تَفْصِيل آياتِه بالفواصِل والمعنى الثاني في فَصَّلناه بيَّنَّاه.

[24]  أحمد بن  حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح البخاري، 3 / 500، وجوب السعي بين الصفا والمروة.

[25]  الشافعي، الأم، 2 / 173.

[26]  صحيح البخاري، كتاب الحج، رقم الحيدث: 1277 / 259؛ وابن ماجة، المناسك، 43.

[27]  مسند أحمد بن حنبل، 45 / 252، 363، 367؛ مسند الشافعي، 1 / 372، 2 / 264.

[28]  أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، المجموع شرح المهذب، 8 / 77.

[29]  المجموع شرح المهذب، 8/ 77.

[30]  الأم، الإمام الشافعي، 2 / 210.

[31]  المبسوط، الإمام السرخسي، 4 / 50.

[32]  سنن الترمذي، كتاب النكاح، باب 14، رقم الحديث: 1101؛ سنن ابن ماجة، كتاب النكاح، باب 15، رقم الحديث: 1880؛ مسند أحمد بن حنبل، 6 / 260.

[33]  سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب 20، رقم الحديث: 2083؛ 0 سنن الترمذي، كتاب النكاح، باب 14، رقم الحديث: 1102؛ سنن ابن ماجة، كتاب النكاح، باب 15، رقم الحديث: 1879؛ مسند أحمد بن حنبل، 6 / 66.

[34]  سرخسي، المبسوط، 5 / 11-12.

[35]  ابن قدامة، المغني، 7 / 5.

[36]  أنظر: ابن قدامة، المغني، 7 / 338.

[37]  سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب 20، رقم الحديث: 2083؛ 0 سنن الترمذي، كتاب النكاح، باب 14، رقم الحديث: 1102؛ سنن ابن ماجة، كتاب النكاح، باب 15، رقم الحديث: 1879؛ مسند أحمد بن حنبل، 6 / 66.

[38]  سنن النسائي، كتاب النكاح، 36؛ سنن ابن ماجة، كتاب النكاح12، رقم الحديث: 1874؛ سنن أبي داود، كتاب النكاح26، رقم الحديث: 2096؛ مسند أحمد بن حنبل، 6 / 136. واللفظ للنسائي.

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.