حبل الله
جزاء المرتد

جزاء المرتد

جزاء المرتد

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

ما علمناه من تراثنا الإسلامي أن المرتد يقتل حدا، ويُحكم على تارك الصلاة بالردة فيقتل كذلك، وبعبارة أخرى وجدنا آباءنا الأولين يقولون بقتل المرتد كما يعدّون تارك الصلاة مرتدا ويفتون بقتله، وقد سرنا على آثارهم وزعمنا أن قولهم هذا لا يخالف القرآن والسنة، حتى منّ الله علينا إذ وفقنا إلى فهم القرآن والسنة معا كما وفقنا إلى تصحيح مفاهيمنا القديمة على ضوئهما، وقد تبين لنا أن حكم قتل المرتد ليس من أحكام القرآن وأنه لم يُقتل أحدٌ بسبب ارتداده عن الدين في عهد النبوة.

والمذاهب كلها اتفقت على قتل المرتد وعلى قتل تارك الصلاة تبعا لذلك، وكتب تلك المذاهب مملوءة بفتاوى العلماء في جواز بل وجوب قتلهما مستدلين بحديثين ورد أحدهما في صحيحي البخاري ومسلم، والآخر في صحيح البخاري فقط، ولذلك يعتقد المسلمون اليوم أن قتل المرتد وقتل تارك الصلاة أمر شرعي يجب إقامته، ويحسون بالتقصير لعدم تطبيقهم حكم القتل على الذين يخرجون من الدين (المرتدين) أو على الذين يتركون الصلاة.

والآيات المتعلقة بحرية الإنسان في اختيار الدين تدلّ على أن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، بينما الحديثان السابق ذكرهما يدلان على وجوب قتل المرتد، ولا يمكن أن يوجد أي اختلاف وأي تضاد بين كتاب الله وسنة رسوله.

فلما كان الأمر كذلك وجب علينا أن نقوم برحلة في أعماق التاريخ الإسلامي باحثين عن أول من حدث بهما، حتى إذا وصلنا إلى عصر العباسيين وجدناهم يقتلون مخالفيهم بحكم قاضيهم. وقاضيهم يستدل بأحد الحديثين المذكورين، حتى يذكره أمام الخليفة العباسي الذي يجلس على سريره، والقادة العباسيون يقومون حوله وسيوفهم مصلتة. وحينذاك بدأنا نحس أن في كلا الحديثين دخنا وشيئا من الكذب ونشم منهما رائحة اللعب بديننا المطهر الذي لا يجبر أحدا على قبوله كما لا يجبر أحدا على البقاء فيه. وكيف يجبر والحال أن أساس الإسلام هو الإيمان ومحل الإيمان هو القلب، والقلب لا يمكن أن يُجبر على قبول شيء أو رده؟

لأجل ذلك حاولنا أن نبحث في رواة الحديثين اللذَين يُستدل بهما على قتل المرتد وتارك الصلاة. ونعرض متنيهما على الآيات المتعلقة بالموضوع انسجاما مع أصولنا التي نسير عليها ونكتب بحوثنا بناء عليها. وفي بداية الأمر نذكر الحديثين ثم ننقل ما قد قيل في رواتهما من بعض كتب التراجم والرجال. ثم نعرض متنيهما على الآيات المتعلقة بحرية الإنسان في الدين. ثم نجتهد في التعرف على من افتراهما من خلال الظروف السياسية في العهدين الأموي والعباسي.

والله ولي التوفيق

1- الحديث الأول

 روى البخاري: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ[1]

أول سلسلة البخاري هو عمر ابن حفص الذي يحدث عن أبيه حفص ابن غياث، وهو أبو عمر النخعي الكوفي قاضى الكوفة، وأما باقى السلسلة المكونة من حفص ابن غياث، والأعمش، وعبد الله ابن مرة، ومسروق فهي ترد في سلسلة مسلم أيضا، فنتعرف إليهم عندما نذكر أحوال سلسلة مسلم من خلال الحديث التالي:

روى مسلم: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ[2]

رواة هذا الحديث

نرى أن مسلما[3]. ذكر الحديث معتمدا على سند من سبعة رجال. ومن المفيد أن نتعرف أحوال هؤلاء الرواة وما قيل فيهم بحسب ما ورد في كتاب “ميزان الإعتدال” كما يلي:

الراوى الأول: أبو بكر بن أبى شبية واسمه الحقيقى عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، أبو بكر الحزامى المدني. قال أبو أحمد الحاكم: ليس بالمتين عندهم. وقال أبو بكر بن أبي داود: ضعيف. وقال ابن حبان في الثقات: ربما أخطأ. مات في حدود العشرين ومائتين[4] .

الراوى الثاني: حفص بن غياث وهو أبو عمر النخعى القاضي قال عنه أبو زرعه: ساء حفظه بعد ما استقضى، أى بعد أن تولى القضاء، وقال داوود بن رشيد: حفص بن غياث كثير الغلط. وقال عنه ابن عماد: كان عسراً فى الحديث جداً … وقال عبد الله بن أحمد ابن حنبل: سمعت أبي يقول في حديث حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: “خمروا وجوه موتاكم ولا تشبهوا باليهود”. فأنكره أبي، وقال: أخطأ. وقال ابن حبان صاحب يحيى بن معين: سألت أبا زكريا عن حديث حفص بن غياث، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا نأكل ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي. فقال: لم يحدث به أحد إلا حفص، كأنه وهم فيه، ويروى عن أحمد أنه قال: كان حفص يخلط في حديثه. مات حفص سنة أربع وتسعين ومائة على الصحيح. (انظر: سير أعلام النبلاء وميزان الإعتدال).

الراوي الثالث: أبو معاوية الضرير وإسمه محمد بن خازم -بمعجمتين- الكوفي. قال عنه الحاكم: احتج به الشيخان. وقد اشتهر عنه الغلو أي غلو التشيع. وروى عباس عن ابن معين قال: روى أبو معاوية عن عبيد الله أحاديث مناكير. وَقَالَ يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ: ثِقَةٌ، رُبَّمَا دَلَّسَ، كَانَ يَرَى الإِرْجَاءَ (أى أنه مدحه ثم اتهمه بالتدليس وبأنه من المرجئة)، فَيُقَالُ: إِنَّ وَكِيْعاً لَمْ يَحضُرْ جِنَازَتَه لِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَ رَئِيْسَ المُرْجِئَةَ بِالكُوْفَةِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ حَافِظاً، مُتْقِناً، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُرْجِئاً، خَبِيثاً. ومات سنة خمس وتسعين ومائة. وله اثنتن وثمانون سنة (انظر: سير أعلام النبلاء وميزان الإعتدال، تقريب التهذيب)

 

الراوى الرابع: هو وكيع: واسمه وكيع بن الجراح، أبو سفيان الرؤاس الكوفى. قال عنه ابن المدنى كان وكيع يلحن. وسئل أحمد بن حنبل: إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن ابن مهدي بقول من نأخذ؟ فقال: عبد الرحمن يوافق أكثر وخاصة في سفيان، وعبد الرحمن يسلم منه السلف ويجتنب شرب المسكر. قال ابن المديني في التهذيب: وكيع كان فيه تشيع قليل (ميزان الإعتدال).

الراوى الخامس: الأعمش واسمه سليمان بن مهران أبو محمد الكاهلى الكوفى الأعمش. قال عنه الذهبى: ما نقموا عليه إلا التدليس وهو يدلس. وقال عنه ابن المبارك: إنما أفسد حديث الكوفة أبو إسحاق والأعمش. قال عنه ابن جرير بن عبد الحميد أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وإعيمشكم هذا وقال عنه أحمد بن حنبل: فى حديث الأعمش اضطراب كثير، وقال إنه كان يروى عن أنس مع أن روايته عن أنس منقطعة لأنه ما سمع من أنس. وقال عنه أبو داود روايته عن أنس ضعيفة. وقال عنه ابن المدنى: الأعمش كان كثير الوهم. أما الحاكم النيسابورى فقد جعله من المدلسين وأورد فيه رأى الشاذكونى القائل: من أراد التدين بالحديث فلا يأخذ عن الأعمش ولا عن قتادة إلا إذا قالا: سمعناه.. مات سنة ثمان وأربعين ومائة.

الراوي السادس: عبد الله بن مرة (الْهَمْدَانِيّ الخارفي الكوفي كما يقول العسقلاني في فتح الباري). قال عنه ابن حجر العسقلاني ثقة[5] من الثالثة[6].

الراوي السابع: مسروق (ابن الأجدع ابن مالك الهمداني الوادعي أبو عائشة الكوفي ثقة فقيه عابد مخضرم من الثانية- تقريب التهذيب)[7].

والخلاصة أن سلسلة مسلم في حديث “لا يحل دم امرئ مسلم…” تتكون من سبعة رجال، خمسة رجال منهم طعنوا فيهم ورجلان منهم متفق على ثقتهما.

2- الحديث الثاني

روى البخاري[8]:

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ، لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» وَلَقَتَلْتُهُمْ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»[9].

ويذكر البخاري هذا الحديث في موضع آخر من كتابه “الجامع الصحيح”[10] بسند يختلف عن سنده الأول ويقول: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ: …

وسند البخاري وإن اختلف في الموضعين في البداية ينتهي إلى عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه. ولم أجد في كتب الترجمة والرجال قولا قادحا في رجال البخاري إلا في أبي النعمان.

وأبو النعمان هو شيخ البخاري، اسمه محمد بن الفضل السَّدُوسِيُّ، وَعَارِمٌ لَقَبه، كنيته: أبو النعمان، وَتُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ. وعنه روى البخارى حديث عكرمة فى قتل المرتد، قال فيه أبو حاتم: اختلط عارم في آخر عمره، وزال عقله ، واعترف البخارى بأنه تغير عقله وقال: تغير عارم في آخر عمره، وقال أبو داود: بلغى أن عارما أنكر سنة ثلاث عشرة ومائتين، ثم راجعه عقله، ثم استحكم به الاختلاط سنة ست عشرة ومائتين. وقال الدارقطني: تغير بأخرة، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر. وقال ابن حبان: اختلط فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَتَغَيَّرَ حَتَّى كَانَ لاَ يَدْرِي مَا يُحَدِّثُ بِهِ، فَوَقَعَ فِي حَدِيْثِهِ المَنَاكِيْرُ الكَثِيْرَةُ فيجبُ التَّنَكُّبُ عَنْ حَدِيْثِهِ فِيْمَا رَوَاهُ المُتَأَخِّروْنَ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ هَذَا مِنْ هَذَا تُرِكَ الكُلُّ، وَلاَ يحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا[11].

وذلك ما قيل عن أبى النعمان محمد بن الفضل الملقب بعارم، وأما عكرمة (أبو عبد الله القرشي، مولاهم المدني ، البربري الأصل) فقد قالوا عنه ما يلي:

تكلم فيه لرأيه لا لحفظه فاتُّهم برأى الخوارج. وقد وثقه جماعة، واعتمده البخاري وأما مسلم فتجنبه، وروى له قليلا مقرونا بغيره، وأعرض عنه مالك وتحايده إلا في حديث أو حديثين. قال وهيب: شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب، فذكرا عكرمة، فقال يحيى: كذاب. وقال أيوب: لم يكن بكذاب. وأيوب هو الذي روي هذا الحديث عن عكرمة يدفع التهمة عن عكرمة في كل فرصة سنحت له كما في الرواية التالية: قال أحمد بن أبي خيثمة: رأيت في كتاب علي بن المديني، سمعت يحيى بن سعيد يقول: حدثوني والله عن أيوب أنه ذكر له عكرمة لا يحسن الصلاة، فقال أيوب: وكان يصلى.

روى جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: دخلت على علي ابن عبد الله فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش (دورة المياه)، فقلت له: ألا تتقى الله! فقال: إن هذا الخبيث يكذب على أبي.

ويروى عن ابن المسيب أنه كذب عكرمة، حدثنا خالد بن خداش، شهدت حماد بن زيد في آخر يوم مات فيه، فقال: أحدثكم بحديث لم أحدث به قط، لانى أكره أن ألقى الله، ولم أحدث به. سمعت أيوب يحدث عن عكرمة، قال: إنما أنزل الله متشابه القرآن ليضل به. قلت: ما أسوأها عبارة، بل أخبثها، بل أنزله ليهدى به وليضل به الفاسقين.

روى مسلم بن إبراهيم، حدثنا الصلت أبو شعيب، قال: سألت محمد بن سيرين عن عكرمة، فقال: ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة، ولكنه كذاب. روى إبراهيم بن المنذر، حدثنا هشام بن عبد الله المخزومي، سمعت ابن أبي ذئب يقول: رأيت عكرمة، وكان غير ثقة.

قال ابن المديني: كان يرى رأى نجدة الحروري. وقال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأى الخوارج. روى خالد بن نزار، حدثنا عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح – أن عكرمة كان أباضيا.

أبو طالب، سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان عكرمة من أعلم الناس، ولكنه كان يرى رأى الصفرية، ولم يدع موضعا إلا خرج إليه: خراسان، والشام، واليمن، ومصر، وإفريقية، كان يأتي الأمراء فيطلب جوائزهم.

وروى سليمان بن معبد السنجى، قال: مات عكرمة وكثير عزة في يوم، فشهد الناس جنازة كثير، وتركوا جنازة عكرمة. قال جماعة: مات سنة خمس ومائة. وقال الهيثم وغيره: سنة ست. وقال جماعة: سنة سبع ومائة.

وعن ابن المسيب أنه قال لمولاه برد: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس.

قِيل لطاوُوس أَنَّ عِكرمَة مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ لا يدافعن أحدكم الغائط والبول فِي الصلاة أو قَالَ كلاما هذا معناه قال طاووس المسكين لو اقتصر عَلَى ما سمع كَانَ قد سمع علما.

وقال محمد بن سعد: كان كثير العلم، بحرًا من البحور، وليس يحتج بحديثه، ويتكلم الناس فيه

وَقَال إِبْرَاهِيم بْن المنذر الحزامي، عن معن بن عيسى ومطرف بن عبد الله المدني ومحمد بن الضحاك الحزامي، قالوا: كان مالك لا يرى عكرمة ثقة، ويأمر أن لا يؤخذ عنه.

وَقَال عَباس الدُّورِيُّ: عَن يحيى بن مَعِين: كان مالك بن أنس يكره عكرمة

وَقَال أيضا: سمعت أَبَا عَبْد اللَّهِ، قال: عكرمة مضطرب الحديث

وَقَال شبابة أيضا: أخبرني أبو الطيب موسى بن يسار، قال: رأيت عكرمة جائيا من سمرقند، وهو على حمار تحته جوالقان فيهما حرير أجازه بذلك عامل سمرقند، ومعه غلام.

قال: وسمعت عكرمة بسمرقند، وقيل له: ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ قال: الحاجة.

وَقَال عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبي رواد: قلت لعكرمة: تركت الحرمين وجئت إلى خراسان؟ قال: أسعى على بناتي. وَقَال عِمْران بن حدير: تناول عكرمة عمامة له خلقا، فقال رجل: ما تريد إلى هذه العمامة، عندنا عمائم نرسل إليك بواحدة، قال: أنا لا آخذ من الناس شيئا إنما آخذ من الأمراء.

قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: عِكْرِمَةُ بنُ خَالِدٍ المخزومي أَوْثَقُ مِنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عِكْرِمَةُ مُضْطَرِبُ الحَدِيْثِ[12].

أول سلسلة البخاري فى رواة حديث “من بدل دينه فاقتلوه” هو أبو النعمان محمد بن الفضل الملقب بعارم، وعكرمة آخرها. فأول السلسلة جرح بتغير عقله، وآخرها بالكذب والافتراء.

3- عرض معنى الحديثن المذكورين على القرآن الكريم

معنى الحديثين المذكورين يدل على جواز قتل المرتد وتارك الصلاة بل يدل على وجوب ذلك. والآيات المتعلقة بالموضوع لا تجيز قتل إنسان إلا بأحد أمرين: أحدهما قتله إنسانا آخر بغير حق، والآخر فساده في الأرض. قال تعالى: ﴿… مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً … ﴾ المائدة32.

وهل يكون من ارتد عن دينه قاتل نفس بغير نفس؟ أو مفسدا في الأرض؟ .

أما جزاء المرتد في القرآن فهو حبوط عمله وعدم مغفرة الله له وعدم هدايته. قال تعالى: ﴿…وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة 217).

تدل تلك الآية دلالة واضحة على أن من يرتد من المسلمين عن دينه لا يُقتل، وإنما يُجزى بحبوط عمله في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ (النساء 137).

إن كفرهم بعد إيمانهم ثم إيمانهم بعد كفرهم ثم كفرهم بعد إيمانهم ثم ازديادهم كفرا يدل على أنهم لا يقتلون بعد كفرهم. بل يحيون بعد أن كفروا، ثم إن شاؤا آمنوا ثم إن شاؤا كفروا. وجزاؤهم عدم الغفران لهم وعدم هداية الله إياهم.

وقال تعالى مبينا جزاء المرتدين: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران 86-89).

هناك قوم آمنوا وشهدوا أن الرسول حق يعني قالوا: نشهد أن الرسول (محمدا عليه الصلاة والسلام) صادق في دعواه، وما جاء به هو الحق، وقامت لديهم البراهين على صدقه، ثم كفروا بعد هذا الإيمان وبعد هذه الشهادة وبعد قيام البراهين. فكيف يستحق هؤلاء الهداية؟ الجواب: لا يستحقونها لأن الله تعالى لا يهدى القوم الظالمين الذين خرجوا عن طريق الحق وتنكروا لما اهتدت إليه عقولهم.

وأما جزاؤهم فهو استحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ويبقون في اللعنة والعذاب خالدين، ولا يمهلون لمعذرة ولا يؤخرون عن العذاب لحظة. هذا جزاء الله تعالى على المرتدين. وهذا الجزاء يقع في الآخرة.

وجزاء المرتد عند غالبية المسلمين هو القتل بالرغم من أن جزاءهم في القرآن ليس كذلك. فما دليلهم؟ الجواب: دليلهم الحديثان المذكوران اللذان ذكرنا ضعفهما باعتبار الأسانيد، وذكرنا عدم موافقتهما للقرآن الكريم أيضا. إذن من اخترعهما ومن حدّث بهما أولا؟

أحد هذين الحديثن حدث به عكرمة، وهو من ذكرنا حالته بحسب ما ورد في التراجم والطبقات. وأما الحديث الآخر الذي متنه: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث…” فأول من حدث به الأوزاعي[13]. ونذكر الآن كيف حدث الأوزاعي بهذا الحديث, بل كيف اخترعه. ونترك القول لابن كثير كما ورد في كتابه “البداية والنهاية” ما نصه:

ولما دخل عبد الله بن علي – عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام- دمشق ، وأزال الله سبحانه دولتهم على يده طلب الأوزاعي فتغيب عنه ثلاثة أيَّام ثمَّ حضر بين يديه. وينقل ابن كثير رواية الأوزاعى نفسه عن ذلك اللقاء، فيقول:

قال الأوزاعي: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ وَفِي يَدِهِ خيزرانة والمسودة عن يمينه وشماله، ومعهم السيوف مصلتة – والعمد الحديد – فسلمت عليه فَلَمْ يَرُدَّ وَنَكَتَ بِتِلْكَ الْخَيْزُرَانَةِ الَّتِي فِي يَدِهِ ثمَّ قَالَ: يَا أَوْزَاعِيُّ مَا تَرَى فِيمَا صَنَعْنَا مِنْ إِزَالَةِ أَيْدِي أُولَئِكَ الظَّلَمَةِ عن العباد والبلاد؟ أجهاداً ورباطاً هُوَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخطَّاب يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ “. قَالَ: فَنَكَتَ بِالْخَيْزُرَانَةِ أَشَدَّ مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثُمَّ قَالَ: يَا أَوِزَاعِيُّ مَا تَقُولُ فِي دِمَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ؟ فَقُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ“. فَنَكَتَ بها أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَمْوَالِهِمْ؟ فَقُلْتُ: إِنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ حَرَامًا فَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا فَلَا تَحِلُّ لَكَ إِلَّا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ. فَنَكَتَ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ يَنْكُتُ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: أَلَا نُوَلِّيكَ الْقَضَاءَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ أَسْلَافَكَ لَمْ يَكُونُوا يَشُقُّونَ عَلَيَّ فِي ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤني بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ. فَقَالَ: كَأَنَّكَ تُحِبُّ الِانْصِرَافَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ وَرَائِي حُرَمًا وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى القيام عليهن وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي. قَالَ: وَانْتَظَرْتُ رَأْسِي أَنْ يَسْقُطَ بَيْنَ يَدَيَّ، فأمرني بالانصراف. فلما خرجت إذا برسوله مِنْ وَرَائِي، وَإِذَا مَعَهُ مِائَتَا دِينَارٍ، فَقَالَ يقول لك الأمير: استنفق هذه. قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفاً[14].

تلك قصة اختراع الأوزاعي لحديث “لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ…”. ويلاحظ انه ذكر الحديث “إنما الأعمال بالنيات…” بالسند، ولكنه ذكر هذا الحديث بلا سند. لأنه لم يكن موجودا بعد, فربما اخترعه عند غيابه ثلاتة أيام وأهداه للسلطة الجديدة.

4- أباطيل الأوزاعي ونموذج واحد لفتاويه المنحازة للسلطة

ومن يقرأ عن الأوزاعي يعرف جرأته على الكذب، حتى الافتراء على الله تعالى. ونذكر بعض أباطيله وترهاته وخزعبلاته ناقلا عنه. حيث قال[15]:

1- “رأيت رب العزة فى المنام فقال أنت الذى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت بفضلك يا رب، ثم قلت: يا رب أمتنى على الإسلام، فقال: وعلى السنة“.

ويختلف هذا القول في مصدر آخر: وهو كذا:

رَأَيْت كَأَن ملكَيْنِ نزلا فأخذا بضبعي فعرجا بِي إِلَى الله وأوقفاني بَين يَدَيْهِ فَقَالَ أَنْت عَبدِي عبد الرَّحْمَن الَّذِي يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر قَالَ قلت بعزتك يَا رب فرداني إِلَى الأَرْض[16].

2- وفى إحدى تلك المجالس حكى الأوزاعى عن نفسه قال “أردت بيت المقدس، فرافقت يهودياً فلما صرنا إلى طبرية، نزل فاستخرج ضفدعاً فوضع فى عنقه خيطاً فصار الضفدع خنزيراً، فقال أبيعه إلى هؤلاء النصارى، فذهب فباعه واشترى طعاماً فأكلناه ثم ركبنا، فما سرنا، غير بعيد حتى جاء القوم يطلبوننا، فقال لي: أحسبه صار فى أيديهم ضفدعاً، فحانت منى التفاتة إليه فإذا بدنه فى ناحية ورأسه فى ناحية، فوقفت وجاء القوم فلما نظروا إليه فزعوا ورجعوا عنه فقال لي الرأس: أرجعوا؟ قلت نعم. فالتأم الرأس إلى البدن وركب وركبنا فقلت له لا أرافقك أبداً أذهب عنى[17].

3- وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: خَرَجْتُ يَوْمًا إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَإِذَا رِجْلٌ[18] مِنْ جَرَادٍ فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا شَخْصٌ رَاكِبٌ عَلَى جَرَادَةٍ مِنْهَا وَعَلَيْهِ سِلَاحُ الْحَدِيدِ، وَكُلَّمَا قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا مَالَ الْجَرَادُ مَعَ يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا، الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا، الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا.

4- وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يَخْرُجُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إِلَى الصَّيْدِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْجُمْعَةَ فَخُسِفَ ببغلته فلم يبق منها إلا أذناها[19].

كان الأوزاعي لأجل فتواه التي أباد بها كلٌ من الأمويين والعباسيين مخالفيهم، ولأجل تلك الأباطيل والخرافات التي بثها ليستميل قلوب الناس إليه ويشغلهم عن مظالمهم، كان يحظى بالمحبة والتعظيم والإكرام من كلتا السلطتين، كما يقول عنه ابن كثير: “وَكَانَ لَهُ فِي بيت المال على الخلفاء إقطاع (أى أرضا زراعية أقطعوها له- أعطوها له) صار إليه من بني أمية وقد وصل إليه من خلفاء بني أمية وأقاربهم وَبَنِي الْعَبَّاسِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ”[20].

 تفيد هذه العبارة أنه قد نال الأوزاعى حظوة كبيرة عند الأمويين والعباسيين على حد سواء، فإن قيل هذا تقدير واحترام منهم للعلماء. قلنا قد رأينا عكس ذلك بحق عالم كبير حيث واجه الاضطهاد والعنت ثم القتل. ألا إنه الإمام أبو حنيفة الذى يعتبر صورة معكوسة للأوزاعى[21]. فما سبب ذلك التفريق؟ فَليُفْهَمْ.

فتواه لهشام ابن عبد الملك[22] ليقتل غيلان الدمشقي[23]

…وتكلم الدمشقي في خلافة يزيد بن عبد الملك، فلما مات يزيد أرسل إليه هشام فقال الست كنت عاهدت الله لعمر بن عبد العزيز أنك لا تكلم في شئ من كلامك؟ قال أقلني يا أمير المؤمنين. قال لا أقالني الله إن أنا أقلتك يا عدو الله، أتقرأ فاتحة الكتاب؟ قال نعم فقرأ “بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين “.

قال قف يا عدو الله على ما تستعين الله على أمر بيدك أم على أمر بيده؟ من ههنا انطلقوا به فاضربوا عنقه واصلبوه. قال يا أمير المؤمنين أبرز لي رجلا من خاصتك أناظره فإن أدرك علي أمكنته من علاوتي فليضربها، وإن أنا أدركت عليه فاتبعني به. قال هشام من لهذا القدري؟ قالوا الأوزاعي. فأرسل إليه وكان بالساحل، فلما قدم عليه قال له الأوزاعي أخبرني يا غيلان إن شئت ألقيت عليك ثلاثا وإن شئت أربعا وإن شئت واحدة. قال ألق علي ثلاثا. قال أخبرني عن الله قضى على ما نهى. قال لا أدري كيف هذا. قال الأوزاعي واحدة يا أمير المؤمنين، ثم قال أخبرني عن الله أمر بأمر ثم حال دون ما أمر. قال القدري هذه والله أشد من الأولى. قال الأوزاعي هاتان اثنتان يا أمير المؤمنين. ثم قال أخبرني عن الله حرم حراما ثم أحله. قال هذه والله أشد من الأولى والثانية. قال الأوزاعي كافر ورب الكعبة يا أمير المؤمنين. فأمر به هشام فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه وصلب. فقال حين أمر به أدركتني دعوة العبد الصالح عمر بن عبد العزيز. قال هشام يا أبا عمرو فسِّر لنا الثلاث التي ألقيت عليه. قال قلت له أخبرني عن الله قضى على ما نهى إن الله نهى آدم عن أكل الشجرة ثم قضى عليه أن يأكل منها. قلت له أخبرني عن الله أمر بأمر ثم حال دون ما أمر إن الله عز وجل أمر إبليس بالسجود لآدم فحال بينه وبين أن يسجد له. وقلت له أخبرني عن الله عز وجل حرم حراما ثم أحله حرم الميتة وأعان على أكلها للمضطر إليها. قال له هشام فأخبرني عن الأربع ما هي. قال كنت اقول له أخبرني عن الله عز وجل خلقك كما شاء أو كما شئت. فإنه يقول كما شاء ثم كنت أقول له أخبرني عن الله أرازقك إذا شاء أم إذا شئت فإنه يقول إذا شاء ثم كنت أقول له أخبرني عن الله يتوفاك حيث شاء أم حيث شئت فإنه يقول حيث شاء ثم كنت أقول له أخبرني عن الله يصيرك حيث شاء أم حيث شئت فإنه يقول حيث شاء فمن لا يقدر أن يزيد في رزقه ولا ينقص في عمره فما إليه من المشيئة شئ قال هشام فأخبرنا عن الواحدة ما هي قال كنت أقول له أخبرني عن مشيئتك مع مشيئة الله أو دون مشيئة الله فعلى أيهما أجابني حل قتله إن قال مع مشيئة الله صير نفسه شريكا لله وإن قال دون مشيئة الله انفرد بالربوبية فقال هشام لا أحياني الله بعد العلماء ساعة واحدة[24].

الخلاصة

إن المصيبة الكبرى التي حلت بالمسلمين منذ أزمنة بعيدة هي الإعتقاد بأن الأحاديث التي وردت في كتب الأحاديث المعتبرة وشهد لها المحدثون والشراح بالصحة باعتبار الأسانيد مقطوعٌ بنسبتها إلى رسول الله، والمصيبة الأكبر أن أعطيت قدسية موازية للقرآن لتضع أحكاما مستقلة عنه.

ولم يفْطَن معظم المسلمين أن قول راو أو محدث أو شارح عن حديث واحد “صحيح” لا يعني أنه يوافق القرآن الكريم، بل لأنه يوافق المبادئ التي حددها هو لنفسه. وقد فرقوا في البداية بين القرآن والسنة، ثم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وتفرقوا فرقا وأحزابا، وأسسوا مذاهب ومشارب “كل حزب بما لديهم فرحون” وكتب كل فريق كتابه بيده، ثم اتخذه دستورا في الدين، ثم قرأ كلُّهم القرآن للحصول على الثواب.

وفي الأصل كان يجب عليهم أن يجعلوا من القرآن الذي أنزله الله تعالى تبيانا لكل شيء منبعا وحيدا لهم يرجع الناس إليه في أمور دينهم ومنطلقا لفهم الكون والحياة، وكان حريا بهم أن يجعلوا من رسول الله المبعوث رحمة للعالمين أسوة لهم في تطبيق القرآن في واقع الحياة. وكان يجب أن يعرضوا الأحاديث الواردة في أي مصدر على القرآن الكريم باعتبار المعنى. ولكننا لم نر ذلك في تراثنا الفقهي.

كان الأمر كذلك. والسؤال الذي يطرح نفسه هل تَحَسَّنَ نظر المسلمين المعاصرين لاسيما نظر علمائهم إلى القرآن؟ وهل عرفوا ضرورة عرض الأحاديث على القرآن؟ وهل بدأوا بفهم الأحاديث على ضوء القرآن الكريم؟ وهل يتساءلون بينهم: متى خسرنا؟ وكيف خسرنا؟ ولماذا؟ والله تعالى يعد المسلمين العزة في كتابه، ونحن نعيش في ذلة وهوان والحال أننا مسلمون؟ فلم هذا الذل والخسران؟

ولم يتحسن حال المسلمين اليوم، ولم يسألوا أنفسهم لماذا فشلوا، لأنهم تركوا طريق التحقيق والتدقيق ودخلوا طريق التبعية والتقليد، وآمنوا بأن علماءهم الأقدمين لا يخطؤون، وما في الكتب الستة لا سيما في البخاري ومسلم صحيح وصادق مائة في المائة يجب علينا أن نجعلهما منبعان في الأمور كلها. لأن أسلافنا لم يألوا جهدا في تهيئة الطريق لنا، ويزعم البعض كأنهم حضّروا لنا الطعام وما علينا سوى الأكل. ويتساءل البعض الآخر مستهجنا؛  أين نحن من علوم الأولين، لسنا منهم في شيء من الإجتهاد والسعي…باختصار هذه أحوال المسلمين اليوم في التعاطي مع الدين كما نراه وترونه.

ونحن (وقف السليمانية) نرى أن تتشكل هيئات علمية مدققة منقحة محققة متكونة من العلماء المتخصصين في مجالاتهم العلمية، تقضي أوقاتها في هذا العمل الجاد. وهذه المهمة ضرورة من ضروراتنا الحالية من أجل تحقيق هدف واحد هو أن يُفهم كتاب ربنا كما فهمه رسولنا. ولذلك نجتهد أن نكون هيئة من تلك الهيئات ونجري بحوثا علمية في المسائل المختلفة تحت ضوء القرآن والسنة. وننشرها في مواقعنا على الشبكة العنكبوتية بلغات شتى لا سيما موقعنا بالعربية (حبل الله).

وعلى هذه العادة التي اعتدناها، بل على أصولنا التي وجدناها من القرآن الكريم والتي هي تفسير القرآن بالقرآن أو فهم القرآن بالقرآن وفهم الأحاديث تحت ضوء القرآن (لأنه تابع للقرآن) بدأنا نبحث في عقوبة المرتد وعقوبة تارك الصلاة، فانتهينا إلى النتائج التي قدمناها سابقا. وتبين لنا بوضوح أنه ليس في القرآن أي دليل على وجوب قتل المرتد، بل ليس فيه أي إشارة على جواز قتله. ولم يقتل رسول الله عليه السلام من ارتد عن دينه. والأحاديث التي يُستدل بها على وجوبه إما ضعيفة وإما يُحتمل أن تكون مختلقة وكلها تتفق في مخالفتها للقرآن.  وما في كتب الفقه من وجوب قتل المرتدين غير معتبر؛ لأنه لا يعتمد على مستند قوي. وما سقط دليله فهو أولى بالسقوط.

وقف السليمانية- مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله  www.hablullah.com

أنس عالم أوغلو


 [1] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الديات، رقم الحديث: 6878

 [2] مسلم، كِتَابُ الْقَسَامَةِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ، الباب السادس، رقم الحديث: 25 – (1676)

[3]  مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (204 – 261هـ، 820 – 875م.

[4]  الكتاب: ميزان الاعتدال في نقد الرجال المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ)

[5] – أحمد بن علي بن حجر شهاب الدين/العسقلاني الشافعي الميلاد : 773 ت. الوفاة : 852، تقريب التهذيب، الصفحة 405.

[6] – الطبقة الوسطى من التابعين، فالأولى: الصحابة على اختلاف مراتبهم، الثانية: طبقة كبار التابعين كابن المسيب، الثالثة: الطبقة الوسطى من التابعين، كالحسن وابن سيرين.

[7] – ميزان الاعتدال للذهبى 6/10، 2/414، 3/215، 5/223 والحاكم النيسابورى معرفة علوم الحديث ص 105، ص 107 بيروت.

[8]  البُخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، (194 – 256هـ ، 810 – 870م)

[9] – االبخاري، كِتَابُ اسْتِتَابَةِ المُرْتَدِّينَ وَالمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ، رقم الحديث: 6922.

[10]  البخاري، كِتَابُ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ، رقم الحديث: 3017.

[11] – سير أعلم النبلاء، ميزان الإعتدال،  تهذيب التهذيب.

[12] – ميزان الإعتدال، الكامل في ضعفاء الرجال، تهذيب الأسماء واللغات، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، سير أعلام النبلاء.

[13] – إسمه التام:  عبد الرحمن بن عَمْرو بن يحمد الْأَوْزَاعِيّ الشَّامي ابْن عَم يحيى بن أبي عمر الشَّيْبَانِيّ. (88-157 هـ – 707-774 م)

[14] – ابن كثير، البداية النهاية، شيء من ترجمة الأوزاعي.

[15] – ابن الجوزي، أبو الفرج، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: ابن كثير، البداية النهاية، شيء من ترجمة الأوزاعي.

[16] – صلاح الدين الصفدي (696 – 764 هـ = 1296 – 1363 م)، الوافي بالوفيات.

[17] – أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (المتوفى: 571هـ)،  تاريخ دمشق: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ)، تاريخ بغداد.

[18] – الرجل بكسر الراء وسكون الجيم: الطائفة العظيمة من الجراد.

[19] – ابن كثير، البداية النهاية، شيء من ترجمة الأوزاعي.

[20] – ابن كثير، البداية النهاية، شيء من ترجمة الأوزاعي. الذهبي، سير أعلام النبلاء، 7/107 وما بعدها.

[21] – أنظر مناقب أبي حفيفة

[22] – هشام بن عبد الملك الأموي القرشي (71-125 هـ) (691 م – 743 م) كان عاشر خلفاء بني أمية (حكم: 105-125 هـ/724-743 م).

   [23] – وقد كان حمل راية القدرية بعد الجهنى غيلان الدمشقى الذى انضم إلى الثائرين على الخليفة هشام بن عبد الملك، وأسره الأميون وسجنوه . وكان غيلان الدمشقى من الفصحاء فاجتذب الكثير من الأتباع، لذا خشى هشام من قتله بدون محاكمة فسلط عليه الأوزاعى فقيه الأمويين فى دمشق ودارت مناقشة أو محاكمة أفتى بعدها الأوزاعى لهشام بأن يقتل غيلان وصاحبه المسجون معه، وحتى ذلك الوقت لم يذكر الأوزاعى حديث الردة فأمر هشام بإخراجهما من السجن وقطع أيديهما وأرجلهما ثم قطع لسان غيلان فمات.

[24] – أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (المتوفى: 571هـ) تاريخ دمشق, المحقق: عمرو بن غرامة العمروي الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع عام النشر: 1415 هـ – 1995 م عدد الأجزاء: 80 (74 و 6 مجلدات فهارس) [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع هو مذيل بالحواشي وضمن خدمة التراجم] 48/209

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.