حبل الله
مفهوم المصيبة في القرآن الكريم

مفهوم المصيبة في القرآن الكريم

ذكرت المصيبة في القرآن 75 مرة و ذكر الشكر نفس العدد[1] ، وتكرار ذكرها على هذا النحو لتأكيد أهمية هذا المفهوم في حياة المسلم، فإن فَهمَ معنى المصيبة فهما سليما كما أرادَ اللهُ عزّ وجل، هوَ في طليعة الأسباب التي تؤمّنُ للإنسانِ سلامتهُ النفسيّةوسعادتَهُ في الدنيا، ورضى الله عنه قبل ذلك، وبالتالي الفوز في الآخرة. أما فهم المصيبة بعيداً عن منهج القرآن الكريم فلا تترك القلب حتى يمتلئُ حِقداً وقهراً وإحباطاً وضياعاً ، فالمصائِبُ هيَ المصائب ولكنَّ الفرقَ يكمن فيمن تحل بهم وكيف يفهمونها. أيفهمونها على حقيقتها كما أراد الله عزّ وجلّ؟، أم يفهمُونها من وحي الشيطان ووساوسه. ونحاول من خلال هذه المقالة بيان مفهوم المصيبة في القرآن الكريم. والله نسال أن يوفقنا لمسعانا.
معنى المصيبة:
أولا: في اللغة: الصوب مثل الصيب وتقول صابه المطر وصوبت الفرس إذا أرسلته في الجري والصواب ضد الخطأ واستصوبه واستصابه وأصابه رآه وأصابته مصيبة فهو مصاب والصابة والمصيبة ما أصابك من الدهر وكذلك المصابة والمصوبة بضم الصاد والتاء للداهية أو للمبالغة والجمع مصاوب ومصائب، الأخير على غير قياس.[2]
يُقَالُ مُصِيبَة، ومَصُوبَة، ومُصَابَة، والجمعُ مَصَايِب، ومَصَاوِب. وَهُوَ الْأَمْرُ الْمَكْرُوهُ ينْزِل بالإنسانِ[3].
ثانيا: في الاصطلاح: يقول الجرجاني: (المصيبة ما لا يلائم الطبع كالموت ونحوه).[4]
 وقال المناوي: (المصيبة اسم لكل ما يسوء الإنسان)[5]وقال الكلبي: (المصيبة … ما يصيب من الشر)[6].
أنواع المصائب:
المصائب ثلاثة أنواع:
الأول: المصائب العامة التي تصيب الأرض والناس كالكوارث تنزل بقوم فتهلك الحرث والنسل، ومثاله في القرآن كثير، كالطوفان لقوم نوح. قال الله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ» (العنكبوت، 29 / 14).
 والخسف لقوم لوط. قال الله تعالى: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» (هود، 11 / 82-83) والريح العاتية لقوم عاد «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ» (الحاقة، 69 / 6-8) وكفساد البيئة التي حل بقوم فرعون بتسليط الدم والقمل وغيرها من الحشرات مما يفسد حياة الإنسان ويجعلها كدرا لا تطاق «وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ» (الأعراف، 7 / 132-133).
الثاني: مصائب عامة تصيب الناس دون الأرض
هذا النوع من المصائب يصيب عامة الناس دون إحداث الضرر المباشر بالبيئة وأبرز الأمثلة على مثل هذا ما حل بقوم شعيب حين أعرضوا وصدوا عن اتباع الحق قال تعالى: «وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ» (هود، 11 / 94-95).
الثالث: مصائب خاصة تصيب أفرادا دون آخرين
والسبب فيها مختلف حسب حال الشخص فمن كان كافرا معاندا فتكون المصيبة من باب العقوبة والقصاص كما حل بقارون «فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ» (القصص، 28 / 81)، وما حل بالسامري الذي أضل بني إسرائيل بعبادة العجل «قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا» (طه، 20 / 97).
وقد تكون المصيبة ليست من باب العقوبة فقد تكون ابتلاء للصبر وقد تكون كاشفة وقد تكون رادعة وخاصة تصيب الأفراد قال تعالى: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (الحديد، 57 / 22). وهذا ما سنناقشه في بيان تفسير المصيبة في كتاب الله تعالى.
تفسير المصيبةِ في كتاب الله تعالى:  
 
التفسيرُالأول: المصيبة بسبب المخالفة
لقد خلق الله هذا الكون وفق قوانين محكمة، وكل ما فيه من مخلوقات يسير ضمن المسار الذي أبدعه الله في الكون، وانفرد الإنسان بالتكليف وأعطي الإرادة الحرة، وقد أمره الله تعالى أن يسير وفق الأنظمة التي أودعها في هذا الكون لينسجم مع بقية مفرداته المسيرة، فإذا ما خرق هذه القوانين فإن العواقب ستكون كارثية على هيئة مصائب تصيبه. إن عدم التقيد بأنظمة السير _مثلا_ وقلة احتراف القيادة يؤدي إلى مصيبة على صورة حوادث السير وما ينتج عنها من هلاك الأنفس والأموال. وإذا لم يراع الإنسان القواعد الصحيحة في كسبه وأكله فأفرط في الطعام والشراب فلا بد أن يلاقي جزاء عمله تدهورا في حالته الصحية وهذا نوع من المصائب وإن كانت بعيدة عن منطق الثواب والعقاب المتعلق بمحاسبة الإنسان في الآخرة.
قال الله تعالى: مخاطبا بني إسرائيل «كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى »  (طه، 20 / 81).
وقد تكون المخالفة نتيجة الجهل وليس انقيادا للهوى، والنتيجة واحدة؛ فالإنسان لا يعذر بالجهل، وهو مطالب بمعرفة القواعد والقوانين الناظمة لحياته كي ينجو بنفسه من مصارعة القوانين والخروج عليها فتصيبه المصيبة قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (يونس، 10 / 44) .
التفسير الثاني: المصيبة بمعنى الابتلاء.
والابتلاء هوَ الامتحان، قالَ تعالى:«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ» (العنكبوت، 29 / 2). والغاية من الابتلاء تمييز المؤمن من المنافق. قالَ تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍفَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌانْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (الحج، 22 / 11).
حِكمة هذهِ المصائِب هو إظهار الإنسان على حقيقته أمام نفسه أولا وأمام المؤمنين، فيعلم أن ما ادعاه من الإيمان ليس في مكانه وعليه إصلاح نفسه قبل فوات الأوان، وكذلك حتى لا يبقى المؤمنون منخدعين بأدعياء الإيمان فيظهروا على حقيقة أنفسهم من فلتات ألسنتهم وتبرمهم لهذا المصاب وشكهم في حكمة الله من الابتلاء. وهذا قطعا ليس من صفات المؤمنين. قالَ تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» (آل عمران، 3 / 179).
ويَوْمَ أُحُدٍ قال من لم يدخل الإيمان قلبه: لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ شيء ما قُتلنا ههنا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: «وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا» (آل عمران، 2 / 154)؛ ويَوْمَ الْأَحْزَابِ قالوا: “كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنا أَنْ نأكلَ كنوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وأحدُنا لَا يَأْمَنُ أَنْ يذهَب إلَى الْغَائِطِ”، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ قوله: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا» (الأحزاب، 33 / 12).[7]
وفي وصف حالة المؤمنين في تلك الموقعة. قال تعالى: «هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا» (الأحزاب، 33 / 11). ففي مثل تلك الظروف يتميز المؤمن من المنافق، وقد ذكرت الآيات السابقة موقف المنافقين والذين في قلوبهم مرض، بينما أثنت على المؤمنين لما اجتازوا الامتحان بنجاح «وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا» (الأحزاب، 33 / 21 – 22). وقبيل توقيع صلح الحديبية دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابة للبيعة على الموت في سبيل الله دفاعا عن بيضة الإسلام، فهبوا جميعا، وقد اجتازوا الامتحان، واستحقوا رضوان الله عليهم موثقا بقرآن يتلى إلى يوم القيامة «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا؛ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا» (الفتح، 48 / 18-19).
وقد يبتلي الله الناس بالبلايا والمصائب والنعم ليتبين شكر المحسن وصبره وكفر المتسخط وجحوده. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومما يظهر الأمر ما ابتلى الله به عباده في الدنيا من السراء والضراء وقال سبحانه: «فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ» (الفجر، 89 / 15 – 16). يقول الله سبحانه ليس الأمر كذلك، ليس إذا ما ابتلاه فأكرمه ونعمه يكون ذلك إكرامًا مطلقًا وليس إذا ما قدر عليه رزقه يكون ذلك إهانة؛ بل هو ابتلاء في الموضعين، وهو الاختبار والامتحان، فإن شكر الله على الرخاء وصبر على الشدة كان كل واحد من الحالين خيرًا له كما قال النبي: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”.[8]
التفسير الثالث: المصائب لغرض الردع
بعض مصائب الدنيا وأسقامها وبلائها مما يبتلي الله بها العباد حتى يتوبوا[9]. وهذه مصائب ردع يسوقها الله تعالى على من يريد بهم خيرا فيقلعوا عن ذنوب اقترفوها، وقد علم الله تعالى بصلاح حالهم إذا ما ابتلاهم، ويقصد بهذا الابتلاء دفع العذاب الأكبر عنهم أي عذاب جهنم.  قال تعالى:«وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (السجدة، 32 / 21).
وفي هذا السياق ورد قوله تعالى: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» (التوبة، 9 / 118). فقد ساق الله تعالى على المتخلفين عن رسول الله من الشدة التي تمثلت بإعراض المؤمنين عنهم ما حملهم على التوبة والاستغفار والتخلي عن التخلف عن رسول الله في القادم من جهاده وسراياه. وهذا الحال ليس مقتصرا على تلك الحالة بل هي في كل ذنب يقترفه المؤمن فإن نفسه تتألم وضميره يؤنبه حتى إذا ما أيقن بعفو الله عنه طابت نفسه واطمأنت لرضا الله تعالى.
أسباب وقوع هذا النوع من المصائب عديدة؛ أولها الذنوب قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» (الشورى، 42 / 30)؛ وقال: «فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا» (النساء، 4 /  62)، وقال: «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا» (النساء، 4 / 79).
وهذا النوع من المصائب يصيب أولئك الذين علم الله بهم خيرا، أما أولئك الذين مردت نفوسهم على المعاصي وبالغوا في نكرانهم لحق الله عليهم، فإن الله تعالى يملي لهم حتى إذا ظنوا أنهم في مأمن من عذابه أخذهم بغتة من حيث لا يشعرون. قال تعالى: «فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» (الأنعام، 6 / 43-44).
وقد يتقلب الظالمون بما أغدق الله تعالى عليهم من النعيم إملاء لهم، وقد يفهم المؤمن ذلك الإملاء خطأ فيظنه باقيا عليهم، قال الله تعالى: «لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ» (آل عمران، 3 / 196_197).
التفسير الرابع: المصائِبُ بغرض القصم
عندما تنعدم إمكانية الهداية عند الناس، ولا يُصغى إلى داعي الإيمان، وينغمس الناس بغيهم مع قيام النذير فيهم، فأولئك انعدمت بذرة الخير في نفوسهم بسبب تماديهم في الباطل. في مثل هذا الحال تحدث مصائب القصم. قال الله تعالى: في قوم سبأ «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ» (سبأ، 34 / 15-17)؛وقد أهلك الله سبحانه وتعالى قوم نوح بالغرق لشركهم، قال تعالى عن قوم نوح: «وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا» (الفرقان، 25 / 37). وقضى على فرعون وقومه بالغرق، قال تعالى: «فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ» (الزخرف، 43 / 55-56).
وقوم عاد لما مرودا على الكفر أهلكهم الله تعالى: «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ» (الحاقة، 69 / 6)، وعندما أنكر قوم صالح الرسل وعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وتجبروا وتكبروا على إتباع الرسل أخذتهم الصيحة. قال تعالى: «وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ» (هود، 11 / 94). ولم يكن حال أصحاب الفيل بأفضل ممن سبقهم. قال تعالى: «تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ» (الفيل، 105 / 4).
وإذا ما انحسرت قيم الخير لحساب زحف الشر بأفول أثر المصلحين ليتصدر المشهد جموع المفسدين والرويبضة، فقد قضت سنة الله عليهم بمصائب القصم قال تعالى: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ» (هود، 11 / 117).
ولا تحل مصائب القصم بقوم حتى تقوم الحجة على أكابرهم فيختاروا العمى على الهدى ويصموا آذانهم عن سماع الحق بطرا وغيا قال تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَامُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُفَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً» (الإسراء، 17 / 16).
التفسير الخامس: المصائب لغفران الذنوب
وهذه للمؤمنين خاصة، يسوقها الله تعالى على بعض عباده ليخلصهم مما علق بأعمالهم من شائبة فيتركهم وقد خلصت أعمالهم لله وحده، فيرفع درجاتهم ويعلي قدرهم ويصلي عليهم إذا واجهوا تلك الشدائد بالصبر والاحتساب.
قال تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (البقرة، 2 / 155-157).
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ”.[10]
التفسير السادس: المصيبة كنعمة باطنة .
قد ينزل بالمؤمن ما يكره، ويظهر الأمر كمصيبة، لكنه في الحقيقة يعود بالنفع العظيم على من ألم به ونزل بساحته، ومثال ذلك ما ورد في قصة أصحاب الكهف وقصة خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار. ومن أبرز النعم الباطنة التي تظهر كمصيبة فرض الجهاد على المؤمنين. قال تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (البقرة، 2 / 216). وهذه الآية كما نعلم وردت في سياق فرض الجهاد، وظاهر الجهاد هلاك الأنفس والأموال، ولكن حقيقته عكس ذلك تماما ففيه عزة الأمة وسيادتها، وفي ظل سيادة الأمة وعزتها تحفظ النفوس والأموال من المعتدين والطامعين، وتنفتح الآفاق أمام المجاهدين فينعموا بنصر من الله وفتح قريب.
 عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهْ مَهْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: ” إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا “، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (البقرة، 2 / 195). فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ “، قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: “فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ”.[11]
التفسير السادس: مصائب الكشف
هذا النوع من المصائب لا يكون من قبيل العقوبة أو الردع أو القصم أو غير ذلك، وإنما لإظهار صلابة إيمان المؤمن وتميزه؛ فهذا النوع لا يصيب إلا من علت مراتبهم عند الله تعالى وعلى رأسهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد واجهوا صنوفا من الابتلاء لا يحتملها إلا الصادقون مع الله والمصطفون المختارون من حملة الرسالة. ومن يرى سيرة الأنبياء جميعا يرى مصائب الكشف ظاهرة في حياتهم فمكابدتهم صنوف العذاب ومواجهتهم لجموع المنكرين أظهر مقدار تميزهم. إن قصة نوح مع قومه وإبراهيم مع النمرود وموسى مع فرعون ويوسف مع إخوته ومن ثم اتهامه الباطل الذي أورده السجن طويلا. كل ذلك كشف عن هامات طويلة وأجساد تحملت في سبيل الله، مما كشف عن عظمة هؤلاء الأشخاص الذين استحقوا اصطفاء الله لهم واختيارهم رسلا يبلغون أقوامهم رسالة الله تعالى.
ولما رأى النبي من إعراض قومه وتكذيبهم له وإيذائه عند ذهابه إلى الطائف راجيا نصرتهم خيره ربه أن يطبق عليهم الأخشبين.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)[12] . لقد كشفت هذه الحادثة وغيرها تميز نفس النبي صلى الله عليه وسلم. وأنه رحيم بقومه محب لهم، وصدق الله تعالى فيه إذ يقول: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ »(التوبة، 2 / 128).
المصائب العامة لا تكون إلا عقوبة
الدنيا في الأصل دار ابتلاء واختبار ليست دار جزاء. قال الله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (الكهف، 18 / 7). ولكن الله تعالى جعل فيها نواميس وسنناً تجري على العدل والاستقامة, فكل ما يصيب الأمم من مصيبة عامة, كهلاك الأموال والزروع والمواشي, أو دهمتها نكبات عامة كالهزائم العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية, أو أصابها الضعف العام والوهن والهوان على باقي الأمم فالقرآن الكريم صريح في أن هذا عقاب سببه ما كسبت أيدي البشر، وأفعالهم المخالفة لسنن التقدم والازدهار، قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» (الروم، 30 / 41) وقال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» (الشورى، 42 / 30) .
وقد استغرب المسلمون من هزيمتهم في أحد وعدوهم مشرك يعبد اللات والعزى ؟! فجاءهم الجواب بياناً مفصلاً في سورة آل عمران، قال تعالى: «أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» (آل عمران، 3 / ؛165) إذاً كما أن الجزاء الأخروي حق. فكذلك الجزاء الدنيوي حق, قال الله تعالى: «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» (النمل، 27 / 50-51).
وقد حذر الله تعالى من الركون والاستسلام وعدم النفير، فقد كان من سنن الله تعالى العقوبة في الدنيا قبل الآخرة قَال تَعَالَى: «إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ» يقول ابن تيمية رحمه الله: قَدْ يَكُونُ الْعَذَابُ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِأَيْدِي الْعِبَادِ فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ يَبْتَلِيهِمْ بِأَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ حَتَّى تَقَعَ بَيْنَهُمْ الْفِتْنَةُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمَعَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ وَجَعَلَ بَأْسَهُمْ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِمْ.[13]
موقف المسلم من المصيبة
يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد بقوله: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (آل عمران، 3 / 139)، أي: لا يحملكم ما أصابكم يوم أحد من المصيبة على الوهن والضعف، بل شمروا واصبروا وصابروا، فأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، فهم الأعلون وهم المنصورون إذا استقاموا على الإيمان، ولهذا نصرهم الله، وجمع شملهم بعد أحد، وهزم عدوهم، وجعل لهم العاقبة الحميدة يوم الأحزاب، ويوم خيبر، ويوم الفتح، وصارت العاقبة الحميدة لهم بنصره سبحانه وبحمده «فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» (هود، 11 / 49). «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (محمد، 47 / 7). «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» (الحج، 22 / 40-41).[14]
إذا أصيب المؤمن بمصيبة ونظر إليها وإلى حجمها وضخامتها، ثم تذكر أن الله عز وجل إنما يبتليه ليرفع درجته، ويعلي منزلته ويثيبه عليها صبر عليها، وتلقاها بصدرٍ رحب وفرح بها، يقول تبارك وتعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» (البقرة، 2 / 155). من هم “الصابرين”؟ إنهم أهل الإيمان «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (البقرة، 2 / 156 – 157).[15]
والمؤمن لا يشك بحكمة الله فيما أصابه من مصيبة أيا كان شكلها، فيتقبلها بالرضا بعيدا عن السخط والتبرم لما اختاره الله تعالى. لذا يقول النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ”[16] لأن هذه الأفعال من العلامات الظاهرة لعدم الصبر. عن أَبي بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا شَدِيدًا، فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ”.[17]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا[18] لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: “يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ”، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ”.[19]
لقد بيّن القرآن الكريم أن المصائب تواجه بالصبر وأعظم الصبر أجرا يكون عند وقوع المصيبة أو الفاجعة، وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى قولٍ هو عنوان الصبر والاحتساب في تلك اللحظات: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ومن قالها استحق صلاة الله عليه بأن ينزل عليه الرحمة والسكينة والرضا بقضائه. قال تعالى: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ.
 وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ عِنْدَكَ احْتَسَبْتُ مُصِيبَتِي فَأْجُرْنِي فِيهَا وَعَوِّضْنِي مِنْهَا إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَعَاضَهُ خَيْرًا مِنْهَا. قَالَتْ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ ذَكَرْتُ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ عِنْدَكَ احْتَسَبْتُ مُصِيبَتِي هَذِهِ فَأْجُرْنِي عَلَيْهَا فَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ وَعِضْنِي خَيْرًا مِنْهَا قُلْتُ فِي نَفْسِي أُعَاضُ خَيْرًا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ثُمَّ قُلْتُهَا فَعَاضَنِي اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآجَرَنِي فِي مُصِيبَتِي[20]  
مصيبة الموت
وُصف الموتُ في القرآن الكريم بأنه مصيبة «إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» (المائدة، 5 / 106). ومع ذلك لا ينبغي التحلي بغير الصبر عند وقوعه على المقربين، وينبغي أن يواجه بالصبر والاحتساب وقول إنا لله وإنا إليه راجعون. والبكاء على الميت لا ينافي الصبر وإنما يعد من الرحمة.
 فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا[21] لِإِبْرَاهِيمَعَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ[22]
.وعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا. فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلَامَ وَيَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا. فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ)[23] .
المؤمن لا يسأل الله الصبر بل يسأله العافية في الدنيا والآخرة
عن معاذ بن جبل قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وهو يقول اللهم إني أسألك الصبر فقال (سألت الله البلاء فسله العافية)[24] وذلك لأنّ الصبر مترتب على البلاء، فلا يسأله المؤمن إلا عند داعيه أمّا قبله فلا، وإنما يسأله العافية في الدين والدنيا.
ثَوَابُ مَنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ
يكفي الصابرين جزاء بشرى الله تعالى لهم بقوله: «وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ» (البقرة، 2 / 155)؛ وكفاهم قدرا أن الله معهم «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (البقرة، 2 / 153؛ الأنفال، 8 / 46). «وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (البقرة، 2 / 249؛ الأنفال، 8 / 66). ويكفيهم فخرا وحظا أن الله يحبهم «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» (آل عمران، 3 / 146). وقد بين القرآن الكريم أن أجرهم عظيم لا يستطيع الإنسان أن يحصي له عددا «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (الزمر، 39 / 10). ولهم المنزلة العالية في الجنة بما صبروا على طاعة الله واجتناب ما نهى عنه «أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا. خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا» (الفرقان، 25 / 75- 76).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]أرشيف ملتقى أهل التفسير رابط الموقع: http://tafsir.net
[2]انظر: لسان العرب/ابن منظور: 1/ 535.
[3]النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة صوب
[4]التعريفات/الجرجاني 1/278.
[5]التعاريف/ المناوي: 1/660 
[6]انظر: إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون 3/288
[7]سيرة ابن هشام، 1/522، ط2، 1375هـ
[8]صحيح مسلم، باب المؤمن أمره كله خير، رقم الحديث 64 – (2999)
[9]تفسير الطبري للآية 21 من سورة السجدة
[10]البخاري، باب ما جاء في كفارة المرض، رقم الحديث 5641 . وأخرجه مسلم في البر والصلة والآداب باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن. رقم الحديث 2573.
[11]سنن أبي داوود ، باب في قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، رقم الحديث 2512، والترمذي، رقم الحديث 2972، والنسائي، رقم الحديث 10961، وصححه الألباني.
[12]متفق عليه. صحيح البخاري، رقم الحديث 3231 . وأخرجه مسلم في الجهاد والسير باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، رقم الحديث 1795
[13]مجموع الفتاوى لابن تيمية، باب العذاب المدفوع بالاستغفار، 15/45
[14]الشيخ عبد العزيز بن باز . دروس مفرعة
[15]دروس للشيخ سعيد بن مسفر، تحويل المصائب إلى نعم. قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية http://www.islamweb.net
[16]البخاري، 1294 ومسلم 165 – (103) وغيرهما من أصحاب السنن
[17]البخاري 1296   . الصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق شعرها حدادا، والشاقة التي تشق ثيابها إظهارا للحزن
[18] (ظئرا) زوج مرضعته وهي خولة بنت المنذر الأنصارية النجارية.
[19]البخاري، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» رقم الحديث 1303 ، وأخرجه مسلم في الفضائل باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، رقم الحديث 2315
[20] سنن ابن ماجه ، رقم الحديث 1587
[21] أي زوج مرضعته . (لسان العرب، مادة ظئر)
[22] صحيح البخاري، رقم الحديث 1220
[23] صحيح البخاري، رقم الحديث 1204
[24] سنن الترمذي، رقم الحديث 3450، وقال هذا حديث حسن

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.