حبل الله
الحالة الدينية في عهد تراجع الدولة العثمانية

الحالة الدينية في عهد تراجع الدولة العثمانية

الحالة الدينية في عهد تراجع الدولة العثمانية
أ‌.       د. عبد العزيز بايندر
ارتبط تطور الحياة عند المسلمين بمدى فهمهم وتطبيقهم لدينهم المستمد مباشرة من الكتاب والسنة، وكلما ارتكس المسلمون في فهم دينهم وتطبيقه انعكس ذلك على كافة مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وليس حال الدولة العثمانية في عهد تراجعها إلا تجسيدا لهذا النموذج.
تقييم السلطانعبد الحميد الثاني لعلماء عصره  
ولي العهد الياباني يزور السلطان عبد الحميد الثاني ومعه رسالة خاصة من الامبراطور يطلب من السلطان إرسال وفد من علماء الإسلام ليشرح له الدين الإسلامي وأركان الإيمان ومقاصد الشريعة ونظرتها الفلسفية والقواعد التي تبنى عليها العبادات، وقد تمنى أن يبعث السلطان ما يلزم من الوسائل المادية لنشر الإسلام في اليابان. ولكن السلطان لم يستطع أن يرسل الوفد من علماء الإسلام الذي طلبه الامبراطور الياباني، وكان هذا ذكرى مؤلمة له، وهو يعلل ذلك بقوله:
“لو كان العلماء الذين طلبهم الامبراطور الياباني موجودين في المملكة التي أحكمها كخليفة، وعثرت عليهم لكنت بعثتهم إلى أرجاء البلدان الإسلامية، يعلمون المسلمين دينهم قبل الشعب الياباني...”
كان السلطان عبد الحميد الثاني يرى أن علم العلماء وقدرتهم ونظرتهم للحياة كانت عاجزة عن القيام بتبليغ الإسلام في الوقت الذي كان يحدث تغيرات هائلة في شتى أنحاء العالم. والسبب في ذلك كما يقول السلطان:
“لم تكن هناك المنابع الفياضة لتدريب العلماء الذين طلبهم الامبراطور الياباني، وقد خرجت المدارس من أن تكون مصدر العلوم والمعارف الإسلامية.”[1]
وقد ابتعد العالم الإسلامي عن القرآن منذ عصور. وأصبح المسلمون يقدسون الشيوخ وأئمة المذاهب، وحل كلامهم محل القرآن والسنة النبوية المطهرة حتى أصبح المسلمون يعدون استنباط الأحكام وحل المشاكل الحديثة في ضوء القرآن والسنة من أكبر الكبائر.
ومن أجل ذلك اضمحلت ثقة المسلمين تجاه القيم التي يؤمنون بها، فطفقوا يُحَقِّرون أنفسهم ويعظمون بعض الأشخاص إلى درجة وضعهم بمقامات ومراتب تفوق مكانتهم الإنسانية الحقيقية ، ثم زعموا أن هؤلاء يمدون أتباعهم معنويا حتى بدا الأمر كظاهرة شرك من نوع جديد، وقد شملت تلك العقائد الفاسدة المجتمع من كل النواحي مثل المرض السرطاني، وبالتالي أدت إلى انهيار دولة عظيمة بعد الحرب العالمية الأولى. ولا يزال من خلفهم يتمسكون بتلك العقائد الفاسدة الهدامة…
يقول الله تعالى: « لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ» (الرعد، 13 / 11).
هلك المسلمون بسبب غرقهم في الشرك
نرى في الوثائق الرسمية التي تتحدث عن اشتراك الدولة العثمانية في الحرب العالمية الثانية، أنهم يستعينون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى للفوز في المعركة. كأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس رسول الله فحسب، بل إله ثان يعبد من دون الله سبحانه وتعالى عما قالوا علوا كبيرا. يزعمون أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت بعد، وهو يسمع النداء الموجه إليه ويرى الأماكن التي جرت فيها الأحداث ويملك قدرة يساعدهم ويمدهم بها إن أراد ذلك.[2]
وقد أخبرنا الله تعالى عن ضلالة من فعل ذلك واعتقده بقوله: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ» (الأحقاف، 46 / 5).
   وإليك الآن ما ورد في تلك الوثائق:
أ‌.                       العبارات التي وردت في القسم الأخير من أمر السلطان رشاد المتعلق بإعلان الحرب، هي على النحو التالي:
“إننا لا نشك في أن الله تعالى معنا في إلحاق الهزيمة بالعدو وكذلك النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بعونه ومدده، فنحن على الحق والصدق أما العدو فظالم ومتجاوز، والنصر للحق.”[3]
ب‌.                  وجاء في إعلان نائب رئيس الوزراء أنور باشا ما يلي:
سيهزم جيشُنا العدوَ بإذن الله وعنايته وبالإمدادات المعنوية من النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء سلطاننا الأعظم.
وجاء في ثنايا الإعلان قوله: “علينا أن نفكر جميعا، أنه يطير فوق رؤوسنا روحُ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه الكرام.”[4]
ت‌.                  الإعلان لدعوة البلدان الإسلامية إلى الجهاد:
وقد قام المجلس الأعلى للشؤون العلمية بتحضير هذا الإعلان وتم التوقيع عليه من قِبل السلطان رشاد بصفته الخليفة، وقد حظي الإعلان بتوقيع أربعة وثلاثين عالما من أفاضل العلماء منهم أربعة من مشايخ الإسلام واحد منهم في الوظيفة والباقون متقاعدون، وكذلك يمنّ الفتوى علي حيد أفندي.
جاء في الفصل الرابع من الإعلان ما يلي:
قد بشر الله المسلمين المجاهدين الذين نفروا إلى الجهاد باسم دين الله المبين بأنه يظهرهم بنصرته وعونه؛ كما أن روح محمد صلى الله عليه وسلم حاضرة لتأخذ بيد هذه الأمة الناجية[5] الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل إعلاء شريعة محمد (صلى الله عليه وسلم) الغراء.
وجاء في الفصل الأخير من الإعلان ما يلي:
يا مجاهدي الإسلام! أنتم مبشرون بوعد إلهي أنكم ستغلبون الأعداء وتدمونهم، وتجلبون السعادة الأبدية لقلوب المسلمين، بنصرة الله وعنايته، وبمدد من روحانية الرسول صلى الله عليه وسلم.
لو قال قائل: إن المسلمين ينفرون إلى الجهاد لمحاربة الأعداء، وهو لا شك يفرح به النبي صلى الله عليه وسلم، كما لا شك أن روحانيته تمد المسلمين، وكذلك طيران أرواح أصحابه فوق رؤوس المسلمين لا يستغرب البتة، لأنهم كانوا يتمنون أن يشتركوا في هذه المعركة.
نقول: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قيد الحياة لفرحوا لذلك، وبذلوا كل ما في وسعهم لنصرة المسلمين. ولكنهم ليسوا على قيد الحياة، فهم قد ماتوا. وعلينا أن نتبع القرآن الكريم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ونترك الأفكار الخيالية. وقد نهى الله تعالى أن نستعين بغيره. «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» (الحج، 22 / 62).
والذي يستعان به من دون الله لا يملك شيئا أيا كان نبيا أو وليا أو شيئا آخر ممن يعظمهم الناس. «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» (فاطر، 35 / 13-14).
والدعاء لغير الله والاستعانة به شرك. والمشرك لا يستحق أن ينصره الله تعالى، وكيف ينصره وهو متجه إلى غيره. « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (الأنعام، 6 / 82).
ألم يكن أعداء المسلمين من الانجليز والفرنسيين والايطاليين واليونانيين يدعون الله ويطلبون منه النصرة للفوز على أعدائهم من المسلمين في الحرب العالمية الأولى؟ ولكنهم كانوا يدعون المسيح عيسى عليه السلام من دون الله لكونهم نصارى. فما الفرق إذن بينهم وبين المسلمين؟
وليس مستبعدا أن يدعوا النصارى المسيحَ من دون الله فكتابهم قد اعتراه تحريف وتبديل. والمستغرب حقا أن يدعوا المسلمون النبي محمدا من دون الله، والقرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى، ولا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه. وهو يخبرنا أن الدعاء لغير الله تعالى تيه وضلال. « قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» (الأنعام، 6 / 71).
لو قال قائل: قد لحق المسلمين هزيمة في التاريخ، كما حدث في يوم أحد، ولكن تغيرت الأوضاع بعدما بذل النبي وأصحابه الكرام من الجهد فأصبحوا ظاهرين.
نقول: لقد نجح النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير الأوضاع بما بذل من الجهد. ولكنه لم يقل أبدا، إنكم ستفوزون في هذه المعركة ببركة دعائي ومددي الروحاني لأني رسول الله. كلا لم يقل هذا أبدا؛ بل قام كقائد مُجدِّ يفعلُ كلَّ ما في وسعه للفوز في المعركة.
قيل قديما ليس مهما أن تخسر المعركة لكن المهم أن تكسب الحرب. وحين نتحدث عن الهزيمة نقول إن الهزيمة في المعركة لا تحمل أهمية كبيرة، لأنه يمكن الكر مرة ثانية وإلحاق ضربة أشد على الأعداء وتحقيق فوز أكبر. الهزيمة الحقيقية هي خسارة المعركة ولا يكون ذلك إلا بالهزيمة من الداخل إذا تسرب الاعتقاد أنه لم يتبق لدى الأمة حول ولا قوة.
وقد لحق بالمسلمين الهزيمة من الداخل. وفقدوا ثقتهم بأنظمتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومحاولة المسلمين استيراد الأنظمة والقوانين الغربية هو نتيجة ذلك الفقدان. ومن أراد التحقق من هذه الهزيمة الداخلية فلينظر إلى النظام التعليمي المطبق في المدارس، وليتحقق من القصور الهائل في تطبيق الأنظمة التعليمية التي لا تتناسب أصلا مع أمة تطمح للرقي. وفي المقابل يحق لنا أن نتساءل من أجل أي نظام تعليمي يُبعث طلابنا إلى أوروبا وأمريكا مزودين بكل الإمكانات المادية؟ لو قمنا بمقارنة ما نبذله من الإمكانات المادية لتعليم نظامنا مع ما نبذله لتعليم النظام التعليمي الأوربي والأمريكي نرى الفرق جد كبير. وهذا ما يمنعنا أن نرفع رؤوسنا أمام الأوربيين والأمريكيين.   


[1] فتحي أوقيار، رجل في العهود الثلاثة، اسطنبول 1980، الصفحة: 101-103.
[2] من أراد المزيد في هذا الموضوع يرجى مراجعة “الطرق الصوفية” المنشور في موقعنا “حبل اللهhttp://www.hablullah.com/?page_id=679&did=1
[3] إعلان هماين (بمثابة مجلس شورى السلطان) بتاريخ ذي الحجة سنة 1332 هجرية، الجريدة العلمية، سنة 1332 هجرية، العدد 7، الصفحة 436.
[4] إعلان نائب رئيس الوزراء، الجريدة العلمية شهر محرم سنة 1333، العدد 7 الصفحة 436-437.
[5] اليوم الرابع من شهر محرم سنة 1333 الهجرية، الجريدة العلمية شهر محرم سنة 1333، العدد 7 الصفحة 436-456-457.

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.