حبل الله
استحباب الدنيا العاجلة على الآخرة الباقية

استحباب الدنيا العاجلة على الآخرة الباقية

استحباب الدنيا العاجلة على الآخرة الباقية
أ.د. عبد العزيز بايندر
الحاج: يكثر في القرآن الكريم الحديث عن المشركين والوعيد الموجه إليهم؛ وفي الوقت نفسه لا نجد حديثا عن الملاحدة وبالتالي الوعيد الموجه إليهم؛ كيف تشرح ذلك؟
الشيخ: كلمة الإِلحاد  تعني عدم الاعتراف بالإله. والحقيقة أنّ الملحد هو من لا يطيع الله ولا يمتثل أوامره ولا يعظمه. والملحدون يوقنون بوجود الله تعالى بالرغم من إدعائهم أنهم ليسوا مؤمنين بوجود الله تعالى، ودليل ذلك أنهم يتوجهون إلى الله وحده حين يقعون في الضيق. فالملاحدة يريدون أن يعطيهم الله كل شيء سوى الأمر أو النهي. وقد جعلوا انقيادهم لأهواهم من دون الله، ليكونوا سادة أنفسهم، وهم بذلك أصبحوا عباد أنفسهم وأهوائهم.
وهم لا يقبلون من أمر الله إلا ما توافق مع أهوائهم وينكرون ما وراء ذلك. لذا، فإنّ أكثر ما يزعجهم هو تبليغ الرسول ما أوحي إليه من أمر الله تعالى ونهيه، لأنهم يريدون من الله كل شيء سوى الأمر أو النهي، والمعلوم أن الرسول يأتي بأمر الله ونهيه. وقد أخبرنا الله تعالى عن ذلك بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلًا. أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا» (النساء، 4 / 151).
وقد جرى بيني وبين من لا يقبل تبليغ الرسول ممن يعرف بالإلحاد، الحوار التالي:
قال – أنا أؤمن بالله وإيماني به في غاية الكمال.
قلت – كل واحد يؤمن بالله تعالى وهو أمر فطري لا يجد الإنسان حيلة لدفعه وإن أنكر وجوده في قلبه.
قال – أحيانا ألتجئ إلى الله وأستعين به. وحين أفعل ذلك أحس بالسرور والسعادة.
قلت- فكل واحد يفعل ذلك أيضا. المهم أن يمتثل الإنسان أوامر الله تعالى، أي يتبع ما يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم. فهل أنت تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم؟
قال – بالطبع لا، لأن الحياة هي حياتي، فلا يمكن لأحد أن يتدخل فيها.
 قلت- حتى لو كان الذي يتدخل من وهبك الحياة؟
– …؟
وفريق آخر من الناس يقبلون أن يكون الله مشرعا، ولكنهم يذهبون إلى تصنيف التشريعات أي الأوامر والنواهي، فيقبلون ما وافق هواهم ويرفضون ما يخالفه. قال الله تعالى: « أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» (الجاثية، 45 / 23) .
فهم يجبون أنفسهم حبا جما ويرون أنهم مركز الكون وأفكارهم أفكارا عالمية، والسبب في وصولهم لهذا الحال هو ضيق الأفق وسوء المزاج الناتج عن المشاكل والتعقيدات التي لا حل لها عندهم. قال الله تعال: « أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (الفرقان، 25 / 43-44).
وأمر من يعلن نفسه ملحدا حفاظا على منصبه وعرشه أصعب من ذلك، فهو لا يقبل الدليل ولا البرهان، وكلما ازدادوا إعراضا عن الحق ازداد مزاجهم سوءا؛ ومنهم فرعون الذي رفض دعوة موسى عليه الصلاة والسلام مع أنه يعلم نبوته علم اليقين.  قال الله تعالى: « فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ اٰيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا» (النمل، 27 / 13-14).
ومن الآيات التي تدل على أنّ فرعون من الملاحدة قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (الأعراف، 7 / 104-105).
وقوله تعالى: «قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ. قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» (الشعراء، 26 / 23-29).
في بداية الأمر تظاهر فرعون بالذكاء والصبر والمعرفة والقوة، وهو يتحاور مع موسى عليه السلام انطلاقا من هذا الظن، ولكنه حين أحس أنه مغلوب انزعج وأظهر ردود فعل متطرفة تنبئ عن زيف ما تظاهر به في البداية. قال الله تعالى: « وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ اٰيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى. قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى. قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.» (طه، 20 / 56-59). « وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ » (يونس، 10 / 79).
(وجاء السحرة واجتمع الناس على موعد محدد وبدا العرض)
« قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ» (الشعراء، 26 / 43-44).
« قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى» (طه، 20 / 66).
« فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ» (الشعراء، 26 / 45). « فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ» (الأعراف، 7 / 118-118). « فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ. قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ. قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» (الشعراء، 25 / 46-49). «قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى» (طه، 20 / 72-73).
«وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ. وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ» (المؤمن، 40 / 26-27).
والملحدون يؤمنون ويعلمون وجود الله، ولكن لا يظهرون هذا الإيمان إلا إذا وقعوا في الضيق فيعلنون إيمانهم بالله ويتوجهون إليه وحده.  قال الله تعالى: « وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (يونس، 10 / 90).
وهكذا أتباع أئمة الإلحاد فإنهم لا يفكرون بعقولهم. كما أخبرنا الله تعالى عن ذلك بقوله عن قوم فرعون: « فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ» (الزخرف، 43 / 54).
وكل من اتخذ إلهه هواه يعرف الله، ومن ذكرناه آنفا لا يختلف عن الملاحدة إلا في الظاهر فقط، وفي الحقيقة كلهم يخفون ما في قلوبهم من الإيمان بالله تعالى، وعلى رأس هؤلاء الملاحدة إبليسُ اللعين. فقد خلق الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له فأبى إبليس تكبرا. قال الله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ» (الحجر، 15 / 28-34). وعلى هذا فإن الكفر لا يعني إنكار ذات الله تعالى بل يعني عدم إمتثال الأمر. فإن إبليس كان يعرف الله ويؤمن بوجوده ولكنه «أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» (البقرة، 2 / 34).
خالف إبليس أمر الله تعالى ولم يخالف آدم، لأن كبره منعه من السجود لآدم إمتثالا لأمر الله تعالى، ومن أجل ذلك «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» (الأعراف، 7 / 13).
لم يكن إبليس قد أنكر وجود الله ولا وحدانيته. حتى قال بعد أن ضل: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)» (الأنفال، 8 / 48).
وكان إبليس يؤمن باليوم الآخر، لأنه قال بعد أن طُرد: « قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ » (الحجر، 15 / 36).
وعلى هذا فكفر إبليس بدأ حين برر عدم سجوده لآدم بأفضليته عليه لأنه خلق من النار بينما آدم من التراب. وعدم امتثال أوامر الله تعالى وتقديم المبررات له يعني التسوية بينه وبين الله تعالى، ولا يخفى انتصار إبليس لخطوط نفسه ليجعل من نفسه آلهة من دون الله تعالى. وهذا من أكبر الكبائر.
وكل إنسان يؤمن بالله كما بينا ذلك سابقا، ويعبر عن ذلك الإيمان بشكل من الأشكال. وكذلك الملاحدة يؤمنون. ولا يمكن جحود وجود الخالق سواء سمي ذلك الخالق بالله تعالى أو بالطبيعة أو إله السماء. لذا نقول إن الملاحدة بمثابة من ينكر أباه، ويهرب منه. وحين تصيبه المصائب ويحتاج إلى مساعدة أبيه فإنه يعود إليه، وهكذا الملحد يهرب من أوامر الله ويدعي أنه لا يؤمن بوجود الله، ولكنه حين تتراكم عليه المصائب يلتجئ إلى الله ويدعوه وحده. وهو يفعل ذلك لأنه يريد من الله تعالى أن يعطيه كل شيء إلا الأوامر والنواهي.
 الحاج: يا سيدي قلتَ إن الشيء الذي يجعل الإنسان كافرا هو استحبابه الدنيا على الآخرة. فكيف يكون ذلك؟ وهل ارتكاب الذنوب يعني استحباب الدنيا على الآخرة؟
الشيخ: المعترف بذنبه لا يكون مستحبا للدنيا على الآخرة. لأن الاعتراف بالذنب يدل على أنه يحب الله قبل كل شيء.
وفي المرة القادمة إن شاء الله سنقف على كيفية ذلك…

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.