حبل الله
الأعمال القضائية في الدولة العثمانية

الأعمال القضائية في الدولة العثمانية

الأعمال القضائية في الدولة العثمانية

أ.د عبد العزيز بايندر­­

الأعمال القضائية في الدولة العثمانية كانت تستند إلى الشريعة الإسلامية والمذهب الحنفي على وجه الخصوص إلا القوانين الجنائية والقوانين الأخرى المطبقة في المحاكم الملكية التي أسست بعد التنظيمات. ومصدر هذه الحقوق المطبقة في المحاكم الشرعية هو ما اشتملت عليه الكتب الفقهية الحنفية في أبواب القضاء والشهادة والإقرار والتحليف والبيانات والصلح والوكالة وغيرها من الأبواب؛ وكذلك ما ورد من الأصول في أواخر بعض الأبواب. وقد احتوت مجلة الأحكام العدلية معظم هذه المسائل.

وكانت المحاكم تسجل أعمالها في الدفاتر المسماة بالسجل الشرعي. وهذه الدفاتر قد نقلت إلينا جميع أعمال المحاكم. ونهدف في هذه الدراسة معرفة المصادر المدونة للقانون العثماني والسجلات الشرعية والقانون القضائي العثماني.

المصادر المدونة للقانون العثماني

أكثر المواطنين في الدولة العثمانية كانوا ينتمون إلى المذهب الحنفي مع وجود من ينتمون إلى المذاهب الأخرى التي هي في مكان الصدارة في الشريعة الإسلامية مثل المذهب الشافعي والحنبلي والمالكي. لذا كان يعهد إلى القضاة أن يصدروا أحكامهم وفتاويهم وفقا لآراء المذهب الحنفي. وفي بعض الأحيان كان يؤخذ بآراء المذاهب الأخرى أو فقيه معين بما في ذلك الإجتهادات الجديدة بإذن السلطان. وكانت الفتوى في ذلك الوقت مصدرا للتشريع. وإليك موجز الحديث عما ذكرنا:

المذهب الحنفي

المذهب الحنفي هو من أكبر المدارس الفقهية، وقد نشأ فيه مجتهدون كثيرون في كل عصر، ودونت آراء هؤلاء المجتهدين وما رجح من آراء الآخرين في الكتب الفقهية. لذا نجد في الكتب الفقهية المنتسبة إلى المذهب الحنفي اختلاف المجتهدين حول موضوع واحد على أكثر من رأي. وعلى هذا لو ترك القضاة دون تقييدٍ برأي مجتهد معين لتضارب الحكم في المسألة الواحدة، ولما أمكن ضمان الوحدة في تحقيق العدالة الاجتماعية. وقد قامت الدولة العثمانية بضمان الوحدة في العدالة الاجتماعية بإصدار الأمر إلى القضاة على أن يحكموا وفقا لما صح من آراء المذهب الحنفي. وكان هناك قواعد وأساليب معينة يُعتمد عليها في معرفة الصحيح من الآراء.

التطبيقات حسب المذاهب الأخرى

وفي حالات الخلاف بين المواطنين المنتسبين إلى غير المذهب الحنفي ورأى الحاكم حل المسألة حسب المذهب الذي ينتمي إليه المواطن ولكن لم يجد في هذا المذهب حكما متعلقا بالمسألة المذكورة، فعندها يكون من حق الطرفين تعيين فقيه آخر من مذهبه قاضيا في حل المسألة؛ فيحكم بحسب مذهبه ثم يصدقه الحاكم ويضعه حيز التنفيذ.[1]

التطبيقات المخالفة للمذهب الحنفي

إذا أمر السلطان بالتزام رأي فقيه بعينه في قضية من القضايا فالأمر مختص بالقضاة فقط؛ وإن لم يكن في الأمر مخالفة صريحة للشريعة فلا يشكل ذلك جريمة جنائية؛ ومثل هذا الأمر من السلطان يجب الالتزام به من الناحية الدينية.[2]

وكانت الآراء المخالفة للمذهب الحنفي أو المذاهب الثلاثة الأخرى أو آراء المجتهدين من غير علماء المذاهب الأربعة يُباشَر العمل بها بأمر السلطان إذا كانت صالحة لحل قضية من القضايا العصرية. والاجتهادات في القضايا الحديثة وما اقتبس من القوانين الأوربية لا سيما بعد التنظيمات كان التزام القضاة بها واجبا، بأمر السلطان. ونريد الآن أن نقف عليها وقفة قصيرة:

إعمال الرأي المخالف للمذهب الحنفي

وقد تم إعمال كثير من الآراء المخالفة لآراء المذهب الحنفي وفقا لاحتياجات الزمان. ويوجد في المجلة نماذج كثيرة على ذلك. وفي سنة 1914م أُسِّسَ قسمٌ خاص في دار الفتوى التابعة لشيخ الإسلام تحت اسم غرفة الفتوى العالية لتأليف المسائل ، لغرض البحث عن الآراء المناسبة لحل القضايا العصرية. والمادة القانونية المتعلقة بالموضوع من أنظمة دار الفتوى كالتالي:

إذا قام قسم تأليف المسائل بترجيح رأي مخالف للمذهب الحنفي لكونه مناسبا لحل قضية من القضايا العصرية أو رجّح رأيا من آراء المذاهب الثلاثة قام بكتابة التقرير حول هذا الرأي وأحاله إلى أمين الفتوى.

ويتم إعمال الرأي الذي شمله التقرير بموافقة مقام الفتوى أولا لعرضه على السلطان ويدخل حيز التنفيذ بموافقة السلطان.

وبعد إعمال المجلة لم يبق ارتباط بمذهب معين في القضايا المستجدة. أما المبادئ الهامة التي استندت لها اللجنة التعديلية للمجلة يمكن تلخيصها على النحو التالي:

لا يقبل ما يخالف القرآن والسنة من الآراء.

وإذا اختلف الفقهاء في مسألةٍ ما فإنه يقبل رأي من يساعد على حل تلك المسألة حسب مقتضيات العصر.

وإذا كان هناك مسألة جديدة تتطلب حكما جديدا يستفاد من المسائل الموجودة وفق الأصول الفقهية.

تقليل وتقييد تصرف القضاة خلافا لما كان سابقا.

القيام بالاجتهادات الجديدة ووضعها حيز التنفيذ.

المبدأ الثالث من مبادئ عمل اللجنة التعديلية للمجلة يعطي للجنة حق الاجتهاد والاستفادة من القوانين الأوربية. والمادة 37 من المرسوم القانوني للأسرة يمكن أن يكون نموذجا للاجتهادات الجديدة. وإليك نص المادة المذكورة:

” يقوم حاكم المدينة أو نائبه المكلف بتنظيم عقد النكاح وتسجيله في السجلات الرسمية بحضور العروسين”.

تعليل المادة كالتالي: لا يوجد أي فرق في نظر الشريعة بين عقد النكاح والعقود الأخرى التي تتم بين الأطراف بالتراضي. شرط الشاهدين في العقود والإعلان في النكاح هو لتأكيد العقد والبعد عن تهمة الزنا. لذا يجوز عقد النكاح بحضور شاهدين، ولا يشترط أن يكون العقد من قبل فقيه من الفقهاء أو الإعلان في مكان معين وبإقامة حفلة خاصة. ومع ذلك كان عقد النكاح يتم في المساجد لكونه عقدا ذا أهمية خاصة. وفي الفترات الأخيرة من عصر الدولة العثمانية أصبح عقد النكاح بلا ضوابط خاصة حيث أصبح النكاح يعقد بمجرد حضور شاهدين فقط. وقد أدى ذلك إلى فساد كبير وتجاوز لحقوق المرأة بزواج من لا تسمح ظروفها بذلك حتى وإن كان عقد النكاح جائزا من الناحية الشرعية بحضور شاهدين. إلا أن قيام أحد ممن لهم إلمام بما يتعلق بالحقوق الزوجية بتنظيم وتسجيل العقد في السجلات الرسمية يمنع حدوث المشاكل مثل تثبيت العقد وتعيين مقدار المهر وغير ذلك، لذا نُظِمت المادة 37 وأُعطي حق التصرف فيها للحاكم حتى يصبح العقد وثيقة رسمية بلا حاجة إلى تصديق من مقام آخر مثل البلدية ومديرية النفوس، وفي حالة إعطاء حق التصرف لغير الحاكم فإنّ العقد يحتاج أن يصدق من قبل الحاكم حتى يصبح وثيقة رسمية؛ كما أنّ الحاكم بمثابة ولي الأمر لكل المواطن.[3]

الاقتباسات من القوانين الأوربية

طاعة رئيس الدولة واجب فيما لا يُعدُّ جريمة ولا يخالف الشريعة مخالفة ظاهرة[4]؛ لذا تم تشريع قوانين كثيرة بعد التنظيمات ووضعها حيز التنفيذ. كما أن المجلة التي تعتبر من القوانين القومية وُضعت حيَّزَ التنفيذ بأمر السلطان عام (1274ه/ 1858م)[5] والقانون الجنائي عام (1256ه/ 1840م) وكذلك قانون الأراضي والكثير من القوانين المستوردة من أوروبا وضعت في حيز التنفيذ بأمره أيضا.

القوانين الأوربية المستوردة التي وُضعت حيَّز التنفيذ هي كالتالي:

القانون التجاري (1286ه/ 1869م)؛ وقد اقتبست معظم أحكامه من القانون التجاري الفرنسي  الصادر سنة 1808م.

القانون الجنائي الذي أُقرَّ بمرسوم ملكي (1274ه / 1858م)؛ وهو قانون يعتمد على القانون الجنائي الفرنسي إلى حدٍّ كبير. وقد حُذفت بعض أحكامه كما أُجري تعديلٌ على بعضها. وكان قد أُدرج في هذا القانون إضافاتٌ في مراحل شتى، حتى تم التعديل النهائي في عامي 1911 و1915م.

نظام أصول المحاكمة التجارية (1278ه/ 1891م)؛ يعتمد على القانون الفرنسي؛ وقد كان معمولا به في المحاكم التجارية والنظامية حتى صدر قانون أصول المحاكمة الحقوقية.

القانون التجاري البحري (1280 / 1863)؛ تم ترتيبه في ضوء القانون التجاري البحري لفرنسا والاستعانة بقوانين سردينيا وصقلية، وبلجيكا، وروسيا.

قانون أصول المحاكمة الجنائية (1296ه/ 1879م)؛ هو ترجمة لقانون المحاكمة الجنائي الفرنسي الصادر عام 1808 بتعديل يسير؛ وقد دخل هذا القانون أيضا المؤسسة القضائية في بلادنا.

قانون أصول المحاكمة (1296 / 1879)؛ أساس هذا القانون هو القانون الفرنسي الصادر عام 1807. والمادة 54 من هذا القانون تنص على وجوب إتباع المجلة؛ وقد كان معمولا بهذا القانون في المحاكم النظامية فقط، كذلك الحال في قانون أصول المحاكمات الجنائية. أما قانون أصول المحاكمة الحقوقية فقد كان معمولا به حتى 4 أكتوبر عام 1927.

الفتوى كمصدر تشريعي

الفتوى جوابُ فقيهٍ لسؤال في القضايا القانونية والدينية. وقد كان القضاة يرجعون إلى المفتين في حل بعض القضايا الدينية والقانونية، وفي هذه الحالة يصبح حكم القاضي ملزما مع أن فتوى المفتي لم تكن ملزمة أصلا؛ ولذلك كان المواطن يُرفق الفتوى التي يحصل عليها من المفتي مع الطلب الذي يقدم إلى القصر أو إلى المحكمة عند رفع الدعوى ويطلب إصدار القرار أو حل القضية طبقا لما أفتاه المفتي. وتوجد في السجلات الشرعية نماذج كثيرة لهذا، منها: كان في أنقرة كنيسة يملكها مواطن ذمي؛ استفتى في ترميمها  المفتي حامد ونص الفتوى كالتالي:

“السؤال: كنيسة قرب المدينة نحتاج إلى أصلاح سطحها بسبب أنها قديمة. هل يجوز إصلاحها؟ وجزاكم الله خيرا..

.. الجواب: يجوز. والله أعلم. كتبه حامد عفا الله عنه.”

وقد قدم الذميون الطلب إلى القصر مع هذه الفتوى يطلبون إصلاح سطح الكنيسة وحصلوا على أمر شريف من القصر. حيث قام قاضي أنقرة بالتحقيق في الكنيسة بمقتضى الفتوى وأذن بإصلاح سطح الكنيسة. وكتب التقرير حول هذا الموضوع على النحو التالي:

وقد بعث ذميوا أنقرة إلى القصر يسألون أنه قد هدم جزء من سطح كنيستهم لأنها كانت مكشوفة منذ القدم فتحتاج إلى ترميم طبقا للأصل. ولكن امتنع البعض زاعمين أننا نريد بهذا العمل كسب الأموال وأن القيام بالترميم مخالف للشرع مع وجود الفتوى لدينا. فصدر الأمر كالتالي: حين يأتيكم أمري بهذا الخصوص فلكم القيام بترميم الكنيسة المفتوحة للعبادة طبقا للأصل حسب الفتوى الموجودة لديكم. وقد جاء في الفتوى: “كنيسة قرب المدينة نحتاج إلى إصلاح سطحها بسبب أنها قديمة فهل يجوز إصلاحها؟ وجزاكم الله خيرا.. الجواب: “يجوز والله أعلم”… كتبه حامد عفى الله تعالى عنه.” وبناء على الفتوى والأمر الصادر من القصر ذهبنا إلى الكنيسة مع بعض المسلمين الصالحين. ورأينا أن الجدار المتصل بالطريق من الكنيسة المذكورة وجزء من السطح يحتاج إلى الترميم فوافقنا على ترميمها طبقا للأصل. في أواخر رجب 991 ه (تموز 1582م).

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله www.hablullah.com

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]   علي حيدر، جـ. 4 / صـ. 694.

[2]   أنظر: شيخ الإسلام محمد بن حسين (المتوفى 1092هـ / 1681 م)، فتاوى الأنقراوي، مطبعة الأميرة، جـ. 1 / صـ. 363.

[3]   الجريدة العلمية، العدد 34. اسطنبول 1336، صـ. 1013-1014.

[4]   الأنقراوي،جـ. 1 / صـ. 368.

[5]   الدستور، جـ. 1 / صـ. 65 وما يليها.

التعليقات

  • لقد تخلت تركيا أولاً المصدرة للمجلة عن مجلة الأحكام العدلية سنة*/ مستبدلة لها بالقانون المدني السويسري مع بعض التعديلات.

  • موضوع رائع و سيق و نحتاج لمثله و شكرا على توضيح الرؤية و أرجو نشر أكثر حول المذهب المالكي و كيفية القضاء فيه أرجو المساعدة
    و شكراااااااااا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.