حبل الله
4. التدين في القرآن الكريم

4. التدين في القرآن الكريم

الدين: مصدر أو الإسم من الدَّين. قال الجوهري: والدينُ بالكسر: العادةُ والشأن. ودانَهُ ديناً، أي أذلًّه واستعبده. يقال: دِنْتُهُ فدانَ. وفي الحديث: «الكَيِّسُ من دانَ نفسَه وعَمِل لما بعد الموت». والدينُ: الجزاءُ والمكافأةُ. يقال: دانَهُ ديناً، أي جازاه. يقال: كما تَدينُ تُدانُ، أي كما تُجازي تُجازى، أي تُجازى بفعلك وبحسب ما عملت. وقوله تعالى: «أَءِنَّا لَمَدينون» أي مجازون محاسَبون[1].

وقال الراغب الأصفهاني: والدين يقال للطاعة والجزاء، واستعير للشريعة، والدين كالملة، لكنه يقال اعتبارا بالطاعة والإنقياد للشريعة. قال: «إن الدين عند الله الإسلام» (آل عمران/19).[2]

وابن منظور أضاف إلى ما سبق الحساب والإسلام. وقال الدَّين بالفتح مصدر أما الدين بالكسرة اسم[3]. وذكر الزبيدي: لكلمة «الدين» عشرين معنى، استمدها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومن الشعر العربي.[4]

والمترجم عاصم أفندي؛ ذكر لكلمة «دين» أكثر من ثلاثين معنى. ومن تلك المعاني ما تتعلق بمعنى الدين اصطلاحا وهي الجزاء والمكافأة والإسلام والعرف والعادات والتقاليد والذل والإنقياد والحساب والحكم والقهر والسلطة والملك والأوامر والعبادة الصحيحة والملة والشريعة والطاعة. [5] وهذه المعاني لها علاقة بكلمة «الدين» في الإصطلاح.

الطاعة والمكافأة هما المعنى الظاهر لكلمة «دين» فينتظر المكافأة من القوى المختلفة بالطاعة لها. أما القوة المطاعة في الدين الإسلامي هي القوة العليا أي الإله الواحد القهار. وعند كل الأديان قوانين ووعود من الإله المعتقد بمكافأة الطائعين له.

والدين الأول، هو الدين الذي علمه الله تعالى لآدم وعلمه آدم لأولاده. وهذه التعاليم قد استمرت من النبي الأول إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (الروم، 30/30). وقد انقسم الدين في هذه الآية إلى الدين الصحيح والدين غير الصحيح. وقد بينت الآية أن الدين الصحيح هو ما كان مطابقاً للفطرة.

وفي آيةٍ أخرى يقول الله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ » (آل عمران، 3/19). «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ » (آل عمران، 3/85).

ومنذ أن يولد الإنسان ويفتح عينيه على الدنيا يرى فيها  تجليات القدرة الإلهية والإنسجام التام بين مفردات هذا الكون، ويلاحظ آيات الله مبثوثة في كل ما خلق، وهي الإشارات الواضحة، والدلالات القاطعة، والعلامات البينة على قدرته سبحانه وتفرده.

وآيات الله ليست محدودة بالزمان ولا بالمكان، بل هي كثيرة منشورة في الكون كله؛ في السموات وفي الأرض، وفي الحيوانات، والنباتات، وفي نفس الإنسان  والآفاق. ففي الموجودات كلها نرى آيات الله تعالى بينة ظاهرة.[6] وهذه الآيات الكونية يراها الإنسان بعين فطرته. أنظر إلى قوله تعالى في كتابه الكريم: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (فصلت، 41/53).

والآيات الموجودة في الآفاق والأنفس تدل على وجود خالق مدبر لهذا الكون. لذا تشغل الإنسانَ منذ طفولته الأفكارُ المتعلقةُ بالله تعالى. فهو يوجه الأسئلة إلى من حوله، من أين جئنا؟ من خلقنا؟ إلى أين مصيرنا؟ وما إلى ذلك من الأسئلة، ثم يصل إلى معرفة ربه ورب العالمين، كأنه رأى الشيء بعينيه. وقد تقدم شرح هذا الموضوع تحت عنوان «ألست بربكم».

إن لفظ الآية يطلق على الجزء المعين من كتاب الله، وقد أُطلق عليها آية لما تحمله من إعجاز ودلالة على أن هذا الكتاب ليس من قول البشر، بل هو تنزيل من حكيم حميد.

 ولأن الكل يعرف وجود الله سبحانه، فلا يوجد في القرآن الكريم آية تحاول إثبات وجود الله تعالى. ولم يقف أحد من أنبياء الله ورسله على هذا الموضوع. وكان المرتكز الأساسي عند كل الأنبياء والرسل هو الدعوة إلى أن «لا إله إلا الله» وهم قد بذلوا كل جهدهم في هذا الطريق؛ طريق التوحيد. يقول الله تعالى مخبرا قول  النبي محمد صلى الله عليه وسلم لقومه: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ. فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» (الذاريات، 50/50-60).

المتدين، هو من خضع لأوامر الدين، ولكل إنسان مفهوم خاص للتدين؛ ويعتبر الكل نفسه متدينا بناءً على تلك المفاهيم الخاصة عنده، ولكن الله سبحانه لا يقبل من الدين إلا ما ارتضى، ولا يقبل من الولاء إلا ما كان له وبالطريقة التي أمر، يقول الله تعالى: «يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ» (الأعراف، 7/27-30).

إن الدين الصحيح هو ما اتفق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولو نظرنا إلى الناس بمنظار الفطرة نرى أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ قسم يتّبع الفطرة، وقسم آخر لا يتبعها، وقسم ثالث متردد بين الإتّباع والرفض. وسنقف على هذه الأقسام الثلاثة:

أ. الذين اتبعوا الفطرة

جميع الرسل قالوا لقومهم أن «لا تعبدوا إلا الله». والعبادة في اللغة بمعنى الطاعة، وهي من الطوع. والطوع: الإنقياد، ويضاده الكره قال عز وجل: «ائتيا طوعا أو كرها» (فصلت، 41/11). «وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها» (آل عمران، 3/83). أما الطاعة فيكثر استعمالها في الإنقياد والإتباع.[7] كما أن العبادة معناها التوجه والتذلل لله وحده، والإنقياد له سبحانه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه, وقد عرَّفَها العلماء بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه.

العبادة هي الغاية التي خلق الله الخلق لأجلها، قال تعالى: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» (الذاريات، 51/ 56) ولأجل تحقيق هذه الغاية واقعا في حياة الناس بعث اللهُ الرسل، قال تعالى: «ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت» (النحل، 16/36) وقال تعالى: «وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون». وهي سبيل سعادة الإنسان ورفعته في الدنيا والآخرة. كما أنها تخرج الناس من العبودية للمخلوق إلى عبودية الخالق وحده فتجعل الإنسان عزيزا مستعليا بإيمانه وتحرره من الطواغيت ؛ لأن عبادة الله تعالى تخلصه من كل القوى المزيفة، فهو لا يعتمد إلا على الله الواحد القهار الذي لا غالب لأمره.

وقد عبر ربعي بن عامر عن عزة المؤمن واستعلائه حين سأله رستم ما الذي جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه.[8]

والفطرة تتطلب أن يكون الإنسان حراً. أما الناس فتهوى أنفسهم أن يكون الضعفاء عبيدا لهم، والأقوياء أربابا عليهم. والذي يبلغ سن الرشد يواجه الصعوبات والضغوط الخارجية والداخلية، والتي قد تدفعه إلى العبودية لغير الله تعالى، إن تلك الصعوبات والضغوط هي العوامل والدوافع التي تعمل من أجل إفساد الفطرة «فطرة الله التي فطر الناس عليها».

والفطرة هي التي يجب أن تُتَّبع. وهي النظام الإلهي والبنية الأساسية التي تدل على الخلقة والتغير والتطور والمبدأ والنظام. وعليها يبنى نظام السماوات والأرض والبشر والحيوان والنبات وغيرها من الموجودات، أي أنها المحرك الأساسي للكون. والآيات التي يراها الإنسان في الأنفس والآفاق هي آيات الفطرة، و بمعنى آخر هي  الآيات الكونية. فالقرآن هو آيات الله المسطورة في المصحف، كما أن الفطرة، آيات الله المنثورة في الآفاق والأنفس.

فالدنيا دار امتحان، ومن المعلوم أن الإمتحان يعقد في بيئة حرة تتوافر فيها إمكانية التعبير عن الأفكار والمشاعر بلا أي قيد أو شرط. فالإنسان الممتحَن حر في أخذ قراره وتطبيقه في ساحة الإمتحان ليفوز من فاز عن بينة، ويخسر من خسر عن بينة. فكل أفعال الإنسان في الدنيا تحدث بمحض إرادته، لذا يستحق الفائز الجائزة. قال الله تعالى «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى».. وهو يستطيع بفطرته أن يميز بين عمله الإختياري أو الإجباري خيراً كان أو شراً. فهو غير مسؤول عما أُجبر عليه. وبهذا نصل إلى أن هناك أمورا ثلاثة يملكها الإنسان:

الأمر الأول: حرية التعبير؛ ذلك أن الإنسان حر في اتخاذ القرار. فله  قلب يصدر به القرار، وله عقل يميز به بين الخطأ والصحيح أي ما يوافق الفطرة وما يخالفها. فالقرار الصادر الموافق للعقل يتفق مع الفطرة، مع احتمال وقوع الخطأ ولكن يسهل تصحيحه؛ لأن الأساس فيه العقل وليس هوى القلب. والقرار الصادر من القلب بدون مراقبة العقل ما يلبث إلا وينقلب سريعاً، ولهذا سمي القلب قلباً لكثرة تَقَلُّبه. كما قال الشاعر: ما سمي الإنسان إلا لنسيه    وما القلب إلا أنه يتقلبا.

والإنسان يتخذ القرارات في كل لحظة من لحظات حياته،  ومصدر تلك القرارات هو القلب أو العقل أو هما معاً. أما قرار العقل فدائماً حاسم ومرتكز على أساس قوى، ولا تجد أنك بحاجة إلى تغييره في المستقبل، وقلَّما تندم عليه، وهو القرار الأفضل في التصرفات المادية المحسوسة! وأما قرار القلب: كثيرا ما يكون في الأمور المعنوية أفضل بما يحمله من معاني الرحمة والعطف ودلالات المشاعر وصورة الروح الإنسانية، ولكنه محمول على جناح الخيال وكثيراً ما يجنح بالإنسان إلى مجانبة الحق فيحتاج إلى تصحيحه في المستقبل وكثيراً مايندم على ذلك القرار!

والإحتكام إلى مشورة القلب غالبا ما يؤول إلى التأسف والندم! وإذا استند القرار إلى العقل مجرداً عن القلب خلا من الرأفة والرحمة في كثير من الحالات، والرشيد هو من يستند إلى مشورتهما معاً ؛ لأن الحكم الصادر عنهما أقرب إلى الصواب والصدق.

العقل والقلب يصدران الأوامر في الإنسان، ولهما حرية الإختيار، ولا يمكن التدخل في قرارهما مهما كان، ولذلك يحاسب الإنسان على ما في قلبه من الإيمان والكفر والنفاق… قال الله تعالى: «لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير» (البقرة، 2/284).

ولا يستوى ما يخطر على البال من وساوس الشيطان والعواطف والأماني، وما كان القلب منعقدا عليه ؛ كالإيمان، والكفر، والمحبة، والكراهة، والغضب، والنوايا الصالحة. فيمكن للإنسان أن يمتنع عما في قلبه من المعتقدات الباطلة؛ فيمتنع عن الكفر ويدخل في الإيمان مثلاً، ولكن لا يمكن أن يمتنع عما يخطر على باله من الوساوس الشيطانية، وغاية ما يمكنه فعله في هذه الحالة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

وأساس الدين هو الإيمانُ. وأساس الإيمان هو القبول من صميم القلب. أي التصديق بالقلب. وهذا التصديق القلبي لا يعرفه إلا صاحب هذا القلب وخالقه «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير». والقلب كمركز في إتخاذ القرار للإنسان هو عضو حر، لذا لا يمكن إجباره على قبول أو رفض أي فكر أو دين. قال الله تعالى:

«لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم» (البقرة، 2/256).

وكذلك لا يجوز إجبار الإنسان على العبادة؛ لأن النية من شروط صحة العبادة ؛ والنية هي العزم على فعل أمرٍ ما؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات»[9] ولا يَعرف القصد من أداء العبادة إلا الذي أدّاها، وبالطبع فإن الله يعلم النوايا والقصود، فهو سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. ولأنه لا عبادة إلا بالنية، فلا يجبر أحد على العبادة. ومن الممكن أن يُجبَر أحدٌ على الصلاة، فإن صلّى ولم ينوِ للصلاة فكأنه لم يصلِّ. ولا فائدة في قيامه وسجوده وقعوده وتشهده.

كما أن الأفكار والمعتقدات هي التي توجه الإنسان، وتجعله مسؤولاً عن أفعاله؛ لذا لا يؤاخذ الإنسان بما يظهر خلافا لما في قلبه تحت الضغط (الإكراه). قال الله تعالى: «مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ » (النحل، 16/106).

الأمر الثاني: التمييز؛ وهو الشعور من الإنسان بما يقوم به من الأفعال. ونفس الإنسان تهوى مخالفة الفطرة، كشاب يدخن ليثبت أنه قد كبر، ولكنه يعرف أن فعله هذا مخالف للفطرة. قال الله تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» (الشمس، 91/7-10).

والمخالف للفطرة يفزع مما يفعله في البداية، وبعد ذلك إما أن يكف عن المعصية وإما أن يداوم عليها. والذي أفزعه هو إلهام اللهِ إلى النفس بأنها عاصية؛ وهو إيقاظ وتنبيه لها بأنها مخطئة في هذا الأمر، وإن استمر على العصيان فإنه يعاني الضيق النفسي، وهذا الضيق يحثه على التوبة. والتقوى تؤدي إلى حماية الإنسان نفسه من الوقوع في السيئات وتدفعه إلى التجمل بالسلوك الحسن، والسلوك الحسن يريح الإنسان، وهو كذلك إلهام له من الله تعالى.أي:أن الله تعالى يلهمه تقوى النفس.

عن وابصة بن معبد الأسدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «جئتَ تسأل عن البِر والإثم»؟ قال: قلت نعم. قال: فجَمَع أصابعَه فضَرَب بها صَدرَه وقال: «إستَفتِ نفسَك. إستفتِ قلبَك يا وابصةُ» ثلاثا. «البِرُّ ما اطمَأَنَّت إليه النفسُ واطمأنَّ إليه القلبُ. والإثمُ ما حاك في النفس وتَرَدَّد في الصدر وإن أفتاك الناسُ وأَفتَوك».[10]

والإنسان حين يصدر القرار بشكل صحيح يكون منشرح الصدر ويسعد بتطبيقه. أما القرار الخاطئ فيجعل الإنسان ضيق الصدر وينزعج عند تطبيقه؛ لأنه سلوك مخالف للفطرة. قال الله تعالى: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (البقرة، 2/277).

الأمرالثالث: التذكر للإنسان؛ وهو أن يحفظ المعلومات الحاصلة من آيات الأنفس والآفاق، ويستحضرها عند الحاجة، ويطلق على هذه المعلومات، الذكر. ويراد بالذكر هيئة للنفس يمكن للإنسان بها أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة،كالحفظ مثلاً. إلا أن الحفظ يقال باعتبار إحرازه، والذكر يقال باعتبار استحضاره، وتارة يطلق على خاطر القلب وما يحضر على اللسان. ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذِكر بالقلب وذكر باللسان[11]. وقد يكون من تلك المعلومات ما هو خطأ. والمتدبر المتعقل يكشف هذا الخطأ. والصحيح من تلك المعلومات يتطابق مع كتاب الله تمام التطابق. فكل من يقرأ القرآن الكريم بالتدبر والتبصر يصل إلى غاية الأمن والثقة والطمأنينة؛ لأنه يجد به ذلك التوافق التام بين آيات الله المنشورة في الأنفس والآفاق، وآيات الله المسطورة في المصحف.

وقد دعا الرسل الناس إلى التذكر. والتذكر استحضار ما كان في الذهن من علم ومعرفة. أُنظر إلى قوله تعالى وهو يقصُّ قولَ إبراهيم عليه الصلاة والسلام لعبدة الأصنام: «أفلا تتذكرون»؟ (الأنعام، 6/80). أي أفلا تقارنون ما قلته لكم بما عندكم من المعارف الفطرية؟ فتعرفون بذلك أنكم مخطئون. فهي دعوة لهم إلى محاسبة النفس.

كما أن المعلومات الفطرية الصحيحة يقال عنها الذكر، وهو كذلك اسم للكتب المـنزلة من عند الله تعالى.[12] قال الله تعالى: «أَلا بِذكْرِ اللهِ تطمئِنُّ القُلُوبُ» (الرعد، 13/28). وقد سمى الله تعالى القرآن بالذكر فقال: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر، 15/9).

وقد كانت دعوة الرسل مثيرة للغاية، لأنهم ذكروا ما في الفطرة، أي أنهم دعوا إلى الأفكار العالمية الصحيحة، وبمعنى آخر أن دعوتهم دعوة عالمية، قال الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (سبأ، 34/28). ولكن من الممكن أن لا تصل دعوة الرسل إلى جميع الناس، وبهذا ينقسم الناس إلى مجموعتين؛ مجموعة قد وصلت إليهم دعوة رسول من الرسل وأخرى لم تصلهم الدعوة.

المجموعة الأولى. الذين لم تبلغهم الدعوة: من لم تبلغه دعوة رسول، يكفيه أن يتبع الفطرة. واتباع الفطرة تتطلب عدم الإشراك بالله تعالى، أي أن يؤمن بـ «لا إله إلا الله» قال الله تعالى: «إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ» (النساء، 4/48).

إن الكون مليء بالأدلة الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته، وهي  منتشرة في الآفاق وفي الأنفس يراها الإنسان منذ طفولته فلا يبقى عنده شك بوجود الله ووحدانيته. ومع ذلك فلا يوجد عند المشركين أي دليل يبرر شركهم. قال الله تعالى: «وإذا قيل لهم تعالَوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون» (المائدة، 5/104). «ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتَّبِعُ الذين يدعون من دون الله شركاءَ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون» (يونس، 10/66).

 الشرك رجس ونجس. والمتدبر المتبصر في آيات الله لا يقع فيه، لأن الله «يجعل الرجس على الذين لا يعقلون» (يونس، 10/100) وأما «الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب». (الرعد، 13/29). وعلى هذا فالشرك هو إثم لا يُغفر سواء بلغت الدعوة أصحابه أم لا. ونقرأ آية من الآيات التي أوردناها سابقا وهي قوله تعالى: «أَوْ تقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبلُ وكنّا ذريةً من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون» (الأعراف، 7/173).

فمن لم تبلغه دعوة رسول ليس مسؤولا عما جاء به الرسول من التعاليم الدينية؛ لأنه «لا يكلفُ الله نفسًا إلا وسعها» (البقرة، 2/286). ومن المفيد في هذا الصدد مراجعة موضوع «من يدخل الجنة» وهو من الموضوعات ذات الصلة بهذا الموضوع.

المجموعة الثانية. الذين بلغتهم الدعوة: وعلى من بلغته دعوة رسول من رُسل الله يجب عليه أولاً أن يتأكد من أنه مرسل من الله تعالى حقاً؛ لأن الله تعالى أرسل مع كل رسولٍ ما يصدق رسالته من المعجزات. وسميت بمعجزة لأنه لا يمكن الإتيان بمثلها. والذي يرى تلك المعجزة يعرف يقينا أنه مرسل من الله تعالى، ولذا نقول «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده رسوله».

وكل من يفهم القرآن الذي هو معجزة خالدة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يصل إلى هذا اليقين. قال الله تعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً» (النساء، 4/115).

ومن اتبع الفطرة فقد اتبع الدين، لأنها تحمي من الإنحراف وتعطي الطمأنينة. قال الله تعالى فيهم: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألّا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون. نزلاً من غفور رحيم. ومن أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين» (فصلت، 41/30-33).

ب. الحيارى

وهم الذين يعيشون حسب ما تهواه أنفسهم، يريدون من الله تعالى العطاء من كل شيء لكنهم لا يلتزمون أوامره، يطلبون فضله ولا يعملون لإجتناب غضبه. والبعض منهم يعبدون الله لينفذ لهم مطالبهم. وفي حال تحققت مطالبهم فإنهم يفرحون ويتمسكون بالدين، وإلا فيقنطون، ويضلون. وهم بذلك يتبعون الدِّين من أجل مصالحهم الدنيوية. وإذا سيئ بهم الحال انقلبوا على أعقابهم وغيروا الإتجاه. لذا سميناهم “المتحيرون” أو “المترددون”. وللمزيد في هذا الصدد يرجى قراءة موضع “فهم المشركين للدين”.

ث. الذين يخالفون الفطرة

قال الله تعالى: «الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء، سبحانه وتعالى عما يشركون. ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلُ، كان أكثرهم مشركين. فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، يومئذ يصَّدَّعون. من كفر فعليه كفره، ومن عمل صالحا فلأنفسهم يَمْهَدُوْنَ» (الروم، 30/40-44).

إن أكثر الناس مشركون لأنهم يخالفون الفطرة. ويقال لمن أشرك بالله مشركا، وتكون الشراكة بين اثنين على الأقل؛ أحدهما يكون دائما هو الله تعالى الإله الحق، والثاني يختلف أي: ما يُتخذ إلهاً من دونه.

قد يكون ما يُتخذ إلها من دون الله ما يُعظِّمونه من الموجودات، وقد يكون هذا كائناً روحانياً، ويُعطَى من الأوصاف ما يختص به الله تعالى، ويزعمون أنهم وسطاء بينهم وبين الله تعالى في حل المشاكل التي لا تحل إلا بالله[13]. وبهذا يصبح الإنسان عبداً لهم قبل أن يكون عبدا لله. وبعض المشركين يجعلون الوسطاء من البشر لأنهم يعتقدون أن لديهم خصائص لاهوتية.

وقد قرر المسيحيون في مجمع الخلقيدونية الذي عقد عام 451م وهو المجمع المسكوني الرابع: بأن لعيسى (عليه الصلاة والسلام) طبيعتين اللاهوتية والناسوتية وهو إنسان حق وإله حق[14].  وهذا زعم لا تقبله الفطرة ولا العقل، ولذلك لا يريد أصحاب تلك الأفكار والمعتقدات استعمال عقولهم، وهم دائما يرفضون منطق الفطرة والعقل ليسهل لهم بعد ذلك السيطرة على عقول الناس بالإدعاءات المزعومة، والتقاليد الباطلة، والضغوط الروحانية. ومن الناس من يؤلِّه نفسه فيكون عبدا لها قبل أن يكون عبدا لله.

1. الذين أصبحوا عبيداً لأنفسهم

 هم الذين يحبون  أن يعيشوا كما تهوى أنفسهم وتلذُّ أعينهم، وينزعجون إذا جاءهم رسول بأمر من الله؛ لأنهم يقتصرون على علاقتهم بالله بإكرامه لهم وتفضله عليهم دون أن يطيعوه في أوامره ونهيه، قال الله تعالى: «إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً» (النساء، 4/150-151).

وقد جرى بيني وبين أحد من الذين لا يقبلون أمر رسول الله الحوار التالي:

قال: أنا أؤمن بالله يقينا.

قلت: كل إنسان لا بد وأن يؤمن.

قال: التجئ إليه وأستعين به حينا بعد حين، فيطمئن قلبي وأحس بالسعادة.

قلت: كل واحد يقوم بما تقوم به أنت، المهم؛ هل أنت تطيع وتتبع ما جاء به الرسول من أمر الله تعالى. أم تريد  العيش حسب هواك بدلاً من طاعة الرسول؟

قال: طبعاً، الحياة حياتي؛ من يتدخل في حياتي؟

قلت: ألا يتدخل بحياتك من وهبك الحياة؟

ومنهم من يجعل أوامر الله أقساما يقبل بعضا منها ويرفض البعض الآخر. ومنهم من يدعي عدم وجود الله؛ وهم ينقسمون إلى فريقين. فريق لا يؤمن بوجوده أصلا. وفريق آخر يؤمن بوجوده ولكنهم يقولون بأن هذا الإله لا دخل له في حياتنا.

ويسمى الفريق الذي لا يؤمن بوجود إله بـ “الملاحدة”. وهؤلاء منهم الزعماء ومنهم الأتباع، والزعماء يأتون بأفكار ونظريات ليجعلوا الفطرة تابعة لأهوائهم بدلا من أن يتبعوها. والبعض يتعاطفون مع الملاحدة خوفاً من أن يفقدوا نفوذهم. والنقطة المشتركة بينهم أنهم يريدون أن يعيشوا أو يبنوا الحياة حسبما تهوى أنفسهم. قال الله تعالى: «أفرأيت من اتخذ إلهَََََهُ هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديهِ من بعد الله أفلا تذكُّرون» (الجاثية، 45/23).

وهؤلاء الناس قد أفرطوا في حب النفس، واعتبروا أنفسهم مركزا للكون وأفكارهم أفكارا عالمية، لأنهم يعيشون في عالم ضيق. كما أنهم متوترون وسريعوا الغضب لأنه لا قدرة لديهم لحل مشاكلهم، كما أنها الحالة الطبيعية لمن يفقد الأمن نتيجة الخروج الفاضح عن فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال الله تعالى: «أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام[15] بل هم أضل سبيلا» (الفرقان، 25/43-44).

والذي يتمسك بفكرة الإلحاد خوفاً من أن يفقد منصبه، فقد وقع في أشد مأزق لا مناص منه. وكلما رأوا آية تدحضهم ازدادوا توتراً.  كما نرى ذلك جلياً من موقف فرعون _ وهو واحد من رموز الإلحاد _ من رسالة موسى عليه السلام؛ حيث رفض الإيمان وأنكر الواحد الديَّان بالرغم من أنه لا يشك بكون موسى رسولاً من الله. ويخبرنا الله عنه بقوله: «فلما جاءتهم آياتُنَا مبصرةً قالوا هذا سحرٌ مبين، وجحدوا بها واستَيْقَنَتْهَا أنفُسُهُم ظلماً وعلواً، فانظرْ كيف كان عاقبة المفسدين» (النمل، 27/13-14).

ويخبرنا الله تعالى في الآيات التالية بأن فرعون كان ملحداً: «وقال موسى يا فرعون إني رسولٌ من رب العالمين حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل» (الأعراف، 7/104-105). «قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إنَّ رسولَكم الذي أُرْسِلَ إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين» (الشعراء، 26/23-29).

في بداية الأمر حاول فرعون أن يجيب موسى (عليه الصلاة والسلام) ويتظاهر بأنه عاقل، وحكيم، وصابر، وحازم، ولكن عندما فشل أخذه التوتر والإضطراب وبدأ يهدد موسى (عليه الصلاة والسلام). قال الله تعالى: «ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى، قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى، فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى» (طه، 20/56-59). «وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم» (يونس، 10/79). «فجمع السحرة لميقات يوم معلوم» (الشعراء، 26/38).

واجتمع الناس والسحرة، وبدأ الإستعراض.. و«قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون» (الشعراء، 26/43-44). «فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى» (طه، 20/66). «فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون» (الشعراء، 26/45). «فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين» (الأعراف، 7/118-119). «فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين» (الشعراء، 26/46-49). «قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى» (طه، 20/72-73). «وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب» (غافر، 40/26-27).

وهم يعلمون وجود الله ولكنهم يجحدون. فإذا وقع عليهم العذاب وانقطعت عنهم الأسباب يقولوا آمنا.. كما أخبر القرآن الكريم عن قول فرعون حين أخذه الغرق؛: «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين» (يونس، 10/90).

والذين اتبعوا فرعون كان عاقبتهم كعاقبته، قال الله تعالى: «فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين» (الزخرف، 43/54).

وكل من يؤله نفسه يعرف حقيقة وجود الله، وكذلك الذين ينكرون وجود الله _ أي الملاحدة _ يعرفون حقيقة وجوده سبحانه، والفرق بينهما في الظاهر فقط والحقيقة واحدة. إنّ أول من ألَّه نفسه هو إبليس، وذلك أنه لما أمره الله تعالى أن يسجد لآدم لم يسجد لأنه رأى أنَّ هذا الأمر لا يوافق هواه. قال الله تعالى: «وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصالٍ من حمأٍ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجدَ لبشرٍ خلقته من صلصالٍ من حمأٍ مسنونٍ، قال فاخرج منها فإنك رجيم» (الحجر، 15/28-34). «إلا إبليسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» (البقرة، 2/34).

و عصيان إبليس كان لأمر الله ولم يكن لآدم، لأن ما خالف هواه هو أمر الله تعالى وليس مجرد خلق آدم. لذا قال الله تعالى له: «.. فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» (الأعراف، 7/13). لم ينكر إبليس وجود الله ووحدانيته أبدا؛ لذا قال بعد أن أضل الناس وأغواهم: «إني أخاف الله والله شديد العقاب» (الأنفال، 8/48).

كما أنه يؤمن باليوم الآخر فها هو يتمنى على الله البقاء ليوم البعث بقوله: «رب فأنظرني إلى يوم يبعثون» (الحجر، 15/36).

ولكن قد بدأ كفر إبليس بإعتراضه على أمر الله تعالى بالسجود لآدم، ثم ازداد كفراً كلما عصى أمراً من أوامر الله تعالى. والسبب في الحكم عليه بالكفر والخروج من الإيمان أنه سوَّى نفسه مع الله بالإعتراض عليه واستعلائه على أمره، وبالتالي فإنه قد ألَّه نفسه من دون الله تعالى.

2. تأليه العظماء

إنّ كل من بلغه القرآن ولم يؤمن به، وكذلك الذي خالف الفطرة ممن لم يبلغه القرآن، فقد ألّه نفسه أو غيره؛ أي أصبح عبداً لنفسه أو لغيره. ومن كان هذا شأنه فلا يقبل أن يكون وحيداً ولذلك يبدأ في البحث عن المعاونين من أمثاله ليقوٍّي بهم عضده، إذ أن الخطأ المشترك بينهم يجمعهم ويوحدهم، وتلك الخصائص موجودة في الوثنية، كما أخبرنا القرآن الكريم عن ذلك بقوله: «إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودةَ بينكم في الحياة الدنيا» (العنكبوت، 29/25).

إن الأديان الموجودة اليوم وإن كانت بعيدة عن حقيقة الوحي الإلهي إلا أنها تعتمد على دعوة رسول من رسل الله، لأنه ما من أمة إلا قد أرسل الله فيها رسولاً. قال الله تعالى: «ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين» (النحل، 16/36). وقال «إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير» (فاطر، 35/24). كما أن أهل مكة كانوا يدّعون تمسكهم بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام[16]. وكانوا يقومون بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ. ومع ذلك اعتبرهم القرآن مشركين ودعاهم إلى ملة أبيهم. قال الله تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج، 22/78)

وقد بيّن الله تعالى كيفية التحريف والفساد في الأديان في خطابه لأهل الكتاب قائلا: «يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرًا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد. له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا» (النساء، 4/171).

وقد بدأت اليهود الغلو في الدين ثم تبعتهم النصارى. قال الله تعالى: «قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داودَ وعيسَى بنِ مريمَ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» (المائدة، 5/77-78).

وبلغ غلو اليهود والنصارى في دينهم أن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. قال الله تعالى: «إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون» (التوبة، 9/31).

عن عَدِي بن حاتم قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ.[17] وبهذا اتخذوهم أربابا من دون الله.

ونرى الكثير من المسلمين قد وقعوا في مثل هذا الخطأ. وللوقوف على مثل هذه الأخطاء يرجى مراجعة موضوعي “الإشراف على النكاح” و “الطلاق”. من هذا الكتاب.

وخلاصة القول إن التدين الصحيح يتطلب استعمال العقل واتباع ما أوحى الله تعالى. أما الذين غلوا في الدين فيدَّعون أنّ الدِّين لا يفهم بالعقل، ويرجحون اتباع العظماء بدلاً من اتباع كتاب الله. ومثل هذا ما يقوله الكاثوليك: «إن الإيمان ليس سببه فهم الحقائق ولا رؤيتها على وجهها الحقيقي[18]. الإيمان هو عمل الكنيسة. إيمان الكنيسة مقدم على إيماننا، وهي تحمل إيماننا وتُنَمّيه[19].

قال الله تعالى مخاطبا اليهود والنصارى الذي حادوا عن الصراط المستقيم: «قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا، فلا تأس على القوم الكافرين» (المائدة، 5/68).

وقد وجَّه الله تعالى هذا الإنذار إلى المسلمين أيضا فقال: «ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون» (الزخرف، 43/36-37).

إن رسالة القرآن رسالة عالمية لأنها تعِّبر عن الفطرة؛ وهي سهلة الفهم والإستيعاب، لأنها نتائج الآيات الفطرية التي يشاهدها الإنسان في نفسه والآفاق من حوله. أما تفاسير القرآن الكريم فتعتبر محلية أي أنها ليست عالمية؛ لأن التفسير ما هو إلا فهم المفسر للآية، وكذلك آراء المذاهب وأفكار العلماء كلها تحمل في طياتها عناصر محلية. لذا يجب تبليغ القرآن الكريم الذي هو أساس رسالة الإسلام، وهو الذي ينظم حياة البشرية تنظيما صحيحا. قال الله تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشرُ المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجرا كبيرا وأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما» (الإسراء، 17/9-10).

 


[1] الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقبق أحمد عبد الغفور العطار بيروت، 1983. مادة: دين.

[2] مفردات ألفاظ القرآن، مادة: دين.

[3] لسان العرب لابن منظور بيروت، مادة: دين.

[4] تاج العروس لمحمد المرتضى الزبيدي، مصر، 1306/1889. مادة: دين.

[5] ترجمة القاموس، مادة: دين.

[6] انظر؛ البقر،2/164؛ آل عمران، 3/190؛ الأنعام، 6/97، 99؛ الأعراف، 7/26، 58؛ يونس، 10/5، 6، 67، 92، 101؛ يوسف، 12/7.35؛ الرعد، 13/2،3،4؛ النحل، 16/ 13، 65، 66، 67، 68، 69، 79؛ الاسراء، 17/ 12؛ الكهف، 18/9؛ مريم، 19/10؛ طه، 20/128؛ العنكبوت، 29/24، 33، 34، 35؛ الروم، 30/13؛ لقمان، 31/31، 32؛ السجدة، 32/26؛ السبا، 34/15؛ الزمر، 39/42، 52؛ المؤمن، 40/13؛ الجاسية، 45/3، 4، 5، 6؛ الزاريات، 51/22، 23، 35، 36، 37؛ القمر، 54/12، 13، 14، 15.

[7] مفردات ألفاظ القرآن مادة: طوع، بالتصرف. كذا في لسان العرب لابن منظور، مادة: طوع.

[8] أُنظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 4 / 178- 180.

[9] البخاري، كتاب بدء الوحي، الباب الأول.

[10] سنن الدارمي، كتاب البيوع، الباب الثاني، الحديث الثاني.

[11] مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، مادة (ذكر).

[12] أٌنظر سورة آل عمران، 3/58؛ والأعراف، 7/63؛ الحجر، 15/6-9؛ النحل، 16/44؛ الأنبياء، 21/2، 50، 105؛ الفرقان، 25/18؛ يس، 36/11؛ ص، 38/8؛ القمر، 54/25.

[13] محمد بن عبد الله هاني، (المترجم: عبد القادر آقجيجك) اسطنبول، 1396/1976، ص. 172.

[14] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.

[15] الأنعام لفظ يجمع الإبل والبقر والضأن والمعز.

[16] سيرة النبي لابن هشام تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، 1/216، بيروت، 1401هـ/1981م.

[17] سنن الترمذي، من سورة التوبة، الحديث 3020.

[18] التعليم المسيحي للكنيسة الماثوليكية، الفصل. 156.

[19] التعليم المسيحي للكنيسة الماثوليكية، الفصل. 181.

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.