حبل الله
الوقف والوصية

الوقف والوصية

الوقف والوصية
أ‌.د. عبد العزيز بايندر
الوقف في اللغة: الحبس، مصدر وقف يقف. يقال: وقفتُ الدار للمساكين وقفاً ووقفت الدابة أي حبستها.[1] وفي الاصطلاح يعني تبرع بمال ابتغاء مرضاة الله لمنفعة الناس. يقال عن الذي تبرع بالوقف (واقف) وعلى المال (موقوف) وعلى المستفيد (مشروط له وموقوف عليه).
الكعبة المشرفة هي أول بيت وقف لخدمة الناس. قال الله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ؛ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» (آل عمران، 3 / 96-97).
أما الوصية فهي الإيصاء، وتطلق لغة بمعنى العهد إلى الغير في القيام بفعل أمر. وفي اصطلاح الفقهاء: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع، سواء أكان المُملَّك عيناً أم منفعة. والوصية كثيرا ما تكون للجهات الخيرية كالمساجد والمدارس. وعلى هذا توجد علاقة وثيقة بين الوصية والوقف.
وفي هذه الدراسة نريد الوقوف على كلٍ من الوقف والوصية في ضوء الكتاب والسنة جنبا إلى جنب.
1.الوقف في القرآن والسنة
الكعبة نموذج للوقف فقد اشتملت على جميع عناصر الوقف. وقوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» في الآية السابقة تشير إلى أن الكعبة خصصت لخدمة العامة. وقول إبراهيم عليه السلام التالي يجعل الموضوع أكثر وضوحا حيث قال: « رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (إبراهيم، 14 / 37).
و كلمة “بيتك” في الآية تدل على أن التخصيص يكون لله تعالى. وكذلك كلمة ” الْمُحَرَّمِ ” تدل على أنه لا يجوز ادعاء حق الملكية لأحد من الناس. و”لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ” تدل على الموقوف عليه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: “يا رسول الله، إنِّي أَصَبْت أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا ؟ فَقَالَ: إنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْت بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ [2].قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ ، وَذَوِي الْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا بِالْمَعْرُوفِ، غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ فِيهِ، أَوْ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ”.
وعن عمرو بن الحارث رضي الله عنه قال: “ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضا جعلها صدقة”.[3]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ “.[4] ومن الواضح أن الوقف يُنتفع به بعد الموت مثل الصدقة الجارية. قال الله تعالى: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» (المنافقون، 63 / 10-11).
2.الوصية في القرآن والسنة
الوصية تطلق لغة بمعنى العهد إلى الغير في القيام بفعل أمر. جاء في القرآن الكريم نوعان من الوصية: الأولى: وصية الله؛ والثانية: وصية الإنسان.
أ‌.وصية الله
وهي أمر الله تعالى في تقسيم تركة من مات من المسلمين. كما جاء في قوله تعالى: «يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا؛ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ» النساء، 4 / 11-12).
وقوله تعالى: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (النساء، 4 / 176).
وقد أمر الله تعالى بهذه الآيات الثلاثة المسلمين بتوزيع التركة للمستحقين بالمعروف. كما نرى ذلك في قوله تعالى: « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ؛ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة، 2 / 180-181).
ب‌.وصية الناس
هي وصية من مات وترك أموالا؛ وهي المراد من قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ» كما نفهم منها أن الدين والوصية متحدتان في الوصف. وقد جاءت كلمة الدين بمعنى القرض الموثق في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة، 2 / 282).
من الممكن أن يكون المتوفى قد اعترف بدين عند الشهداء قبل موته. ويجب أن يكون قد اعترف عند شاهدين على الأقل. كما قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ» (المائدة، 5 / 106-107).
وفي حالة عدم وجود شاهدين أو من يكتب فيؤخذ رهان من المدين. قال الله تعالى: «وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ » (البقرة، 2 / 283).
ويفهم من قوله تعالى: «اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ» في الآية الكريمة جواز كون الشاهدين امرأتين أو رجلين أو رجلا وامرأة. كما نفهم من قوله تعالى: «أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم» عدم اشتراط أن يكون الشاهدان مسلمين. أي إذا أصيب أحد بمرض الموت أثناء السفر وأراد أن يُشهد على أنّه مَدين فيجوز له أن يستشهد من غير المسلمين.
من الممكن أن يقوم البعض بالوصية أي بالاعتراف بالدَّين بهدف حرمان الوارث من الميراث؛ أو أن يحيف بين الدائنين؛ فيجب منعه من الظلم؛ لذا قال الله تعالى: « فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (البقرة، 2 / 182).
ونفهم من الآيات السابقة أن على المدين أن يكتب وصيته أي اعترافه بالدين. وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ” مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ”.[5]ويراد بالوصية هنا الدين كما قاله النووي من فقهاء الشافعية.[6] وإلا لكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من كتب وصيته.
وإذا مات شخص وعليه دين فعلى الدائنين إثبات ديونهم بالشهادين أو بالوصية المكتوبة من قبل المتوفى، حيث نفهم ذلك من الآيات المتعلقة بالميراث كما في قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ».
3.العلاقة بين الوصية والوقف
الوصية في الفقه التقليدي تعني التبرع بمال إلى شخص أو إلى جهة خيرية بشرط تسليمه بعد الموت. ويستدلون بما رواه البخاري عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ» فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: «لاَ» ثُمَّ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ – أَوْ كَثِيرٌ – إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ».[7]
وهذا الحديث لا علاقة له بالوصية؛ قال الله تعالى: « وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» (المنافقون، 63 / 10-11).
وإذا أراد الإنسان فعل الخيرات فعليه أن يفعل وهو على قيد الحياة. وقد أدّى قبول الوصية التي تنفذ بعد الموت إلى مشاكل كثيرة في فقه الميراث وتوزيعها كما أثَّر على نظام الوقف في الإسلام. حيث كان الوقف في بدء الإسلام تبرع بالمال للجهات الخيرية فقط، ثم ظهرت الأوقاف الأسرية والذرية التي لم يأذن بها الشرع.[8]
يرى الفقه التقليدي الوقف المشروط بالموت جائزا. يقول الكاساني من فقهاء الحنفية أن من قال: إذا مت فقد جعلت داري أو أرضي وقفا على كذا جاز.[9]
ويكون إعمال الوصية المشروط بالموت حين انتقال الميراث إلى الوارث؛ وفي هذه الحالة لا يبقى أي علاقة لصاحب الوقف أو الوصية مع المال الموقوف وقد خرج من ملكيته بموته. ولا ينتظر الثواب للميت وفقا للآيات والأحاديث. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟ قال أن تصدق وأنت صحيح حريص تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان.[10]
بناء على ما سبق فإنَّ وقفَ مال أو الوصية به لشخص أو لجهة خيرية معلقا بالموت هو تهريب للمال من الوارث وحرمانه من الميراث. فلا ينتظر من يفعل ذلك ثوابا بل يحمل وبالا.

[1] لسان العرب، مادة: وقف.
[2] صحيح مسلم، 4- باب الوقف  15 – (1632).
[3] البخاري، الوصايا، رقم الحديث 1؛ الجهاد، رقم الحديث 61؛ المغازي، رقم الحديث 3.
[4] مسلم، الوصية، رقم الحديث 1631.
[5] البخاري، الوصية، رقم الحديث 1؛ مسلم، الوصية.
[6] أنظر: مختصر المزني، 8 / 519.
[7] صحيح البخاري، باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث 1295
[8]نَشَتْ جغاتاي، “تأثير المؤسسات الوقفية في الدولة الإسلامية على فقه الفرائض”، مجلة الأوقاف العدد: 11، ص. 3.
[9] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (6/ 218).
[10] البخاري، باب الصدقة عند الموت، رقم الحديث 2748.

التعليقات

  • وأسأل الله العلي القدير أن يجعله في ميزان حسناتكم و بارك الله فيكم و نفع بكم أمة الإسلام

  • معلومات عن موقع حبل الله

    http://www.hablullah.com/

    موقعٌ يَهدف إجمالا إلى استنباط ما في القرآن على أنه المَصدَرُ الأولُ والآخِرُ، وتأتي السنةُ تابعةً له غيرَ مستقلةٍ عنه بإصدار حكم شرعي. كما أن هذا الموقع لا يَجعل مذهبا أو قَولا لعالم مهما كان علمُه وتقواه مَرجَِعا في تقرير حكمٍ شرعي الدكتور عبد العزيز بايندر تركيا

  • جزاكم الله خيرا أرجو من فضيلتكم شرح معنى الاآة الكريمة (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) وهل حقا نسخت باية المواريث؟
    جزاكم الله عنا كل خير

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.