حبل الله
24. الطلاق (حق الزوج في أن يفترق عن زوجته)

24. الطلاق (حق الزوج في أن يفترق عن زوجته)

 الطلاق (حق الزوج في أن يفترق عن زوجته)

 الطلاق في القرآن الكريم هو من حق الزوج. أي الفاعل في فعل الطلاق هو الزوج. أما إنهاء الحياة الزوجية من قبل الزوجة فهو الافتداء. قال الله تعالى: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» (البقرة، 2/229).

و«ال» في لفظ «الطلاق» للتعريف والعهد، فيكون المعنى؛ الطلاق المعروف أو الطلاق المشار إليه. وقد بين الله تعالى ذلك في سورة الطلاق. قال الله تعالى:

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا. فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ[1]  أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» (الطلاق، 65/1-3).

قد جعل الله تعالى للطلاق قدرا ومقياسا كما جعله في كل الأشياء. وقد بينت الآيات السابقة ذلك القدر. عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طَلَّق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمرُ بنُ الخطاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرْهُ فَلْيُراجِعها، ثم لْيُمسِكها حتى تَطهُرَ ثم تَحِيضَ، ثم تَطهُرَ، ثم إنْ شاء أَمسكَ بَعدُ، وإنْ شاء طَلَّق قبلَ أن يَمَسّ. فتلك العِدَّةُ التي أَمَر اللهُ أن تُطَلَّقَ لها النساءُ».[2] قال عبدُ الله: فرَدَّها عَلَيَّ ولم يَرَها شيئا، وقال: «إذا طَهُرَتْ فلْيُطَلِّق أو لِيُمسِكْ». قال ابنُ عمرَ: وقَرَأَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) من قبل عدتهن.[3]

ويمكن أن نلخص الأمور الواجب مراعاتها في الطلاق كالتالي:

أ. الطلاق في العدة

المراد بالعدة هنا؛ هي المدة التي تمضيها المطلقة في بيت زوجها، وتنتظر إنتهاء العدة. قال الله تعالى: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ»

ولا مجامعة في أثناء حيضها لأن العلاقة الجنسية ممنوعة فيها.[4] والقروء هي مدة طهرها التي يمكن المجامعة فيها، إذ أنها تعيش في بيت زوجها أثناء عدتها.  فكون الطلاق في العدة يعني أن الزوجة قد طهرت ولكن لم يحصل الاتصال الجنسي مع زوجها. فسبب عتب النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر، هو أنه طلق امرأته وهي في حيضها ولم ينتظر إلى أن تطهر. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتظر مدة طهر جزاء بما اقترف. أي أنه أُمر أن يطلق أمرأته بعد الطهر الثاني إن أراد الطلاق.

ومن الممكن أن يكون السبب في ذلك، هو إنقاذ الأسرة من الانهيار، لأن عدم العلاقة الجنسية بينهما في أثناء الحيض يعطي للزوج فرصة لإعادة النظر فيما حصل بينه وبين زوجته من المشاكل التي أدت إلى الطلاق.

والعدة، ثلاث قروء لمن تحيض. ومدة العدة التي تعتدها الزوجة هي ثلاث حيضات وثلاثة طهور؛ وهي مدة ثلاثة شهور تقريبا. ولا يحصل التفريق النهائي في تلك المدة.

الحيض

الطهر

الحيض

الطهر

الحيض

الطهر

 وتعتد المرأة التي توقفت عن الحيض أو التي لا تحيض أصلا بثلاثة شهور. قال الله تعالى: «وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» (الطلاق، 65/4).

وهذه المرأة يجوز لزوجها أن يطلقها في أي وقت شاء، وتبدأ عدتها حين وقوع الطلاق.

ب. الشاهدان في الطلاق

ويشترط في الطلاق الشاهد. قال الله تعالى: «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا» (الطلاق، 65/2).

لو نظرنا إلى الآيات المتعلقة بالموضوع بتمعن فإنه يظهر جليا أن الشاهدين شرط في كل مرة من مرات الطلاق. ويتحقق التفريق في المرة الأولى. وبها يترتب على المسلمين أمر يجب مراعاته والانتباه إليه؛ وهو الاهتمام بشأنهما حين يتحقق التفريق. قال الله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا» (النساء، 4/35).

ويمكن للزوج الرجوع في أثناء العدة، ولكن بشرط أن تكون نيته الإصلاح. كما دلَّ على ذلك قوله تعالى: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا» (البقرة، 2/228). ولا يجوز الرجوع بنية جلب الضرر عليها لذا قلنا بوجوب الشاهدين في كل مرة من مرات الطلاق.

ويشترط الشاهدان في المرة الأخيرة أيضا ليعرفا نية الزوج. قال الله تعالى: «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة، 2/231).

ويقرر الشاهدان أن الزوج قام بإرجاع زوجته بنية الإصلاح. كما قال الله تعالى: «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا » (الطلاق، 65/2).

ت. إحصاء العدة

وقد أوجب الله تعالى وظيفة إحصاء العدة على الزوج بقوله: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ…» (الطلاق، 65/1). وهذا يجبر الزوج لأن يهتم بزوجته. وإلا ربما يفقد الزوج فرصة الرجوع. ومن ناحية أخرى يجب على الزوجة أن تكون صادقة فيما يتعلق بعدتها. قال الله تعالى: «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ» (البقرة، 2/228).

ومن الممكن أن تكون المرأة حبلى فتخفي كونها حبلى بالقول إنها حاضت وطهرت حتى تتمكن من الافتراق عن زوجها في أسرع وقت ممكن. وقد حذرت الآية المرأة من أن ترتكب مثل هذا الإثم.

ث. عدم خروج المطلقة أو إخراجها من بيتها حتى تنقضي العدة

 وقد بين الله تعالى في الآية الأولى من سورة الطلاق، أنه لا يجوز للمطلقة أن تخرج من بيتها وكذلك لا يجوز إخراجها من قبل الزوج. قال الله تعالى: «لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ».

واعتبرت الآية أن “البيت” هو بيت الزوجة مع أنه بيت الزوج. وهذا يدلُّ على أن المطلقة تستعمل هذا البيت كبيتها أثناء العدة. ولو كان هذا البيت ملكا لها لما قيل «لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ».

وبخروج المطلقة أو إخراجها من بيتها فإن مهمة الحكمين تزداد صعوبة  وهما يحاولان التوفيق بينهما. كما ويزداد التوتر بينهما بنشر كل واحد منهما مساوئ الآخر. ولهذا أمر الله تعالى أن لا تُخْرَج المطلقة من بيتها ولا تَخرُج هي بنفسها.

كما أن الزوجين اللذين عاشا في بيت واحد قرابة ثلاث شهور، من الممكن أن يراجع كل منهما نفسه فيصلح حاله مع الآخر وهذا يؤدي الى دفء العلاقة بينهما ويزيل الأسباب التي أدت إلى الطلاق. ويدل على هذا قوله تعالى: «لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا» (الطلاق، 65/1).

ج. حدود الله

وقد وردت عبارة “حدود الله” المتعلقة بالطلاق، في الآية الأولى من سورة الطلاق، والآيتان 229، 230 من سورة البقرة. جاء في الآية الثانية من سورة الطلاق؛ قوله تعالى: «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا». وهذه الآية والآية 231 من سورة البقرة وهي قوله تعالى: «وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا» كلتاهما بمعنى حدود الله.

وفي سورة التوبة قال الله تعالى: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (التوبة، 9/112).

ومعنى ذلك أن الله تعالى أمرنا في ست آيات أن نقف على موضوع الطلاق بإهتمام شديد. ولم يتكرر لفظ “حدود الله” مثلما تكرر في موضوع الطلاق. وهذا دليل واضح على أهمية الموضوع.

والمتجاوز لحدود الله في الطلاق؛ قد أوقع نفسه في الحرج ولكن الطلاق صحيح. والحرج ناتج عن عدم إحصاء العدة من قبل الزوج، أو إخراج الزوجة من بيتها أوخروجها بنفسها. قال الله تعالى: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (الطلاق، 65/1).

لأنه من حق الزوج إرجاع زوجته أثناء العدة. ومن الممكن أن تفوته فرصة الرجوع إذا لم يعد العدة. وكما يصعب على الحكم أمر الإصلاح لو خرجت هي أو أُخرجت من بيتها.

وفي حالة عدم مراعاة حدود الله الواردة في الآية الثانية من سورة الطلاق؛ والآية 229، والآية 230 من سورة البقرة، فإن الطلاق لا يعتبر طلاقا.

ح. الرجوع في العدة

ويشترط في الرجوع حسن النية قال الله تعالى: «وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا» (البقرة، 2/228). والرجوع يكون أثناء العدة كما يجوز له الرجوع قبل لحظات من انتهاء العدة. وإن رجع في الطهر لإشباع شهوته وليس بنية الإصلاح فلا يعتبر هذا رجوعا، وفي هذه الحالة يقع التفريق بعد انتهاء العدة. ولا يجوز له أن يرجع زوجته لتطويل العدة أو إلحاق الضرر بها. قال الله تعالى: « وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة، 2/231).

وهذا يدلّ على الطلاق الأول والذي كان مطابقا للمقادير والمقاييس التي وضعها الله تعالى لصحة الطلاق؛ كما وضع المقادير والمقاييس لجميع الأشياء.

خ. عِدَدُ الطلاق التي وضعها الله تعالى

قال الله تعالى: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (البقرة، 2/229).

قوله تعالى: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ» تدل على أن الطلاق الذي يملكه الزوج طبق القوانين التي وضعها الله تعالى مرتان فقط. أما قوله تعالى: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» يدل على أن الطلاق غير المطابق لتلك القوانين غير معتبر. والطلاق المشروط بأشياء معينة غير معتبر كذلك لأنه غير مطابق لقوانين الطلاق التي وضعها الله تعالى.

وتنطبق تلك القوانين السابقة على الطلاق الثالث كذلك. قال الله تعالى: «فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (البقرة، 2/230).

وتحديدُ الطلاق بثلاث مرات أمرٌ موافق للفطرة؛ لأنه يُعذَر المرءُ مرتين في الخطأ نفسه؛ أما في الثالثة فلا. كما نرى ذلك واضحا في قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح:

قال الله تعالى: « قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا. قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا. قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا. قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا. قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا» (الكهف، 18/ 66-74).

كما رأينا من الآيات السابقة فإن العذر قُبل مرتين وفي الثالثة كان الفراق بين موسى عليه السلام والعبد الصالح، وكذلك الطلقة الثالثة هي النقطة النهائية؛ يقع عندها الفراق لا محالة. وبعد الطلقة الثالثة يذهب كل من الزوجين حال سبيله لإستحالة اجتماعهما من جديد. إلا أن تُنكح المرأة من رجل آخر ثم تفترق عنه طبقا لقوانين الطلاق التي وضعها الله تعالى أو يموت عنها زوجها وتنتهي عدتها فيحل للزوج الأول أن ينكحها بعقد جديد.

وكان الطلاقُ في الجاهليّة معروفا عند العرب، إلا أنه لم يكن له عددٌ معين. فكان الرجل يُطَلِّق امرأتَه ثم يُراجعها في عدتها، ويفعل ذلك مرات كثيرة. فهو بذلك لا يعطي لها حق الزوجية فيمسكها بالمعروف ولا يتركها فتنكح زوجا غيره. حتى أنه كان يَمنعها من الزواج بعد انتهاء عدتها.[5]

وقد أبطل الإسلام عادة العرب في الطلاقِ غيرِ المَحدودِ وألزم بثلاثِ تطليقاتٍ، ولم يجعل للرجل الحقَّ في مراجعة زوجته في عدتها إلا بعد الطلقة الأولى أو الثانية، أما بعد الثالثة فلا يحق له الرجوع. فمن طَلَّق امرأتَه في طُهرٍ لم يباشرها فيه فقد استعمل حقَّه مرة. و إذا أَصَرَّ على الفِراق في نهاية عدتها فقد بانت منه. وإذا قرَّر الرجوعَ إليها وقع طلاق واحد، إلا أن الحياة الزوجية لا تنعقد إلا بعقد ومهر جديدين وبرضاها.

د. الطلاق ثلاثا في مجلس واحد

المذاهب الأربعة المشهورة والظاهرية يعتبرون أنَّ الطلاق الصحيح هو ما بيناه سابقا؛ ومع ذلك فإنهم يعدون الطلاق المخالف لمبادئ الطلاق صحيحا. والسبب في ذلك أنهم لم يبنوا مبادئ الطلاق على آيات سورة الطلاق. كما أخذوا الآيات الأخرى المتعلقة بالطلاق بأحكام مسبقة، وأهملوها. ونوضح موقفهم هذا بالمثال التالي:

ترى المذاهب الأربعة كلها أنه يصح للزوج أن يطلق إمرأته وهي حائض، أو في مدة الطهر وإن جامعها فيه. حتى أن الزوج لو قال لإمرأته في مجلس واحد “طلقتك ثلاثا” وقع الطلاق، وبانت المرأة من زوجها. وكذلك يقع الطلاق المشروط بشروط معينة. ولم يشترطوا الإشهاد في الطلاق ولا في الرجعة. كما لم يشترطوا كون نية الزوج في الرجعة هي الإصلاح. والظاهر أن هذه الأفكار كلها مخالفة للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.

 ونقف الآن على العوامل التي أوقعت المذاهب في هذه الحالة

  1. 1.               عهد النبي صلى الله عليه وسلم

عن عبد الله بن عباس قال: «طَلَّقَ عبدُ يزيدَ – أبو رُكانةَ وإخوتِه- أمَّ ركانةَ، ونَكَحَ امرأةً مِن مُزَينةَ فجاءتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ”ما يُغني عني إلا كما تُغني هذه الشعرةُ. لشعرةٍ أَخَذَتْها مِن رأسها، ففَرِّقْ بيني وبينَه، فأَخَذَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَمِيّةٌ فدَعا بركانةَ وإخوتِه ثم قال لجلسائه: «أَترَونَ فُلانا يُشبه منه كذا وكذا مِن عبدِ يزيدَ وفلانا يشبه منه كذا وكذا»، قالوا: ‹نعم›، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: «طَلِّقْها»، ففَعَلَ ثم قال: «راجِعِ امرأتَك أمَّ ركانة وإخوتِه»، قال: ‹إني طلقتُها ثلاثا يا رسول الله!›، قال: «قد علمتُ، راجعها». وتلا: «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن» (الطلاق، 65/1).[6]

ومثلُه أيضا ابنُه رُكانةُ، فقد جاء عن ابن عباس قال: طلق ركانةُ بنُ عبدِ يزيد أخو بني مُطَّلِبٍ امرأتَه ثلاثا في مجلس واحد فحَزِن عليها حُزنا شديدا. قال: فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كيف طَلَّقَها؟ قال: طلقتُها ثلاثا، قال: فقال: «في مجلس واحد»؟ قال: نعم، قال: «فإنما تلك واحدة فارْجِعها إن شئت»، قال: فرَجَعَها.[7]

  1. 2.                عهد الصحابة رضوان الله عليهم

وعن ابن عباس قال: كان الطلاقُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاقُ الثلاثِ واحدةً. فقال عمرُ بنُ الخطاب: إن الناسَ قد استَعجَلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ. فلو أَمضَيناه عليهم، فأَمضاه عليهم.[8]

هذه الرواية هي أصحُّها في الباب. ثم اختَلَفَتِ الفتاوى بعد هذا اختلافا عجيبا، حتى ابنُ عباس الراوِي نفسُه اختلفت فتواه فيما بعد. من ذلك ما رواه مجاهد قال: كنتُ عندَ ابنِ عباسٍ، فجاءَه رجلٌ فقال إنه طلق امرأته ثلاثا، قال: فسَكَتَ حتى ظَننتُ أنه رادُّها إليه، ثم قال: ”يَنطلِقُ أَحَدُكم فيركبُ الحَموقةَ ثم يقول: يا ابن عباس! يا ابن عباس! وإن الله قال: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» (الطلاق، 65/2)، وإنك لم تَتَّقِ اللهَ فلم أَجِدْ لك مَخرَجا، عَصَيتَ ربَّك وبانَتْ منك امرأتُك، وإن الله قال: «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن» (الطلاق،  65/1) أي قبل عدتهن.[9]

وهو رأيُ عبدِ الله بن عمر، وعبدِ الله بن عبّاسٍ، وعبد الله بن مَسعودٍ، وعمرَ ابنِ عبد العزيز، ومروانَ بنِ الحَكَمِ.[10]

  1. 3.               عهد الفقهاء

وهو المذهب عند الحَنَفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحَنابلَة؛ يرون أن الطلاقِ ثلاثًا يقع، أي أنَّ الرجلَ إذا قال لامرأته: «أنت طالق ثلاثا»، فقد بانت منه سواء أكانت حائضا أو في طهر مسها فيه، أو لم يمسها.

ومِن هؤلاء من رأى أن الألف واللام في قوله تعالى: «الطلاق مرتان» (البقرة،  2/229) للجنس؛ فيكونُ مآلُ قولهم: «أنْ ليس للرجل أن يطلق أكثرَ من مرتين». ولا خلاف في أن الطلاق ثلاثُ مرات، لذا اضْطُرَّ القائلون بجنسية الألف واللام إلى أن يُغَيِّروا من بِنية المسألة جذريا. منهم السرخسي بقوله: «كل الطلاق المباح في دفعتين».[11] والدُفعةُ الثالثة أُخِذت من الآية 230 من سورة البقرة: «فإن طلقها». وإذا جمعنا بين الآيةِ 230 والتي قبلها فإنه لن يبقى أي احتمال في أن تكون الألف واللام في الآية 229 للجنس.

ويرى ابنُ الهُمَامِ أن الآية للطلاق المسنون، للإتفاق على صحة وقوع الثلاث بمرة واحدة.[12] وهذا الرأيُ لا يمكن قَبولُه أيضا لأن الإجماعَ المخالف للآية لا عبرة له.

والكثير من الفقهاء يرون أن: «مرتان» في «الطلاق مرتان» لجزء من الزمان. من هؤلاء الكاساني الحنفي إذ يقول: «فصار كأنه سبحانه وتعالى قال: “طلقوهن مرتين إذا أردتم الطلاق”. والأمر بالتفريق نهي عن الجمع لأنه ضده، فيدل على كون الجمع حراما أو مكروها».[13]

والكاساني يقول هذا وهو يَرى الجمع بين التطليقات مُجْزِئا، وهذا تناقضٌ عجيب أن يكون شيءٌ حراما وفي الوقت نفسِه مجزئا.

والمفسرون سلكوا الطريق نفسه أيضا، فلا هم توقفوا عند لفظة مرة في الآية 229 من سورة البقرة ولا هم جمعوا بينها وبين الآية الأولى من سورة الطلاق على الوجه الذي يجب.

وكان على علمائنا أن يسعوا لفهم أحكام القرآن بدل السعي لوضع الأحكامٍ. والرغبةُ في وضع الأحكام تؤُول بصاحبها إلى نتائجَ مُخطِئةٍ. ونلاحظ أن الطلاق في القرآن وتطبيقه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لايوجد في الكتب الفقهية.


[1] المعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه. (مفردات ألفاظ القرآن مادة: عرف).

[2] البخاري، الطلاق، 1،3،44،45، واللفظ له، تفسير سورة الطلاق، مسلم الطلاق 1، 14. النسائي، الطلاق 13، 15، 19. ابن ماجة، الطلاق 1،3. الدارمي، الطلاق 1، 3. الموطأ، الطلاق 53. سنن أبي داود، الطلاق 4, الترمذي، الطلاق.

[3]  سنن أبي داود، الطلاق 4، الحديث رقم 2185.

[4] قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.

[5] أحكام القرآن للجصاص، 2/73؛ تفسير المنار لمحمد رشيد رضا، القاهرة 3/38.

[6] سنن أبي داود، الطلاق 10.

[7] مسند أحمد 1/265. رواة هذا الحديث كلهم ثقات عند أحمد. بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرحماني لأحمد عبد الرحمن البناء.. دار الشهاب، القاهرة.

[8] مسلم، الطلاق 2، 15، 16، 17. النسائي، الطلاق 8. سنن أبي داود، الطلاق 10.

[9] سنن أبي داود، الطلاق 1.

[10] الموطأ، الطلاق 1.

[11]  المبسوط للسرخسي، 6/5.

[12] الكمال  بن الهمام، محمد بن عبد الوهاب السيوسي (المتوفى، 681 هـ) شرح فتح القدير دار الفكر، بيروت 4/70.

[13] علاء الدين الكاساني (المتوفى، 587 هـ) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، بيروت 1982، الطبعة الثانية 3/94.

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.