حبل الله
1.   الكتاب المقدس والثيوقراطية

1. الكتاب المقدس والثيوقراطية

1.    الكتاب المقدَّس والثيوقراطية :

الثِيوقراطيَّة تعني حُكمَ الكَهَنَة، أو الحكومة الدِّينيَّة. تتكوَّنُ كلمةُ ثيوقراطيَّة من كلمتين إحداهما “ثيو” وتعني الدِّين والأُخرى “قراط” وتعني الحُكم.[1] وعليه فإنَّ الثيوقراطيَّة هي نظامُ حُكمٍ يستمدُّ الحاكمُ فيه سلطتَه مباشرةً من الإله، حيث تكونُ الطبقةُ الحاكمةُ من الكهنة أو رجال الدِّين الذين يعتبرون أنفسَهم مُوجَّهين من قبل الإله فهم يمتثلون لتعاليمَ سماويَّةٍ، وبناءً على ذلك تكون طاعةُ السُّلطان طاعةً للإله وكذلك العصيان.

وقد وُجِد للثيوقراطيَّة أدلَّةٌ في الكُتب المُقدَّسة، أمَّا القُرآن الكريمُ فلا يوجدُ فيه دليلٌ على مثل هذا النظام، ولا يقبلُه أصلاً.

أ‌.   النُّصوص الواردة في الكتاب المُقدَّس والتي يُستدلُّ بها على ثيوقراطيَّة الدَّولة:

الكتابُ المُقدَّسُ يتكوَّنُ من العهدين؛ القديم والجديد. التوراة هي العهد القديم، والإنجيل هو العهد الجديد. يوجد في الإنجيل نصوصٌ تُفيدُ بثيوقراطيَّة الدَّولة، أمّا في التوراة لم يأتِ إلا عبارةٌ واحدة؛ جاء فيها أنَّ سليمان عليه السَّلام قال: ” يَا ابْنِي، اخْشَ الرَّبَّ وَالْمَلِكَ. لاَ تُخَالِطِ الْمُتَقَلِّبِينَ.[2] وقد جاءَ في الإنجيل أمرٌ بثيوقراطيَّة الدَّولة في موقعين من رسائل بولس وبطرس. قال بولس في رسالته إلى أهل رومية: “لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ، لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. لِذلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ، لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ الضَّمِيرِ.”[3]

وجاء في رسالة بطرس الرَّسول ما يلي: ” فَاخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ. إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ الْكُلِّ، أَوْ لِلْوُلاَةِ فَكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ لِلانْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي الشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي الْخَيْرِ. لأَنَّ هكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ: أَنْ تَفْعَلُوا الْخَيْرَ فَتُسَكِّتُوا جَهَالَةَ النَّاسِ الأَغْبِيَاءِ. كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ اللهِ. أَكْرِمُوا الْجَمِيعَ. أَحِبُّوا الإِخْوَةَ. خَافُوا اللهَ. أَكْرِمُوا الْمَلِكَ.”[4]

حول مفهوم الثَّيوقراطيَّة

يقولُ المُفكِّران المسيحيَّان جون كالفين وستيفانوس جونيوس بروتوس إنَّ الدِّيانةَ النَّصرانيَّة تأمُرُ بالثيوقراطيَّة.

أ‌.  تأويلات جون كالفين للثيوقراطيَّة :

يقولُ كالفين في تفسير ما وَرَدَ في الكتاب المُقدَّس من الأمر بالثيوقراطيَّة: “وحين قالَ بطرس: “أَكْرِمُوا الْمَلِكَ.”[5] وسليمانُ لابنه: ” يَا ابْنِي، اخْشَ الرَّبَّ وَالْمَلِكَ. لاَ تُخَالِطِ الْمُتَقَلِّبِينَ.[6]  كانا يطلبان منَّا شيئاً. فالأوَّلُ يقصدُ الاحترامَ الحقيقيَّ النَّابعَ من القلب مع التعظيم؛ أمَّا الثَّاني فقد ذَكَرَ الملك مع الإله وهذا يدلُّ على أنَّ الإله قد أعطى الملكَ نوعاً من التَّقديس والمجد. وينبغي أن لا ننسى أمرَ بولس الرَّسول، وهو يعني بقوله: ” لِذلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ، لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ الضَّمِيرِ.”[7] أنَّ طاعة الملوك وأولياء العهد والحُكَّام ليس بسبب الخوف منهم بل لا بُدَّ من المعرفة أنَّ طاعتَهم طاعةٌ للإله لأنَّ المُلوكَ وأولياءَ العَهد والحُكَّام يستمدُّون حُكمَهم من الإله. يقول بولس: “لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ.” لأنَّ مَنْ خَالفَ الحُكَّامَ فقد خَالفَ ترتيب الإله.

فليعرفِ الكُلُّ أنَّه لا تتحقَّقُ مخالفةُ الحُكَّام إلَّا بُمخالفة الإله، فالحاكم لا ينتقمُ ممَّنْ يُقلِّلُ شأنَه لأنَّه منزوعُ السِّلاح، ولكنَّ الإلهَ مُسلَّحٌ فهو ينتقمُ ممَّنْ يُقلِّلُ شأنَ الحاكم، وأرى أنَّ كلمة “الطَّاعة” تعني: أنَّه لا ينبغي لأيِّ فردٍ من أفراد المجتمع أن يرى في نفسه سُلطةً فيما يتعلَّقُ بعامَّة النَّاس، وأن لا يتدخَّلَ في شؤون الدَّولة والأمور المختصَّةِ بالحُكَّام، أي لا حقَّ لأفرادِ المُجتمع بالتدخُّلِ في الشُّؤون الاجتماعيَّةِ العامَّة والإداريَّة.

إذا كانَ في النِّظام العامِّ ما يلزمُ إصلاحُه، فصاحبُ السُّلطة الوحيدة في هذا المجال هو الحاكمُ وحده، ولا ينبغي لأحدٍ من أفراد المجتمع أن يتدخَّلَ فيما ليس من وظيفته لئلَّا تحدُثَ اضطراباتٌ، أعني أنَّه لا ينبغي لأحدٍ أن يقومَ بأمرٍ إلَّا إذا أُمِرَ به، فإذا أَمَرَه الحاكمُ أصبحَ مسؤولاً مُصرَّحاً له بشكلٍ رسميٍّ.

إنَّ الحُكَّامَ الذين يحكمون وفقاً للمصلحة العامَّة يُمثِّلون حقيقةً سيادةَ الإله، وكذلك فإنَّ الظَّالمين والمُستبدِّين من الحكَّام فهم مبعوثون من الإله لمعاقبة النَّاس بسبب ذنوبهم، ومع ذلك فإنَّ لهم جلالةً مُقدَّسةً تدلُّ على أنَّهم يستمدُّون سلطتَهم المشروعةَ من الإله.

وإذا كان الشَّخصُ من المسؤولين في الدَّولة فقد زوَّده الإلهُ بالسُّلطة المُقدَّسة الرائعة التي أودعها إلى وزراء عدله وقضائه بأمرٍ منه، وحتَّى لو كان ذلك الشَّحصُ أسوأَ شخصٍ وخالياً من المجد والكرم، فإنَّه يستحقُّ التَّعظيمَ والاحترامَ من الشَّعب مثل المُقسطين من الحكَّام؛ ومهما كانتْ طبائعُهم فإنَّهم يستحقُّون هذا التَّعظيم والاحترامَ لأنَّ الولاءَ لهم ولاءٌ للدِّين.

ليس علينا أن نُعالجَ المفاسدَ الظَّاهرة، كلُّ ما هو علينا أن نستعينَ بالإله الذي بيده قلوبُ جميع الملوك”.[8]

ب‌.                   تأويلات ستيفان جينيوس بروتوس للثيوقراطيَّة :

يقول بروتوس في تأويل الثيوقراطيَّة: “الكتابُ المُقدَّسُ يحكم بسلطة الإله نفسه، ويحكُمُ الملوكُ بسلطةٍ استمدُّوها من الإله لأنَّ السُّلطةَ الأصليَّةَ للإله، والملوك هم المُمثِّلون للإله.[9] و المَلِكُ يستمدُّ سُلطتَه من الربِّ الإله ملك الملوك، يستمدُّ المَلِكُ السُّلطةَ من الإله لينشرَ عدلَه ويحميَ شعبَه من أعدائه.

نحن نقرأُ نوعين من العهود في لبس الملوك التاج؛ الأوَّل: بين الإله والملِك والشَّعب ليكونَ الشَّعبُ شعباً لله. والثاني: ما يكون بين الملك والشَّعب ليكون الشَّعبُ صادقاً في الطَّاعة والملكُ عادلاً في الحكم”.[10]

الكنيسة والثيوقراطيَّة :

الكنيسةُ هي المؤسَّسةُ الأساسيَّةُ في النِّظام الثيوقراطيِّ (أي نظام الحكم الدِّينيِّ)، لأنَّ المَلِكَ في هذا النظام يُؤمنُ أنَّ الإلهَ هو الذي يُعيِّنُ الحكوماتِ والولاة، ويختارُ الموظَّفين، الإلهُ في النَّصرانيَّة عبارةٌ عن الأب والإبنُ والرُّوح القُدُس، والإبنُ هو عيسى، “وقد أُعطِيَ له جميعُ ملكوت السَّموات والأرض”.[11] وللكنيسةِ حقُّ التَّصرُّف وإصدار القرارات نيابةً عن المسيح.[12] أمَّا الرُّوحُ القُدُسُ فإنَّه يحمي الكنيسةَ من الأخطاء ويملؤُها بنعم الأب أي الرَّبِّ.[13]  وقد جَاءَ في إنجيل متَّى: “وأمَّا الأحدَ عشَرَ تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل، حيث أمرَهم يسوع. ولمَّا رأوه سجدوا له، ولكنَّ بعضَهم قد اشتكى، فتقدَّمَ يسوعُ وكلَّمَهم قائلاً: «دُفِعَ إليَّ كلُّ سُلطانٍ في السَّماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمِذوا جميعَ الأمم وعمِّدوهم باسم الأب والإبن والرُّوح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا جميعَ ما أوصيتُكم به، وها أنا معكم كلَّ الأيَّام إلى انقضاء الدَّهر».[14] ومن هذا النصِّ اكتسبتِ الكنيسةُ سُلطةً قويَّةً، وقد امتدَّت هذه السُّلطةُ حتَّى أنَّه لم يعُدْ أحدٌ يستطيعُ اعتناقَ المسيحيَّة إلَّا بواسطتها؛ فمَنْ أرادَ أن يدخلَ في الدِّين النَّصرانيِّ فلا بُدَّ من موافقة الكنيسة، وبعد موافقتها يجبُ عليه التَّعميدُ؛ أي تغميسُه في الماء؛ والتَّعميدُ كمُصطلحٍ نصرانيٍّ يعني الالتقاءَ مع روحانيَّة عيسى والميلاد الجديد بالروح القُدُس. والتَّعميدُ هو الشَّرطُ الأوَّلُ للدُّخول في الدِّيانة النَّصرانيَّة. والانتقالُ من تبعيَّة كنيسةٍ إلى أُخرى يكونُ بالتَّعميد كذلك ![15]

المذهبُ الكاثوليكيُّ هو من أكثر المذاهب النَّصرانيَّةِ أتباعاً، ويرتبطُ هذا المذهبُ ببطرس[16]. والزَّعيمُ الرُّوحانيُّ لهذا المذهب هو البابا، ويُعتبَرُ البابا وكيلَ عيسى وخليفةَ بطرس، والبابا يملكُ سُلطةً معصومةً، والكنيسةُ عالميَّةٌ بحيث تشملُ إدارتُها العالَمَ كلَّه، ولا خلاصَ إلَّا بالكنيسة، وكنيسةُ روما مركزٌ روحانيٌّ لبقيَّة الكنائس. والكنيسةُ محكومةٌ من قبل الرُّوح القُدُس؛ ومنشؤُه من الأب والإبن. وتفسيرُ الأناجيل يكون بيد الكنيسة.[17]

وفي النِّظام الثيوقراطيِّ الكنيسةُ هي التي تقومُ بتعيين المَلِكِ والحكومةِ والوالي وكذلك الموظَّفين؛ لأنَّ الكنيسةَ تتحرَّكُ باسم الإله وتتصرَّفُ فيما يختصُّ به. ولكنَّ الكنيسةَ لا تتحمَّلُ المسؤوليَّةَ عن أفعالِها؛ فعقيدةُ أنَّ الرُّوح القُدُس يحمي الكنيسةَ تمنعُ تحميلَ المسؤوليَّة عليها، وعلى هذا فالثيوقراطيَّةُ تُعرَّفُ بأنَّها: “نظامٌ يتركُ الحُكمَ لإرادة الكنيسة، وفي هذا النِّظام تقوم الكنيسةُ بتعيين المَلِك والحكومة والموظَّفين”.



[1] ممتاز سويسال، مدخل للدستور: أنقرة، 1968. ص. 16

[2] الأصحَاحُ الرَّابعُ وَالْعِشرُونَ 21

[3] رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، الأصحَاحُ الثَّالِثُ عَشَرَ 1-5.

[4] رِسَالَةُ بُطْرُسَ الرَّسُولِ الأُولَى، الأصحَاحُ الثَّانِي، 13 – 17

[5] رِسَالَةُ بُطْرُسَ الرَّسُولِ الأُولَى، الأصحَاحُ الثَّانِي، 13 – 17

[6] الأصحَاحُ الرَّابعُ وَالْعِشرُونَ 21

[7] رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، الأصحَاحُ الثَّالِثُ عَشَرَ 1-5

[8] جون كالفين، مؤسَّسة الدِّيانة النصرانيَّة، الكتاب 4، الباب 20 على إدارة الدَّولة.

[9] ستيفان جينيوس بروتوس تاريخ الفكر في الغرب، الطبعة الثانية، أنقرة، 1969. ص. 62

[10] المرجع السَّابق، ص. 63

[11]انظر:  إنجيل متَّى، 18

[12]تيمور كوجوك، المرجع السَّابق، ص. 263

[13]تيمور كوجوك، المرجع السَّابق، ص. 256

[14]إنجيل متَّى، 16-20 ، الكتاب المقدَّس العهد الجديد.

[15]تيمور، كوجوك، المرجع السَّابق.

[16]يُقال له بطرس الرَّسول، فقد ادَّعى أنَّه رسولُ المسيح بعد وفاته.

[17]تيمور، كوجوك، المرجع السَّابق.

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.