حبل الله
طاعة الإنسان وطاعة الأشياء

طاعة الإنسان وطاعة الأشياء

طاعة الإنسان وطاعة الأشياء
خلق الله السموات والأرض ثم قال لهما «ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا» قالتا «أَتَيْنَا طَائِعِينَ».[1] ولم يكن بإمكانهما إلا أن تقولا أتينا طائعين. لذا لو حمّل الله تعالى الأمانة (أي إطاعة أمره والعمل حسب ما أوحى في كتابه) إلى السموات والأرض لم يكن لهما سوى امتثال الأمر؛ لأنها مسيرة لا مخيرة. وقد أخبرنا الله تعالى عن ذلك في سورة الحشر حيث قال: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (الحشر، 59 / 21).
فلا يمكن الحديث عن عصيان السماوات والأرض، لأنها لا تستطيعان ذلك. ولكن الإنسان مختلف؛ فلديه من القدرة والإرادة ما يمكنه من أن يكون طائعا أو عاصيا، فيثاب على طاعته ويعاقب على عصيانه. قال الله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (الإنسان، 76 / 3).
وقد خلق الله الإنسان وأعطاه الحرية والقدرة على الاختيار، فيختار الكفر أو الإيمان، ولا يتحقق معنى الابتلاء والامتحان إلا بحرية الإنسان وقدرته على الاختيار؛ لأنه يختلف عن المخلوقات الأخرى مثل السماوات والأرض. فالإنسان إذا أراد الخروج من أمر الله فيمكنه ذلك؛ لأنّ الإيمان لا يُقبل من الإنسان إلا أن يكون باختياره ومن صميم قلبه. قال الله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (الأحزاب، 33 / 72).
وكلمة “الجهل” في الآية ليست ضد العلم بل هي وصف للشخص الذي لم يكن سلوكه منطبقا مع علمه.[2] والحقيقة أنّ الإنسان ليس ظالما ولا جاهلا بطبعه، ولكنّه يضع نفسه في حالة الظلم والجهل، وذلك بتنكبه للحق الذي يعلمه. فلو كان ظالما وجاهلا بطبعه لمَّا حمّله الله تعالى الأمانة، وحاشاه سبحانه أن يوكل الأمر إلى غير أهله. قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (النساء، 4 / 58).
والآية الثالثة والسبعون من سورة الأحزاب تزيد الموضوع وضوحا. قال تعالى: «لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» (الأحزاب، 33 / 73).
النّفاق والشرك في الآية بمعنى الجهل والظلم، وهما يحدثان نتيجة فساد الفطرة. فالفطرة؛ هي التي يجب أن تُتَّبع. وهي النظام الإلهي الذي بُني عليه نظامُ السماوات والأرض وما فيهما. والآيات التي يراها الإنسان في الأنفس والآفاق هي آيات الفطرة، وبمعنى آخر هي الآيات الكونية. فالقرآن هو آيات الله المسطورة في المصحف، كما أنَّ الفطرة هي آيات الله المنثورة في الآفاق والأنفس. من أجل ذلك يمكننا أن نقول إن السعي في إفساد الفطرة هو سعي في إفساد قوانين الله في الكون. ومن فعل ذلك فإنّ الله يعذبه في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: « ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (الروم، 30 / 41).

[1]   فصلت، 41 / 11.
[2]   ومن معاني كلمة الجهل: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يُفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا.

تعليق واحد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.