حبل الله
خاتم النبيين لا إصر على أمته

خاتم النبيين لا إصر على أمته

خاتم النبيين لا إصر على أمته
 
ختم الله تعالى رسالاته إلى البشر برسالة الإسلام، والرسالة الخاتمة لا بد وأن تتميز بما ليس بغيرها، وقد ظهر التميز بأمرين هامين:
الأول: عدم تكليف أتباع خاتم النبيين بالإيمان بنبي بعده أو شبه نبي، كعودة المسيح عليه السلام أو ظهور المهدي، لذلك خُتمت سورة البقرة بآيات تمثل أدعية يدعو بها المسلم ربه. قال الله تعالى:{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة، 286) فالإصر هنا هو الإيمان بنبي قادم ووجوب اتباعه، وربما يقول قائل أن الإصر هنا بمعنى التكاليف الشاقة كتلك التي كُلِّف بها اليهود، وأقول إن المعنى اللغوي يحتمل هذا كما يحتمل أن يكون العهد إلى الناس باتباع نبي لاحق، والسياق يجزم بالمعنى الثاني لثلاثة أسباب، أبينها كالتالي:
1_ إنّ الآية نصت على الإصر الذي حمله الأقوام قبلنا، وهو عهد الله إليهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد ذُكرت كلمة الإصر في القرآن بهذا المعنى قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران، 81)
2_ بعد أن يدعو المسلم ربه قائلا: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يقول: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فلو كان الإصر بمعنى التكاليف الشاقة، لكن الدعاء الثاني بنفس معنى الدعاء الأول، وفي ذلك تكرار لا يتناسب مع الذكر الحكيم.
3_ بعثة النبي محمد صلى الله ضرورية لإكمال رسالة الله إلى الخلق، وببعثته قد اكتمل الدين. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة،3) فما كان ضروريا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم انتفى بعد بعثته.
الثاني: حفظ القرآن من التحريف وكمال تشريعه وصلوحه أن يكون آية ومصدرا للتشريع إلى قيام الساعة، ويظهر ذلك جليا بنقطتين هامتين:
1_ كلما تقدمت المعارف والعلوم وجدت القرآن متقدما عليها، قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (الفرقان، 33)
2_ ما ورد في القرآن من أصول وقواعد وأحكام يصلح لكل زمان ومكان، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الإسراء، 9)، هذا الكتاب يهدي للتي هي أقوم، وصيغة التفضيل في هذا السياق لأنّ هذا الكتاب منفرد في هداية الخلق لما فيه الخير في الدنيا والآخرة. فكل نظام غيره قد يقود إلى الخير في الدنيا لكنه قاصر عن تحقيق الخير لصاحبه في الآخرة، فاستحق القرآن وصف الخيرية بصيغة التفضيل دون شك أو نزاع.
سُئل الشيخ محمود شلتوت مفتي الجامع الأزهر سابقاً: هل عيسى حي أو ميت بحسب القرآن الكريم والسنة المطهرة، فأجاب ناقلا آية سورة المائدة: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيءٍ شهيد} بأنّ عيسى عليه السلام كان شهيداً عليهم مدة إقامته بينهم وأنه لا يعلم ما حدث منهم بعد أن توفاه الله. ويتابع قائلا: وقد وردت كلمة (توفي) في القرآن الكريم كثيراً بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر. ومن حق كلمة (توفيتني) في الآية أن تُحمَل على هذا المعنى المتبادر وهو الإماتة  العادية التي يعرفها الناس ويدركها من اللفظ والسياق الناطقون بالضاد. ولا سبيل إلى القول بأن الوفاة هنا مراد بها وفاة عيسى بعد نـزوله من السماء بناءً على زعم من يرى أنه حي في السماء، وأنه سينـزل منها آخر الزمان، لأنّ الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو، لا بالقوم الذين يكونون في آخر الزمان وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى.
ثم يقول: ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء، وأنّه حي إلى الآن فيها، وأنه سينـزل منها آخر الزمان إلى الأرض.[1]
وقد كتب الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسير آية (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإنْ مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم): أي أن محمداً ليس إلا بشرا قد مضت الرسل قبله فماتوا وقُتل بعضهم كزكريا ويحيى ولم يكتب لأحد من قبلهم الخلد، أفإن مات كما مات موسى وعيسى وغيرهما من النبيين (أو قُتل) كما قُتل زكريا ويحيى، تنقلبوا على أعقابكم راجعين عمّا كنتم عليه … والخلاصة إنّ محمداً بشر كسائر الأنبياء وهؤلاء قد ماتوا أو قُتلوا.[2]
بعد هذا البيان نخلص إلى ما يلي:
1_ إنّ ما عُهد إلى أتباع الأنبياء السابقين هو الإيمان بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتحقق لهم التحلل من الإصر إلا باتباعه.
2_ لم يُكلف أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان بنبي بعده، وذلك لتمام رسالته، ولأنه خاتم النبيين فلا نبي بعده بأي صفة كان.
3_ يتحقق الخير للبشرية بالعمل برسالة القرآن والتزامها، وليس بانتظار أنبياء جدد؛ قد بينا أنه لا وجود لهم بعد خاتم النبيين. 

[1] مجلة "الرسالة"، العدد 462 – 11 مايو 1942م 

[2] تفسير المراغي، الجزء الرابع ص87- 88 شركةمكتبة ومطبعة مصطفى البابي وأولاده مصر 1962م

تعليق واحد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.