حبل الله
إبراز القرآن الكريم

إبراز القرآن الكريم

إبراز القرآن الكريم
أ.د عبد العزيز بايندر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
توفي النبي صلى الله عليه وسلم وترك لنا ما إن تمسكنا به فلن نضل بعده أبدا؛ كتاب الله وسنته، فلا تحل المشاكل التي يعاني منها الناس إلا بحسب القرآن الكريم والسنة المطهرة، قال الله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا.. » (آل عمران، 3 / 103)، «الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ» ( البقرة، 2 / 1-2)، «الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » (يوسف، 12 / 1-2)، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ» (الأنفال، 8 / 20،-21)، «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ « (الأنفال،8 / 21)، « أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (محمد، 47 / 24). « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» (القمر، 54 / 17)
لقد نسي المسلمون تدبّر القرآن الكريم والإعتصام به عصورًا، وجعلوه كتابًا يُتلى لكسب الثواب، وقد تُفسر عدة آيات منه للوعظ والنصيحة.
وبعد نسيان مقتضى تدبر القرآن الكريم، تولد لدينا فكرة أنه كتاب مقدس يستحيل الإرتقاء إليه، والمثول بين يديه، ولا يمكننا فهمه وإدراك مراميه. وقد أصبح الملتزمون بهذه الفكرة يدافعون بإصرار أنّ السابقين قد حلّوا المشاكل كافّة، وعلينا إدراك ما توصلوا إليه.
أركان الدّين وأحكامه الضرورية نابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية المفسرة له، وهي تشمل تسعين بالمائة من الدّين، أما المسائل الخلافية التي تحتمل الإجتهاد فلا تتجاوز العشرة بالمئة منه، فالبون إذن شاسع بين أهمية الأحكام الضرورية والمسائل الخلافية.
فلو شبهنا المسائل الإجتهادية بالذهب لكانت الأحكام الضرورية وأركان الإيمان أعمدة من الألماس. ترى هل يجوز أن يكون تسعون عمودا من الألماس تابعةٌ لعشرة من الذهب؟ وهل يجوز أن يوجه الإهتمام الى التي هي أدنى أكثر من تلك التي هي خير؟
إن الذي يسوق جمهور الناس الى الإتباع وامتثال الأوامر، هو ما يتحلى به المصدر من قدسية، وهذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس إلى الإنقياد أكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة، فينبغي إذن أن تكون الكتب الفقية بمثابة وسائل شفافة كالزجاج لعرض قدسية القرآن الكريم، وليس حجابًا دونه، أو بديلا عنه.[1]
القرآن الكريم ومحمد صلى الله عليه وسلم
يلفت الله تعالى الألباب والأنظار كافة إلى القرآن الكريم وإلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. حيث قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا» (النساء 174)؛ وقال أيضا: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا» (النساء، 4 / 174- 175)
مكانة رجال العلم
نتعرف على مكانة رجال العلم في الدين من الآيات التالية:
قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (النساء، 4 / 59).
لا يتنازع المسلمون في الأحكام المبينة في القرآن الكريم والسنة المطهرة. فمثلا لا يعارض أي مسلم حرمة أكل لحم الخنزير والميتة والربا وحقوق الآخرين بغير حق. والإختلاف بين المسلمين يقع في المواضيع غير المبينة بصراحة في الكتاب والسنة، وردُّ هذه المسائل الى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون بالإجتهاد المستند إلى الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في تلك المسائل، ومن يتصدى لمهمة الإجتهاد هم أولوا الأمر وأصاحب الرأي من العلماء الجديرين به.
والآية الثانية المتعلقة بالموضوع هي:
 «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل، 16 / 43،-44) يُفهم من «أهل الذكر» بالدرجة الأولى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وقدُفسر (أهل الذكر) المذكور في هذه الآية أيضًا بالعلماء الذين يجددون معارفهم بالتذكر وهم أهل القرآن والسنة.
لذا يجب أن يقوم العلماء بوظيفة التحاكم إلى القرآن فهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (العلماء ورثة الأنبياء).[2] وقد قال الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة، 5 / 4950)
ولئن انتهى وانقرض ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم من العلماء فمن الذي سيرشد الناس ويوجههم الى القرآن الكريم، وكيف يمكن معالجة الأفكار التي لا دليل ولا مستند لها من أمثال (إنه كتاب مقدس يستحيل الإرتقاء إليه، والمثول بين يديه، ولا يمكننا فمهمه وإدراك مراميه). هذا على الرغم من آياته البينات التي تدعونا لفهمه وتدبر معانيه.
لا يوجد اليوم من يفكر بنسج الأقمشة بتقنيات القرن السابق، أو تشييد العمران، أو المواصلات بها، ولكن يظهر من يدافع عن إجتهادات تنسب إلى علماء مضى عليها مئات السنين .
وتعتبر وجهة نظر الأستاذ النورسي المتعلقة بالموضوع ذات معنى ومغزى، حيث يقول: “إنّ ذهن الإنسان ينتقل من الملزوم إلى اللازم وليس إلى لازم اللازم،-كما هو مقرر في علم المنطق،-، ولو انتقل فبقصد غير طبيعي . إنّ الكتب الفقهية شبيهة بالملزوم، والقرآن الكريم هو الدّال على تلك الأحكام الفقهية ومصدرها، فهو اللازم، والصفة الملازمة الذاتية للقرآن الكريم هي القدسية المحفزة للوجدان. فإذا انحصر نظر العامة في الكتب الفقهية فحسب، فلا ينتقل ذهنهم إلى القرآن الكريم إلا خيالا، ونادرًا ما يتصورون قدسيته من خلال نظرهم المنحصر ومن هنا يعتاد الوجدان التسيب، ويتعود على الاهمال فينشأ الجمود”.[3]
وبما أن اتباع الكتاب والسنة لا يكون إلا بإتباع أحد المذاهب المختلفة، لذاُاعتبر علماء المذاهب أجلاء وأصحاب طهر ونصاعة، ويورد الأستاذ بديع الزمان ما يتعلق بالموضوع كالآتي: «فلو كان قد بين القرآن الكريم ضمن بيان الضروريات الدينية مباشرة لكان الذهن ينتقل انتقالا طبيعيًا الى قدسيته، ولأثارت الشوق إلى الاتباع، ولنبهت الوجدان إلى الإقتداء، وعندها تنمو ملكة رهافة المشاعر لدى المخاطب بدلا من صممها أمام حوافز الإيمان وموقظاته.
فالكتب الفقهية اذن ينبغي ان تكون شفافة لعرض القرآن الكريم وإظهاره، ولا ينبغي أن تصبح حجابًا دونه كما آلت إليه بمرور الزمان من جراء بعض المقلدين وعندئذ تجدها تفسيرًا بين يدي القرآن وليست مصنفات قائمة بذاتها.[4]
لولا القرآن لما أسَلم الناس
قال الله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً. فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» (البينة، 98 / 1-3)
تبدأ المسئولية الحقة بعد سماع القرآن الكريم
قال الله تعالى: «وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ» (الرعد، 13 / 37). وقال أيضا: «هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» (ابراهيم، 14 / 52)
ينبغي إبراز القرآن الكريم من جديد
إننا ندعو الناس غالبًا بمهارتنا الشخصية إلى الاسلام، بينما كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن لمّا أمره الله تعالى به بقوله تعالى «هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» (آل عمران، 3 / 138). وبقوله تعالى: «هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» (ابراهيم، 14 / 52). وبقوله تعالى: «وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (الأنعام، 6 / 51). وبقوله تعالى:«فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا؛ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا» (مريم، 18 / 97-98). وبقوله تعالى: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ» (الزخرف،43 / 5)
جزاء الإبتعاد عن القرآن الكريم
نحن مسؤولون أمام الله سبحانه حسب القرآن الكريم، بينما أصبح المسلمون يتقاسمون،-لفترة طويلة،- فكرة مسئوليتهم تجاه الله سبحانه حسب اجتهادات بعض الناس وآرائهم، وهذا بدوره قد وّلد مفهوم عصمة أصحاب الريادة والقيادة من الخطأ. والذي لا يخطئ هو الله وحده، وقد أخطأ النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله تعالى قد هداه إلى الصواب، كالحال في أسرى بدر وغيرها من الأحداث.
يستفيد الشيطان وأعوانه من هذه الحال فيقدمون ضلالاتهم وانحرفاتهم على أنها وجهات نظر الرواد والعلماء الأفذاذ، وبما أنّ الله تعالى لم يتعهد بحفظ وحماية أي كتاب آخر عدا القرآن الكريم، لذا لا يمكننا أن نكون مسلمين لصحة ما يقال وما ينقل على ألسنة العلماء .وإذا لم يمكن الوقوف حيال ما دُسَّ من الأحاديث الكثيرة الموضوعة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف يمكن الوقوف أمام الأباطيل الدخيلة بإسم عظماء الإسلام!.
وبالأضافة لذلك فقد يخطئ المرء مهما كان عالمًا وفاضلا، لذا يعتبر الحل الوحيد لمعضلة المسلمين من خلال إكسابنا الأذهان مفهوم المسؤولية تجاه القرآن الكريم من جديد، وتنظيم حياتنا بحذافيرها على نمط القرآن الكريم ومنهجه، وإلا تواجهنا في الآخرة حالة كالآتي:
قال الله تعالى: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا. وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا» (الفرقان، 25 / 27،-30)
ونحن بدورنا طالبنا ونطالب علماءنا بالذات اتباع الكتاب والسنة، فليس لغيرهما آية في الإتباع، وقد نبه إلى هذا أعلام الإسلام وفقهاء المسلمين فقد نقل معن بن عيسى القزاز عن الإمام مالك قوله:(إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فما وافق الكتاب والسنة فخذوه وإلا فدعوه).[5] وقد روى عن أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من العلماء ما يشبه هذا القول.
المذهبية جزاء الإبتعاد عن القرآن الكريم
قال الله تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ « (الأنعام، 4 / 153) وقال أيضا:«اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» (الأعراف، 7 / 3)
وبعد أن أصبحت الكتب الدينية ستارًا أمام القرآن الكريم بدلا من أن تكون تفسيرًا له، فإنّ اختلافات وجهات نظر العلماء قد ساقت اتباعهم الى منازعة بعضهم بعضا. وقد أصبح اختلاف الأمة نقمة ومصدر معاناة لا رحمة.
 «فلو وجهت حاجات المسلمين الدينية كافة شطر القرآن الكريم مباشرة، لنال ذلك الكتاب المبين من الرغبة والتوجه الناشئة من الحاجة اليه أضعاف أضعاف ما هو مشتت الآن من الرغبات نحو الألوف من الكتب، بل لكان القرآن الكريم مهيمنا هيمنة واضحة على النفوس، ولكانت أوامره الجليلة مطبقة منفذة كليًا. وما كان ليظل كتابًا مباركًا يتبرك بتلاوته فحسب.
هذا وإن هناك خطرًا عظيمًا في مزج الضروريات الدينية مع المسائل الجزئية الفرعية الخلافية، وجعلها كأنها تابعة لها، لأن الذي يرى الآخرين على خطأ ونفسه على صواب يدعي: ان مذهبي حق يحتمل الخطأ والمذهب المخالف خطأ يحتمل الصواب!
وحيث إن جمهور الناس يعجزون عن أن يميزوا بوضوح بين الضروريات الدينية والأمور النظرية الممتزجة معها، تراهم يعممون سهوًا أو عمدا الخطأ الذي يرونه في الأمور الإجتهادية على الأحكام كلها، ومن هنا تتبين جسامة الخطر.
والذي أراه أنّ من خطّأ الآخرين ويرى نفسه في صواب دائما فإنّه مصاب بمرض ضيق الفكر وانحصار الذهن الناشئين من حب النفس. ولا شك أنه مسؤول أمام رب العالمين عن تغافله عن شمول خطاب القرآن إلى البشرية كافة.
ثم إن فكر التخطئة هذا، منبعٌ لسوء الظن بالآخرين، والإنحياز، والتحزب في الوقت الذي يطالبنا الإسلام بحسن الظن والمحبة والوحدة! ويكفيه بعدا عن روح الإسلام ما شُقَّ من جروح غائرة في أرواح المسلمين المتساندة، وما بثه من فرقة بين صفوفهم، فابعدهم عن أوامر القرآن الكريم.[6]
وقد اغلق هؤلاء الباب أمام وقوف المسلمين تجاه العدو كجسد واحد، وانصرفوا إلى التربص ببعضهم بعضا مخالفين بذلك قول الله تعالى: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ» (الصف،61 / 4).
ما العمل إذن؟
العمل الذي ينبغي القيام به هو تغير نهج بسيط. وذلك عند البحث عن الحكم الشرعي لأي موضوع ينبغي النظر إلى القرآن الكريم وإلى ما يوافقه من السنة المطهرة، ولا بأس أن ننظر آراء السابقين للإستئناس والإستبصار، وننظر إلى آرائهم في ضوء القرآن والسنة، ومن ثم نأخذ الحكم من الكتاب والحكمة، فقد أنزل الله كتابه إلى الناس كافة وإلى الناس في كل زمان ومكان فهو الوحيد الكفيل بإخراج المسلمين من دائرة الإختلاف الطاحنة والتمزق الموروث منذ زمن بعيد.

[1]    صيقل الاسلام، السانحات، 346
[2]    ابن حبان، ذكر وصف العلماء، رقم الحديث 88 . أبو داود كتاب العلم، رقم الحديث3157
[3]    صيقل الاسلام، السانحات، ص 348
[4]    صيقل الاسلام، السانحات ص 348
[5]    انظر الى نص كلام ابن القيم في إعلام الموقعين، ص 75 ، بيروت  1407هـ
[6]    صيقل الاسلام، السانحات، ص 349

تعليق واحد

  • كلام في الصميم نحتاج إليه وللأسف هناك الكثير ممن يتعصبون للتراث وهم لا يقرؤون حتى القرآن ولايريدون ان يفهموا ويصمون آذانهم عندما نقول قال تعالى وهم يستندون على ان العلماء لايمكن ان يكون فاتهم ماتقولون ولايمكن ان يكون فاتهم تناقض بعض الاحاديث مع القرآن بل هناك فهم آخر .ولا ادري ماهو الفهم الاخر وكانهم هم فقط يفهمون ونحن أنعام

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.