حبل الله
الأخطاء الأصولية في المذاهب في موضوع الربا

الأخطاء الأصولية في المذاهب في موضوع الربا

الأخطاء الأصولية في المذاهب في موضوع الربا
قسمت المذاهب الأربعة الربا إلى قسمين: ناتجٍ عن البيع، وآخرَ عن القرض، وبنوا نظام الربا على الأحاديث التي ذكر فيها الربا الناتج عن البيع والشراء، أي الذهبِ والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح. وصنفوا ربا القرضِ ضمن القرضِ والصُلحِ بشكل مُختَصَرٍ جِدّا بدل أن يُصَنِّفُوه في كتاب الربا والصَرف. ومن الصعب فَهمُ سبب اعتبار الفقهاءِ الربا من أقسام البيع رغم قوله تعالى: «وأحل الله البيع وحرم الربا» (البقرة،  2/275).
وحين بنى الفقهاءُ نظامَ الربا على بعضِ أنواعِ البُيوع المتعلقة بالمواد الستِ، ورَأَوْا أنه لا يَقتصِر عليها وحدَها، أخذوا يستنبطون من تلك الأحاديث العلل المفضية إلى الربا ووَسعوا دائرتَه بالقياس، فوقعوا في التناقض.
فالحنفيةُ ذكروا للربا علتين هما القدرُ والجِنس، ويدخل في القَدر الكَيلُ والوَزنُ. ودليلُهم في عِلَّة الجنس حديثُ: «الذهبُ بالذهب والحِنطةُ بالحنطة»، وفي القَدْر حديثُ: «مثلا بمثل». وبَيَّنُوا كيفيةَ استنباطِهم القدرَ من الأحاديث بقولهم: «ويَعني بالقدر الكيلَ فيما يُكال والوزنَ فيما يُوزن».[1] وقالوا أيضا: «فقولُه: "الحنطة بالحنطة" معناه بيع الحنطة بالحنطة التي هي مالٌ مُتَقَوِّمٌ … فالإسم يتناول الحبةَ الواحدة ولا يبيعها أحدٌ، … ولو باعَها لم يَجُز لأنها ليست بمال متقومٍ، فعُلِم ضرورةً أنَّ المرادَ الحنطةُ التي هي مال متقوم، ولا يُعلَم ماليَّتُها إلا بالكَيل، فصارت صفةُ الكيل ثابتةً بمُقتَضَى النص. وكذلك قولُه: "الذهب بالذهب" فالإسمُ قائمٌ بالذَرَّة ولا يبيعُها أحدٌ، وإنما تُعرَف ماليتُها بالوزن كالشعير ونحو ذلك، فصارت صفةُ الوزن ثابتةً بمقتضى النص، فكأنه قال: "الذهب الموزون بالذهب، والحنطةُ المَكِيلةُ بالحنطة"».[2]
وفَهِمُوا مِن حديثِ: «فإذا اختلفت هذه الأصنافُ فبِيعُوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» المذكورُ سابقا بأنَّ المواد المتحدة الجنسِ، المختلفة في وحدات القياس، أو المختلفةَ الجنسِ والتي تكون وحداتُ قياسِها الكيلَ أو الوزنَ، إذا استُبدِلت منها مادَّتان فيما بينهما وجب التعجيل.
وعلى هذا إذا استُبدِلَت خُردةٌ من حديدٍ بعَمود من حديد وَجَبَ أن يكون وزنُهما متساويًا، وأن يُعَجَّلَ التبادلُ وإلا كان ربا. أما إذا كان الإستبدالُ حديدا بنُحاسٍ اكتُفِيَ بالتعجيل وَحدَه، لأنَّ كُلاًّ منهما يُباع ويُشتَرَى بالوزن، ولإختلاف جنسيهما يجوز زيادةُ أحدِهما على الآخر، ولكن لا يجوز التأخيرُ في استبدالِهما حتى لا يُوقِعَ ذلك في الربا.
وبناءً على هذا الحكم فإن استبدال النقود المضروبة من الذهب والفضة بما يُباع بالوزن مُؤَجَّلا وَجَبَ اعتبارُه ربًا، لأن الذهب والفضة يباعان وزنا أيضا.
إلا أنَّ الحنفية رَأَوا جوازَ هذا التبادلِ وفسَّروه بقولهم: تختلف الدنانير والدراهم المضروبة من الذهب والفضة عن الأموال الأخرى المستبدلة بالوزن من حيثُ الصورةِ، لأنَّ الدنانيرَ والدراهمَ تُوزَن بوَحَداتٍ يُقال لها صَنجاتٌ،[3] بينما تُوزَن بَقِيةُ الأموال بوحدات أُخَرى يقال لها الأمناءُ.[4]وكذلك يختلف بعضُها عن بعض اختلافا معنويا؛ حيث إنَّ الدنانير والدراهم لا تتعين بالتعيين، بخلاف الأموال فإنها تتعين بالتعيين.[5] ويختلف بعضُها عن بعض من حيث الأحكام أيضا. فإذا بِيعَ دينارٌ (قطعة من ذهب) باثني عَشَرَ مَنّا من حديد مثلا؛ فللبائع الحديدُ وللمشتري الذهبُ. ولو وزن كل منهما ما عنده حيث لا يراه الآخَرُ، فإنه لا يجب في النقود إعادةُ الوزن في كل بيع، بخلاف غيرها من السلع فإنه يجب فيها إعادة الوزن حتى تباع. ولهذه الإختلافات يقولون بعدم الإشتراك بين النقود الذهبية والفضية وبين غيرها من الموزونات في الوزن من كل وجه.[6]
إنه لمن التناقض التامِّ اعتبارُ الوزن علةً للذهب والفضة لكونهما يباعان بالوزن ثم إهمالُ العلة عند تبادلهما بغيرهما من الأموال. وكان على الحنفية ألا يعتبروا الوزن علة للربا، وكان عليهم أن يقولوا بأنه لا يصح اعتبارُ الوزن علة للربا في الذهب والفضة مهما بِيعا واشتُرِيا،لكونهما يختلفان عن سائر الأموال صورةً ومعنًى وحُكمًا.
كما لا يمكن أن يكون الوزن علة للربا فإنه لا يمكن أن يكون الكيل علة له كذلك. وهذا يكفي لبيان خطأ المذهب الحنفي في نظام الربا.
وما قيل عن الحنفية يقال عن الحنابلة: وهم يقولون: «لو كانت العلةُ في أثمان الوزن لم يَجُزْ إسلامُهما في الموزونات، لأنَّ أَحَدَ وَصفَي علةِ ربا الفَضلِ يكفي في تحريم النَسيء».[7]ومن ناحية أخرى هم يقبلون الوزن علة للربا كالحنفية. فما أكبرَه من تناقض!
أما المالكية فنظروا إلى المواد المذكورة الحنطة والشعيرِ والتمرِ والمِلحِ فرَأَوا أنَّ الربا لا يكون إلا فيما يُدَّخَرُ من الأَقواتِ (المواد الستة الأساسية) أو ما يُلذِّذُ الطعامَ كالملح.
فهذه الأجناسُ إذا استُبدِلت فيما بينها مُنِعَ فيها التفاضُلُ والنَسيءُ، وإن اختلفت الأجناس جازَ فيها التفاضل دون النسيءُ.
هذا الرأي بالرغم من مخالفَته الآيةَ التي تُفَرِّق بين البيع والربا فهو منسجم مع نفسه، لأن الحنطة والشعير والتمر من المواد الغذائية الأساسية، وهي كذلك مما يدخر، والمِلح يلذذ الطعام ويدخر.
واعتبرت المالكية مقايضة جميع المواد الغذائية بعضِها ببعضٍ إلى أجل، سواءٌ كانت تُدّخَر أم لا تدخر، ومقايضةَ كلِّ شيءٍ بمِثلَيه مِن جنسه إلى أجل، إعتبرت كلَّ ذلك من ربا النسيئة.[8] وهذا مما لا يوجد له أساس في نظامهم الربوي.
أما الشافعية فيرون لفظ الربا مُجمَلاً، أي مُبهَمًا بَيَّنه النبيُّ ﺻﻠﯽ الله ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ،[9] ويَقصِدُون بالبيان الأحاديثَ المتعلقةَ ببيع المواد الستِ بعضِها ببعض.
تقول الشافعية: «الربا من أكبر الكبائر، ولم يَرِدْ تَحليلُه في أيِّ شريعة. ولم يُعلِنِ اللهُ تعالى في كتابه الحَربَ على أيِّ عاصٍ إلا على آكِلِ الربا. وتحريمُه تَعَبُّدِيٌّ، وكلُ ما أُبدِيَ له إنما يَصلُح حِكمةً لا عِلّةً».[10] والمَقصودُ بالتعَبُّديِّ ما لا يُدرَك معناه، بل يُتّبَع بمُوجب العُبوديّة مِن أمرٍ أو نَهيٍ.[11] وكيف يَجري القياسُ على ما لا تُدرَك له علةٌ مُوجِبة للحكم؟! ولكنَّهم مع هذا ذَكَرُوا للربا علتين؛ الطَعمِيّةَ والثَمَنِيّة،[12] وبَنَوا مذهبَهم على هاتين العلتين وكأنهم لم يقولوا القولَ السابق المذكور آنفاً. ومعنى الطَعميةِ كونُها من المواد الغذائية، ومعنى الثمنية كونها ذهبا أو فضة أو نقداً مضروباً من هذين المَعدنين. وفي الحقيقة يصعب فَهم هذا الرأي، إذا كان تحريمُ الربا تعبديا فلم إذن هذه العِلَلُ كلُّها؟ وإذا كانت تلك العللُ موجودةً فلم تقولون إذن بأنَّ تحريمَ الربا تعبدي؟!.
وآياتُ تحريم الربا من آخر ما نزل من القرآن كما روي عن ابن عباس. إلا أنَّ النبيَّ ﺻﻠﯽاللهﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ أَعلنَ في خُطبة الوداع أنَّ ربا الجاهلية موضوعٌ، فلا بد وأنَّ الآيات كانت قد نزلت.
ويدخل موسم الحج في الشهرِ القمري ذي الحجةِ، وفي اليوم التاسع منه يَقِفُ الحجاج بعرفة. وكانت حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة، وخطبها رسول الله بموقف عرفات. وفي صباح يوم الإثنينِ، الثانِي عشر من ربيع الأول، من سنة إحدى عشرة من الهجرة توفي رسول الله ﺻﻠﯽاللهﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ.[13] فكان قد مَضَى عن وضعِه ربا الجاهلية في خُطبته إلى وفاته ثلاثة أشهر قمرية وثلاثة أيام. عن جابِرِ بنِ عبدِ الله أنَّ رسولَ الله ﺻﻠﯽاللهﻋﻠﻴﻪﻭﺳﻠﻢ قال في خطبة الوداع: « … وربا الجاهلية موضوع، وأولُ ربا أضعه ربانا: ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله … ».[14]
والربا الموضوعُ في هذه الخطبة معروفٌ لَدَى الجميعِ، فلم يكن أحَدٌ بحاجة إلى الإستفسار. ويُمكن أن يُفهم أنَّ التحريمَ المُتَعلِّقَ بالمواد الست والذي ذَكَرَه النبيُّ ﺻﻠﯽ الله ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ في هذا الحديث لا يُشَكِّل أصلَ الموضوع، ولكنه صلى الله عليه وسلم وضع سورا  يحمي به الناس من الوقوع في الربا.



[1] المبسوط للسرخسي 12/113.

[2] المبسوط للسرخسي 12/116.

[3] السَنجة أو الصَنجة كلمة معربة من الفارسية "سنك ترزون"، جمعها صَنجات أو سنجات أو السنج. أنظر شرح الهداية مع فتح القدير لأكمل الدين محمد بن محمود البابرتي، 5/274.

[4] والمَنّ ستون ومئتا درهم (260). أنظر المعجم لعمر ناصوحي بيلمان، إسطنبول 1967، 4/126. والدرهم الشرعي 2.975 غرام والمن يساوي 774 غرام.

[5] معنى عدم تعين النقود بالتعيين أنه لا يجب دفع النقد عينِه عند شراء سلعة أو خدمة، لأن المهم ليس النقد بعينه، وإنما ما يمثله من قوة شرائية. أما غيره من الأموال فالمهم فيها أعيانُها.

[6] الهداية بشرحيها فتحِ القدير والبابرتي 5/274.

[7] المغني لابن قدامة 4/138.

[8] المقدمة لابن رشد 3/49-51.

[9] الفخر الرازي 7/99.

[10] التحفة لابن حجر الهيثمي 4/272-278.

[11] أنظر الشرواني، حاشية تحفة المحتاج 4/272، باب الربا.

[12] التحفة لابن حجر 4/273.

[13] الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري، بحث في السيرة النبوية، لبنان 1408هـ/1988م ص 431.

[14] سنن أبي داود، المناسك، 57، حديث رقم 1905.

تعليق واحد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.