حبل الله
التضخم وأثره في الديون

التضخم وأثره في الديون

التضخم وأثره في الديون

أ.د عبد العزيز بايندر

أكثر الكتب الفقهية قد ألفت في العصور التي كانت فيها الدراهم والدنانير هي النقود المتداولة، حيث كان يوجد بينها وبين النقود الورقية فرق كبير؛ فإحداهما ذات ثمنية مطلقة في العالم كله بسبب كونها ذهبا أو فضة. أما الأخرى فهي ذات ثمنية اعتبارية بسبب اعتمادها من طرف السلطة السياسية  وبقبول الناس لها نقودا يتداولونها بينهم. وكونها ذات ثمنية خارج حدود الدولة متعلق بنفوذ الدولة وعلاقاتها الدولية وكذلك قبول الناس لها.

في البداية كان للنقود الورقية رصيد من الذهب والفضة جزئيا أو كليا، وعندما لم يكن لها رصيد فإنه كان يتم التعهد بالدفع في موعد لاحق. وكان هذا يحدد مقدار النقود الورقية. أما النقود الورقية اليوم فلا رصيد لها من الذهب ولا من الفضة. وليست الخزانة أو المصارف المركزية ملزمة بدفع ما يعادلها من الذهب أو الفضة عندما تعاد إليها. لذا ليست لها ثمنية غير ثمنية الاعتبار. وتفقد ثمنيتها تماما بإلغائها من التداول.

الخصائص التضخمية للنقود الورقية

النقود لا تسد الاحتياجات مباشرة. فالنقود لا تؤكل ولا تشرب. ولكنها من أهم الوسائل في سد الاحتياجات.

النقود هي مقياس استحقاق. وبها تحدد الرواتب والأجور والديون والغرامات المالية والتعويضات في معظم الأوقات. وتنال النقود من الثقة بمعدل المحافظة على قيمتها. فالنقود التي لا تحافظ على قيمتها تؤدي إلى عدم التوازن الإقتصادي والظلم فيبتعد الناس عنها، فيحاول كل واحد أن يبدلها بما هو أكثر حفاظا على قيمته من النقود. ومن أجل ذلك قيل “إن النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة”. والنقود كلما فقدت  قيمتها  زادت سرعة تداولها، وكلما ازدادت سرعة التداول للنقود زاد النقص في قيمتها.

ولا يحدث التغير في الأسعار عموما إذا كان معدل ارتفاع النقود متساويا مع معدل ارتفاع السلع والخدمات. ولكن إذا زاد معدل أحدهما في الارتفاع عن الآخر فتزداد قيمة ما هو أقل.

وليس من السهل رفع معدل الانتاج في السلع والخدمات، لأنه يلزم الزيادة في الموظفين المدربين والمواد الخام والمواد المصنعة ونصف المصنعة والأبنية والمرتبات والمعدات والطاقة وكذلك الوقت اللازم لإنجاز مشروع ما. أما رفع معدل الإنتاج في النقود الورقية فليس صعبا، فلا يلزم فيها من الوسائل اللازمة في انتاج السلع والخدمات، كل ما يلزم هو ضبط جهاز الطباعة وإضافة الأصفار إلى الأرقام الموجودة على بنكنوت (النقود الورقية).

وحين كنت تشتري بـ 100 ليرة 10 أقلام فإنك ستشتري أقل منها إذا زاد معدل الإنتاج في النقود الورقية. فكثرة النقود في الأسواق ينعكس عليك بنقصان قيمتها الشرائية. لأنه كلما زاد مقدار النقود قلت قيمتها.

ولا تحدث هذه الحالة في العملة المعدنية.المضروبة من الذهب أو الفضة. فالعملة التي ضُربت في أغنى البلدان  متساوية في الثمنية مع التي ضربت في أفقرها.

وتكون العملة الوطنية تحت سيطرة الحكومة، أما العملة الأجنبية فتكون تحت سيطرة الدول العظمى. والحكومات والدول العظمى اليوم قد دخلت تحت سيطرة الأغنياء في ظل نظم الائتمان.

الديموقراطية التي هي أسلوب الحكم في كثير من دول العالم تملك فيها الأحزاب السياسية الحق في الوصول إلى الحكم عبر المنافسة الانتخابية. حيث يمكن للحزب الحاكم  أن ينقل أموال الدولة إلى مؤيديه حسب الحال تحت أسماء مختلفة فيصلون إلى درجة من الغنى الذي لا يستحقونه في العادة. كما أن الأغنياء المؤيدين للحزب الحاكم ينتهزون الفرص المتاحة لدى الدولة في زيادة ثرواتهم. ومن أجل ذلك نرى أصحاب الثروات والإعلام يؤيدون الحكومات أو الأحزاب ذات الحظ الأوفر للوصول إلى  الحكم.

والدولة القوية التي توفر لعملتها إمكانية التداول في جميع أنحاء العالم، تستطيع أن تشتري السلع والبضائع التي تريدها من أي دولة مقابل لفافة من الورق باعتبارها عملة. وهي تفسد التوازن بإقامة مجموعات ضغط مؤيدة لها في أماكن مختلفة حيث تؤيد دولة وتكون عدوا لأخرى. وفي نهاية المطاف فهي تسعى للسيطرة على مصالح الناس جميعا، ليصبحوا عبيدا لهم.

وخلاصة القول فإن العملة الورقية قد أخرجت النظام النقدي من أن يكون مقياس الاستحقاق وأصبح وسيلة أساسية للظلم والقهر. والذي يتحكم بمنابع العملات أصبح يسيطر على الناس وعلى الدول، ولم يبق هناك أي توازن بين الأموال والخدمات وبين الأسعار. كما أصبح الناس ينفرون من العملات الورقية ولكن لا يمكن لهم تركها لانعدام البديل عنها.

هذه هي الأسباب الأساسية للتضخم وفساد التوازن. وللتخلص من سلبيات هذا النظام فلا بد أن يترك برمته، وأن تقام العلاقات الحقوقية والإقتصادية بحسب العملات التي تمتلك قيمة حقيقية، وهذا يتطلب إجراء التغييرات اللازمة في القانون.

التكافؤ في أداء الدين

المبدأ الأصلي في أداء الدين، أن يكون الأداء بما يعادل الدين. ويطلق عليه اسم المماثلة. وهو مبدأ أساسي، لأنه لا يرضى أي أحد أن يتنازل عن حقه إلا بما يماثله. وكانت المماثلة تتحقق بمقاييس ثلاثة؛ الوزن والكيل والعدد. وعلى المدين بـ 100 غرام من الذهب أن يؤدي 100 غرام من الذهب بنفس القيراط. والمدين بالقمح يؤدي دينه بالكيل، والمدين بالبيض يؤديه بالعدد. وما زاد على هذا المقياس فهو ربا. لأن المرابي بالدين يأخذ الفضل عما يعادل الدين، وعلى هذا يقبل أن يبقى الدين عند المدين فترة من الزمن.

يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” (النساء، 4/ 29).

وعلى هذا فإن المدين الذي نقص في الأداء يعتبر أنه قد تعدى حق الدائن، وكذلك من يجبر على الفضل في الأداء يكون مظلوما.

وقد أصبحت العملات الورقية كأموال عددية على اعتبار الأرقام المسجلة عليها. لذا من كان مدينا بـ 100 دولار أمريكي يعتبر قد أدى دينه إذا دفع 100 دولار أمركي بدون أن ينظر إلى ما اعترى هذه العملة من التغيير في قيمتها في فترة الدين. والحقيقة أن العملات الورقية ليست من الأموال العددية. والأموال العددية هي الأموال الحقيقية كالبيض والجوز والبضائع المتعارف عليها في الأسواق التي لا توجد في آحادها فرق كبير.

ولو كانت العملات الورقية مالا عدديا لكان بنكنوت بقيمة دولار واحد متساويا مع بنكنوت بقيمة  100 دولار في الثمنية لأنهما متساويان في الحجم. وكذلك اختلاف 100 الليرة مع 100 دولار  في الثمنية ليس مرتبطا بالمادة التي صنعا منها.

العملات الورقية نوع من السند. يمكن الشراء بها الكثير من البضائع في الأسواق. فإنه يمكن الشراء بـ 100 ليرة اليوم مثلا؛ 10 كغم من السكر، 6 كغم من اللحم، 120بيضة، 40 خبزا. ولكن هذه البضائع المبتاعة بـ 100 ليرة قد يصبح بعد 6 أشهر 9.5 كغم من السكر، و5.7 كغم من اللحم و114 بيضة، و38 خبزا. لأن 100 ليرة قد فقدت قدرا من قيمتها.

ولا يمكن اعتبار العملات الورقية من الأموال المتماثلة. والأموال المتماثلة هي ما تقوم بها المعاملة وزنا أو كيلا أو عددا، والعملات الورقية ليست منها. فالوحدة القياسية في العملات الورقية هي قوتها في التداول.

والمعاملة التي أجريت بالعملات الورقية تعتمد على قوتها في التداول. وحين تخرج للتسوق بـ 100 ليرة تركية و 100 دولار أمريكي و 100 يورو، فإن أي شخص سينظر إليها حسب قوتها في التداول. ولكن لو أن تلك العملات كانت درهما أو دينارا كان وزنها و قيراتها هو الأساس بقطع النظر عن كونها قد ضربت في تركيا أو ألمانيا أو أمريكا. لأن قوة التداول في العملات الورقية هو الأساس فليكون في أداء الدين كذلك. وليس ثمة طريق آخر لأداء الدين من العملات الورقية بمثلها. ونذكر مثالا على هذا مما يجري في الحياة اليومية للناس.

استدان شخص من أبي 450 ليرة تركية قبل 50 سنة، ولم يسد دينه حتى الشهر التاسع من سنة  2000 حيث بدأت بكتابة هذا البحث. وقد كانت أصغر العملات الورقية رقما حينها 10.000 ليرة تركية. وكان هذا المبلغ من هبوط القيمة بمكان بحيث لا يمكنك أن تشتري به علبة من اللبن التي قد يصل سعرها إلى 25.000 ليرة، مع أنه كان يمكن شراء  75 غراما من الذهب بـ 450 ليرة سنة 1950.  لأن سعر غرام من الذهب 24 قيراط في ذلك الوقت كان 6 ليرات.

والقوانين الموجودة اليوم تقبل الدين على أنه 450 ليرة تركية. وحين أعطى أبي القرض لم يبين اليوم الذي يُسد فيه الدين ولا أي شرط من الشروط المتعلقة بالدين. ولو كان الدين 75 غراما من الذهب أو 100 كغم من القمح أو شيء آخر من غير  العملات الورقية لكان من المفروض أداء مثل المال المقترض بغض النظر عن سعره ارتفاعا أو انخفاضا، فلا يكون فيه ظلم. ولكن الدين كان 450 ليرة تركية وهي ليست من الأموال الموزونة مثل الذهب ولا من الأموال المكيلة مثل القمح ولا من الأموال المعدودة مثل البيض. فمعيار قيمتها الوحيد هو قوتها في التداول. وقد أصبح في تركيا عام 2000 أن 450 ليرة لا تحمل أي قيمة ثمنية معتبرة. ولم يعد وجود لذات النقود. والقول أن الدين الذي ينبغي سداده 450 ليرة هو بمثابة تقديم الجائزة للمدين المماطل عن الأداء. أما لو كان الأداء حسب قيمة النقود يوم الاستدانة فلن يتضرر الدائن.

وقد نص القرار الرابع لمجمع الفقه الإسلامي على النحو التالي:

“الدين من النقود الورقية،  يُدْفَع بالمثل وليس بالقيمة، لأن الدين يؤدى بالمثل، ولا يجوز ربط الدين بالأسعار بأي سبب من الأسباب”.

وهذا القرار  ليس صحيحا. والصحيح أن يكون هكذا:

“الدين يؤدى بأمثاله. والمماثلة في النقود الورقية هو اعتبار قوتها في التداول. أي تعرف بقيمتها. لذا يجب الأداء في الدين من النقود الورقية بما يعادل قيمتها.

الأدلة

يجب دفع القيمة في الدين من النقود الورقية، والأدلة على ذلك كالتالي:

قال الله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” (النساء، 4/ 29).

والذي يؤدي دينه بغض النظر عن التغير في قيمة النقود الورقية فيكون قد كسب عن طريق غير مشروع باستيلائه على ما فقدته النقود من قيمتها بمرور الوقت.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار” فأداء الدين بنفس الرقم مع فقدان القيمة بالتضخم على مر الزمن فيه ضرر على الدائن.

المصلحة العامة

دفع ما فقدته النقود من قيمتها هو من أجل المصلحة العامة. وإلا فلن يقرض أحد أحدا. كما أن المدين يحاول أن يماطل في الأداء لينتهز انخفاض قيمة النقود. والتعاون بالإقراض لمن هو بحاجة له أمر مرغوب فيه. ولكن المماطلة في الأداء بدون سبب يقتضيه يتسبب بفساد كبير بإحجام الناس عن الإقراض.

فرق التضخم والربا

إن الله جل شأنه قد أحل البيع وحرم الربا.[1] فقد قال سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ” (البقرة، 2/ 278-279).

إن الطريق الوحيد لأداء الدين من النقود الورقية بدون زيادة ولا نقصان هو اعتبار القيمة في الدين وليس العدد، وبهذا يمكن تحقيق التعادل بين النقود المقترضة والنقود المؤداة، لأن التعادل في النقود الورقية يتحقق بهذا الطريق، فلا بد من تغيير القوانين المتعلقة بهذا الأمر؛ أي أن يكون تداول النقود الورقية بحسب قوتها في الشراء وليس بحسب الأرقام المسجلة عليها، عندئذ يمكن منع الظلم الناتج عن الاقتراض بها إلى حد كبير.

تطبيق على انخفاض القيمة

طبع العثمانيون النقود الورقية مقابل الذهب، وقد انخفضت قيمة تلك النقود المسماة بـ “القائمة” على مر الزمن. وقد أصدر السلطان أمرا بتاريخ 13 من ربيع الأول سنة 1298 هجرية نص على وجوب اعتبار الانخفاض في قيمة النقود المستدانة حين سدادها، ولكن هذا الأمر لم يشمل جميع الديون. ونص الأمر كالتالي:

“القروض بالقائمة من صناديق الأيتام وما بقي في ذمة المشتري في الشراء يكون الدفع فيها حسب قيمتها التداولية بالذهب والصكة”[2]

طريق حساب الانخفاض في قيمة النقود الورقية

يمكن أن يُحسب انخفاض القيمة في النقود الورقية بحسب قيمة الذهب والفضة مع معدل التضخم. من الجدير ذكره أن الذهب والفضة قد فقدا وصفهما نقودا، وهما يعتبران اليوم سلعتين من السلع الأخرى المتبادلة في الأسواق. فيرتفع سعرهما حينا وينزل حينا آخر. على سبيل المثال في الشهور الأوائل من السنة 1980 كان سعر أوقية الذهب 850 دولارا[3] وقد نزل السعر في شهر مارس من السنة 1982 إلى 335.5 دولار.[4] ونلاحظ مما سبق أن قيمة الدولار  قد ارتفعت في غضون عامين مقابل الذهب، و في المقابل انخفضت قيمة الذهب بشكل كبير، إلا أن تقلب أسعار النقود الورقية في سوق الأسهم وانخفاض قيمتها يحدث غالبا في المدى القصير، لكن يمكن للذهب أن يحتفظ بقيمته على المدى الطويل. وطالما أنه لا يمكن اجتناب الضرر الناتج عن انخفاض قيمة النقود بسبب التضخم، فاعتبارنا قيمة الذهب في المعاملات يكون أفضل.

ومن الصعب تحديد معدل التضخم مع أن أنسب الطرق في حساب انخفاض قيمة النقود هو اعتبار معدل التضخم.

الطريق الثالث، هو اعتبار العملة الأجنبية الرائجة في الأسواق. وهذه يعتري عليها التضخم والأزمات الإقتصادية وفقا للاعتبارات السياسية والاقتصادية التي تؤثر في الأسواق الدولية؛ لأنها عملة ورقية بدون قيقمة حقيقية.

ومن الصعب وضع مبدأ شامل يمكن تطبيقه في كل مكان وزمان. فلا بد من وضع مبدأ ملائم لشروط وظروف المنطقة.

ولا يشترط الاتفاق في دفع ما انخفض من قيمة النقود، لأنه حق، لكن من الممكن أن يختلف فيه التطبيق بحسب خصائص الدين.

سداد الدين، يكون على ما كانت عليه قيمته في يوم الاستدانة، لأنه لا تتحقق المماثلة إلا بها. وبهذا لا يكن المدين قد كسب عن طريق غير مشروع، وكذلك لا يتضرر الدائن.

والذي ابتاع بضاعة في فترة كان التضخم فيها عاديا ولم يسد دينه في الوقت المحدد ، فعلى المدين دفع ما انخفض من قيمة النقود من اليوم المحدد للدفع. لأن من يحدد السعر المؤجل يأخذ بعين الاعتبار الانخفاض الذي يعتري قيمة النقود منذ عقد البيع حتى يحل وقت الدفع. ولكن إذا ارتفع معدل التضخم فوق العادة أي على شكل غير متوقع فمن العادة اعتبار هذا الارتفاع في البيع الحالي، لذا يجب على المدين دفع ما انخفض من قيمة النقود بسبب التضخم. وعلى سبيل المثال لو ارتفع معدل التضخم من 5% إلى 10%، ففي هذه الحالة يُطلب من المدين معدل القيمة المنخفضة وهي 5%.

تفقد الدخول (الرواتب والأجور)  قوتها الشرائية كلما انخفضت قيمة النقود، لذا من الضروري زيادة الأجور والرواتب بانخفاض قيمة النقود. وهذه الحالة تنطبق على البيع المؤجل. ولا تُطلب الزيادة إذا كان معدل ارتفاع التضخم عاديا وتم دفع الأجور في أوقاتها المحددة. ولكن إذا ارتفع التضخم على شكل غير متوقع فتُطلب الزيادة في دفع الأجور بحسب الارتفاع بمعدل التضخم.

آراء الفقهاء

سداد الديون بمثلها شرط أساسي، ولكن يجب  سدادها بالقيمة أحيانا. وإليكم آراء الفقهاء في ذلك.

سداد الديون بمثلها

ينقسم المال إلى قسمين: مثلي وقيمي. والأموال المثلية هي ما يوجد مثلها في الأسواق بدون فروق كثيرة في القيمة. مثل الذهب والفضة والشعير والقمح والملابس المصنوعة في مصنع معين على مقاييس معينة. والأموال القيمية هي ما لا توجد متماثلة في الأسواق، وفي حالة وجودها فثمة فروق بين آحادها. مثل الكتب المستنسخة (أي المنسوخة باليد) والمصنوعات اليدوية والحيوانات. والشيء الذي يستدان ويستهلك يعاد بمثله. والأموال التي تؤخذ للاستفادة منها لمدة معينة ليست بدين بل هي عارية.

أما الأموال القيمية والأموال التي توجد الفوارق بين وحداتها فلا يجوز فيها التداين لاستحالة وجود مثلها لأن الدين يجب إعادته بالمثل.[5]  والدين الذي يستهلك يُدفع مكانه مثله. وما يؤخذ للاستفادة منه فهو عارية وليس دينا. مثل القدوم والمنشار وما شابه ذلك.

وبحسب المذهبين الحنبلي والشافعي فإنه يجب إعادة الدين بالمثل بغض النظر عن تغير قيمته. ولا تتغير النتيجة حتى لو انخفضت قيمته انخفاضا كبيرا بحيث لم يبق من قيمته إلا القليل. لأن الأصل في الدين هو الأداء بالمثل.[6]

وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. وله لو أن شخصا استدان كغم من القمح في زمن القحط فعليه أن يؤديه بالمثل حتى لو كان الأداء في زمن الخصب. لأن مقدار الدين كان كغم من القمح لا غير. أما الأسعار لا دخل لها في الدين بخصوص الطرفين.[7]

وجميع المذاهب متفقة على أن الدين إذا كان درهما أو دينارا يكون الأداء بالمثل، وأن الفضل ربا. ولكن الخلاف بين المذاهب إذا كان الدين في الفلس[8] والمغشوش.[9]

إذا انخفضت قيمة الفلس والنقود المغشوشة فعند أبي حنيفة يكون الأداء بالمثل بدون أي تبديل. وبه قال أبو يوسف ولكن روي أن أبا يوسف غير رأيه كما سيأتي بعد قليل…

أما الشافعية فيعتبرون الفلس عروضا كباقي العروض التجارية، فالفلس عندهم بدل المبضاعة كما أن الأموال تكون بدلا في قيمة الأموال الأخرى في المبادلة. لذا يجب الأداء في الفلس بالمثل حتى لو لم يكن رائجا. أي بعد خروجه من التداول.[10]

وعند المالكية فإن الفلوس مثليات تضمن بمثلها، وهذا يعني أن الشخص إذا ترتب له على آخر فلوس أو نقد من قرض أو غيره ثم قطع التعامل بها أو تغيرت من حالة إلى أخرى، فإن كانت باقية فالواجب المثل على من ترتبت عليه، وإن عدمت فالواجب القيمة مما يظهر من النقد.[11]

وقول الحنابلة التالي أكثر وضوحا:

انخفاض قيمة النقود ليس مانعا في الأداء سواء كان الانخفاض كثيرا أو قليلا. وعلى سبيل المثال؛ إذا كان شيئا من الأموال العددية يشترى ب 10 بدانق فأصبح 20 بدنقا أو كان انخفاض القيمة أكثر من ذلك لا يتغير شيء في الأداء، أي يكون الأداء على كل حال بالمثل، لأن النقود لم يحدث فيها أي تغيير، وهو يشبه ارتفاع سعر القمح المستدان أو نزوله.[12]

ب. أداء الدين بالقيمة

وقد اتفقت المذاهب على جواز أداء الدين بالقيمة، وكل منهم ينظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة، لذا نود أن نقف على كل مذهب على حدة..

المذهب الحنفي

قال أبو يوسف من علماء الحنفية لو أن شخصا استدان كغم من القمح في وقت القحط والأسعار غالية ثم أدى بالمثل في زمن الخصب والأسعار رخيصة تحقق بذلك ظلم. ولمنع الظلم يجب الأداء بالقيمة من الجنس الآخر.

والمبدأ عند أبي يوسف: قيمة الأموال المثلية المقترضة يجب أداؤها بقيمتها في يوم الإقراض إذا زادت الأسعار أو نقصت لسبب أو لآخر.[13]

وعند أبي يوسف إذا تم المبايعة أو الإقراض بالفلس أو المغشوش ثم انخفضت قيمتهما أو ارتفعت فعلى المدين الأداء بالقيمة يوم المبايعة أو الإقراض.[14] وقول أبي يوسف هذا هو المفتى به في المذهب الحنفي.[15] وقد جاء في الفتاوى التتارخانية عن أبي يوسف أنه جوز للبائع الفسخ إذا انخفضت قيمة النقود.

وجاء في الفتاوى البزازية أن الإيجار كالبيع والدين، ودفع الزوج المهر المؤجل يكون بالقيمة في يوم عقد النكاح.[16]

المذهب الحنبلي

ذهب المذهب الحنبلي إلى “أن المستقرِض يرد المثل في المثليات، سواء رخص سعرها أو غلا، أو كان بحاله. ولو كان ما أقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه، لزم قبوله، سواء تغير سعره أو لم يتغير. وإن حدث به عيب، لم يلزمه قبوله. وإن كان القرض فلوسا أو مكسرة، فحرمها السلطان، وتركت المعاملة بها، كان للمقرض قيمتها، ولم يلزمه قبولها، سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها؛ لأنها تعيبت في ملكه”.[17]

المذهب المالكي

رأي المذهب المالكي قريب من رأي المذهب الحنبلي. إلا أن المذهب المالكي اشترط في الأداء بالقيمة استحالة وجود النقود القديمة. وإذا وجد من النقود القديمة فيجب الأداء منها. إن الأصل في ذوات الأمثال القضاء بالمثل والقيمة كالفرع فلا يعدل إليها مع إمكان الأصل. وتعتبر قيمتها وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين من العدم والاستحقاق. فلو كان انقطاع التعامل بها أو تغيرها أول الشهر الفلاني، وإنما حل الأجل آخره فالقيمة آخره. وبالعكس بأن حل الأجل أوله وعدمت آخره فالقيمة يوم العدم ولو أخره أجلا ثانيا، وقد عدمت عند الأجل الأول فالقيمة عند الأجل الأول؛ لأن التأخير الثاني إنما كان بالقيمة.

 وبعبارة ولو أخره بها بعد حلول أجلها وقبل عدمها ثم عدمت في أثناء أجل التأخير فإنه يلزمه قيمتها عند حلول أجل التأخير. وإذا تأخر عدمها عن الأجل الثاني فإن قيمتها تعتبر يوم عدمها. وهذا مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل وإلا وجب عليه مال إليه أي من المعاملة الجديدة لا القيمة لأنه ظالم.[18]

المذهب الشافعي

ويقبل المذهب الشافعي أن أداء الدين بالقيمة. و إذا انخفضت قيمة المال المثلي المقروض يلزم دفع القيمة في يوم الإقراض. وعلى سبيل المثال: لو أن شخصا اغتصب ماء لشخص آخر في الصحراء حيث الماء ذا قيمة؛ ثم أراد إعادة الماء بالمثل في مكان كثر فيه الماء أو عند النهر فلا يقبل. عليه دفع قيمة الماء في الصحراء.[19]

وجاء في المذهب الشافعي ما ينطبق مع قول أبي يوسف بـأنه إذا تم المبايعة أو الإقراض بالفلس أو المغشوش ثم انخفض من قيمتهما أو ارتفع فعلى المدين الأداء بالقيمة يوم المبايعة أو الإقراض.[20]

وهناك قول آخر للشافعي في هذا الموضوع وهو:

للمشتري الخيار في رد المبيع بظهور عيب قديم فيه وكذا للبائع بظهور عيب قديم في الثمن. وهو أي القديم ما قارن العقد أو حدث قبل القبض وقد بقي إلى الفسخ إجماعا. وآثروا الأول (ظهور العيب في المبيع) لأن الغالب في الثمن الانضباط فيقل ظهور العيب فيه. وهذا يمكن أن يكون صحيحا في عهدهم. وقالوا فيما يتعلق بالثمن:

الثمن معين أو هو يكون في الذمة. وإن كان معينا ورده انفسخ العقد، وإن كان في الذمة لا ينفسخ العقد وله بدله.[21]

والعيب عند الشافعي، هو فوات وصف يزيد في قيمته ومخالفا للقصد. وشرطه عدم وجوده في هذا المال. ولا فرق فيما إذا قارن العيب العقد أو حدث قبل القبض.[22]

وعلى هذا هل يمكن القول بأن التضخم يعتبر عيبا؟

ينقسم التضخم حسب سرعة الارتفاع إلى ثلاثة أقسام:

التضخم المجهول أو الزاحف. في هذه الحالة يكون التضخم بطيئا.

التضخم المزمن. في هذه الحالة يكون التضخم سريعا متوازنا ويستمر أطول مدة.

التضخم المفرط

وفي المذهب الشافعي لا يمكن اعتبار التضخم المجهول عيبا في نظام النقود الورقية، لأن التضخم فيه يعتبر مرضا لا مفر منه. فعلى البائع تحمل النتائج؛ لأنه يبيع في العادة وهو على علم بحالة التضخم. ولكن يبدو مناسبا دفع الخسارة الناتجة عن المماطلة من يومه المحدد للدفع. لأنه انخفاض قيمة يمنع من تحقيق الغرض.

وبناء على التعريف السابق يلزم اعتبار التضخم المفرط عيبا في النقود، فعلى المدين دفع الخسارة الناتجة عن انخفاض القيمة فوق العادة.

ونعرف مما سبق أن كل المذاهب تشترط أن يكون الأداء في الدين بالمثل وهو الأصل ويكون بالقيمة إذا تتطلب الأمر ذلك. وبهذا قد انضم مصطلح “القيمة” إلى المصطلحات الأخرى في الأموال المثلية. ونعني بالمصطلحات الأخرى الوزن والكيل والعدد.

وتعتبر القيمة هي الأصل في جميع المعاملات التي تجرى بالنقود الورقية، فتعتبر في سداد الدين إذا كان بالنقود الورقية، لأنه ما من طريق في سداد الدين بالنقود الورقية بالمثل إلا أن يكون بالقيمة. أي أن المثلية في النقود الورقية هي في القيمة لا غير. فـ 100 ليرة الحالية ليس كمثل 100 ليرة قبل سنة إلا بالأرقام المسجلة عليها التي لا قيمة لها. وهذا الرأي ينسجم مع آراء كل المذاهب ومبادئهم وهو عين العدالة فلا يظلم أحد أحدا.

قال الله تعالى: “فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ” (البقرة، 2/ 279).

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله www.hablullah.com

من كتاب التجارة والربا/ أ.د عبد العزيز بايندر

 


[1] انظر سورة البقرة الآية 275.

[2]   زيل الدستور1 صـ 2 استانبول سنة 1298.

[3] Günaydın Gazetesi, İstanbul Baskısı, Şubat 1982. جريدة تركية

[4]  Günaydın Gazetesi, İstanbul Baskısı, 9 Mart 1982. جريدة تركية

[5]  درر المختار لتيمور تاشي، المطبعة العامرة، جـ. 5، صـ . 161. (القرض)

[6]  النحفة لابن الحجر، جـ. 6 /  صـ. 21؛ المغني لاعبد الله بن قدامة – يروت، 1404 /  1984، جـ . 4 /  صـ. 396.

[7]  قاموس الحقوق الإسلامية لعمر نصوحي بلمن، جـ . 4 /  صـ. 96.

[8]  الفلس هو النقود المعدنية المضروبة من غير الذهب والفضة.

[9]  المغشوش هو النقود المضروبة من الذهب المختلط بالمعادن الأخرى أو الفضة المختلطة بالمعادن الأخرى.

[10]   النحفة لابن الحجر، جـ . 4 /  صـ. 256.

[11]  الخرشي، جـ. 5/ صـ 55.

[12]  المغني لابن قدامة، بيروت – 1404 /  1984 ، جـ . 4/ صـ . 396.

[13]  قاموس الحقوق الإسلامية لعمر نصوحي بلمن، جـ. 4 /  صـ. 96.

[14]  الفتاوى البزازية لمحمد بن محمد الكردري، (على هامش الفتاوى الهندية، جـ. 17) مصر جـ. 1 /  صـ. 510.

[15]  الفتاوى البزازية لمحمد بن محمد الكردري، (على هامش الفتاوى الهندية، جـ. 17) مصر جـ. 1 /  صـ. 510.

[16]  تنبيه الركود على مسائل النقود لابن العابدين سوريا 1301.

[17]  المغني لابن قدامة، جـ. 4 /  صـ. 396.

[18]  الخرشي، جـ. 5/  صـ. 55.

[19]  انظر، تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر، جـ. 6 /  صـ. 21 (أنظر، تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر، جـ. 5 /  صـ. 45.).

[20]  انظر، تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر، جـ. 5 /  صـ. 45.

[21]  نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج جـ. 4 /  صـ. 25.

[22]  انظر، تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر، جـ. 4 /  صـ. 357-358.

التعليقات

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.